عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى الجزائري الحسني
(1222/1808ـ 1300/1883)
قائد فذّ عبقري، وخطيب ملهم، جمع بين السيف والقلم، أوّل من أثار الضمير
الشعبي الجزائري، وبذر بذور الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، عالم الأمراء و
أمير علماء دمشق .
ولد في قرية القيطنة التابعة لوهران، من عائلة مرابطيّة كريمة مشهورة بالفضل والكرم، تنحدر من سلالة مولاي إدريس .
نشأ في حجر والده وتتلمذ عليه، وكان يترأس الطريقة القادريّة .
حفظ القرآن، وتعلم مبادئ العربيّة على أبيه، ثم قرأ على الشيخ أحمد بن
طاهر القرآن والحديث وأصول الشريعة، واستكمل فنون العلوم في وهران، فدرس
الفقه والحديث والفلسفة والجغرافيا والتاريخ، ونال شهادة حافظ .
عاد إلى بلده في السابعة عشرة من عمره، فعكف على القرآن والمطالعة، وانصرف إلى التأمّل الديني الهادئ
سافر بصحبة والده في جولة علمية إلى الديار الحجازية ودمشق وبغداد، حيث
لقي الشيوخ والعلماء أمثال: المحدث الكبير عبد الرحمن الكزبري في دمشق،
والإمام خالد النقشبندي السهروردي، والسيد محمود الكيلاني في بغداد، ومن
لقيهم من بعد في دمشق كالسيد محمود الحمزاوي، ومحمد الخاني .
وأقام في ضيافة الشيخ محمد زكريا قاضي تدمر عدّة أشهر، في طريقه إلى بغداد،
وسلك الطريقة القادريّة، ولقي الشيوخ فيها والعلماء ؛ وعاد مع والده إلى الجزائر يحمل علوم المشارقة وآدابهم .
اشتهر في صباه بشدّة البأس، وقوّة البدن، والفروسيّة ؛ بايعه رؤساء
القبائل العربيّة سنة 1248/1832 بعد أبيه على نصرة الإسلام، والذود عن
الوطن، ولقّبوه بناصر الدين، فجمع كلمتها، وخاض المعارك دفاعا عن استقلال
المغرب العربي، وانتصر في معركة وهران .
عقد مع الفرنسيّين معاهدة 1250/1834 وتفرّغ للإصلاحات الداخليّة، ونظّم
دولته على أسس إسلاميّة، ولم يعترف بسيادة فرنسا على بلاده، وكان حاكماً
جريئاً، شجاعاً، يتقدّم الجيوش بنفسه، ولا يبالي بكثرة العدو واستعداده .
نظّم مملكته إلى ثماني خلافات، وأقام جهازاً إدارياً مسلسل الرئاسات،
ونظّم القضاء، وأسّس مجلساً ثورياً، وأنشأ مصانع الأسلحة والبارود، وملابس
الجند، وجمع الزكاة، وبنى مدينة (تقدمة) وكثيراً من المعامل، وافتتح
المدارس، وضرب النقود (المحمديّة) ونظّم جيشاً قوامه عشرة آلاف جندي .
ولما أراد الاستعانة بشيوخ الطريقة التيجانيّة في طرد الفرنسيين، رفضوا
الانخراط في جيشه، تمشيّاً مع روح صوفيّتهم التي تأبى التدخل في السياسة،
فقام بعدّة حملات على مركز التيجانيّة في (عين ماضي) التي قاومت هذه
الحملات .
غدر به الفرنسيّون سنة 1251/1835 وخرقوا معاهدة (دي ميشيل) وحاولوا
التفريق بينه وبين رجاله، ولكنهم باؤوا بالفشل، واستخدموا أسلوب الحرب
التخريبيّة، بتدمير المحاصيل الزراعيّة، وتدمير المدن الرئيسيّة، وأقصوه
بعد أربع سنوات من النضال، إلا أنه لم يستسلم، والتجأ مع إخوانه إلى مراكش
سنة 1259/1843 ثم عاد إلى الجزائر، وقاد حركة الأنصار .
هزم بالخيانة شأن كل معارك المقاومة في العالم الإسلامي، فهاجمته العساكر
المراكشيّة من خلفه، فرأى من الصواب الجنوح للسلم، وشاور أعيان المجاهدين
على ذلك، وأسره المحتلون سنة 1263/1847 وأرسلوه إلى فرنسا، حيث أهداه
نابليون الثالث سيفاً ورتب له في الشهر مبلغاً باهظاً من المال، وسمح له
بالسفر إلى الشرق سنة 1268/1852 فتوجّه إلى الآستانة وحصل له الإكرام
والاحتفال من خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد، وأنعم عليه بدار في مدينة
بروسة، ثم استوطن دمشق، بعد توالي الزلازل على بروسة، سنة 1271/1855 فكان
يقضي أيامه في القراءة و الصلاة وحلقات العلم، وجمع مكتبة ضخمة، واشتهر
بالكرم ولطف المعشر، وحب العلم وأهله .
وقام بدور مشرّف عندما احتدمت الفتنة بين النصارى والدروز سنة 1276/1860
فأسعف المنكوبين، وآوى المهجّرين، واستطاع بحسن تدبيره، حماية المسيحيين
وإنقاذهم .
توجّه سنة 1281 إلى الآستانه لزيارة السلطان عبد العزيز، فاجتمع به وأهداه
الوسام العثماني الأول ثم توجّه إلى باريس ولقي نابليون الثالث .
انتسب إلى (جمعيّة العروة الوثقى) ودعا إلى رفض التقليد، واستعمال النظر.
تولّع بكتب الصوفية، خصوصاً مؤلفات الشيخ محي الدين بن عربي، وكان له
اختصاص بمعرفة تاريخ الإسلام، واشتهر بالفصاحة، وشدة البأس والفروسيّة .
وعندما طرحت صيغة الإمارة العربيّة في أجواء الحرب (الروسيّة ـ العثمانيّة)
وأجواء (معاهدة سان استيفانو) ومؤتمر برلين، لم تخرج عن نطاق المفهوم
الإسلامي للسلطة (إمارة عربية في إطار الخلافة الإسلامية) وبويع زعيماً
لهذه الحركة وأميراً مرتقباً على بلاد الشام .
وكان متعاطفاً مع الحركة الماسونيّة التي في إطار محافلها كانت تطرح طروحات الاستقلال .
وكان قد انتظم في سلك الماسونيّة بالاسكندريّة سنة 1864، وهو في طريق عودته
من الحجاز، بمحفل الإهرام التابع للشرق الفرنسي، وكان يجهر بانتسابه .
مدحته الشعراء والبلغاء، ورثته العلماء، وأرّخته الأدباء .
ألف في التصوف كتاب: (المواقف) مملوء بالقول بوحدة الوجود ـ سامحه الله ـ
على طريقة ابن عربي الفلسفية، قبس فيه كثيراً من آراء والده في كتاب (إرشاد
المريدين).
و(المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد) و(ذكرى
الغافل وتنبيه الجاهل) في الحكمة والشريعة، وهي الأطروحة التي قدّمها
للمجمع العلمي الفرنسي في أخريات سنيه، فقبل بها عضواً مراسلاً، وترجمها له
سكرتير القنصليّة الفرنسيّة في دمشق .
وكانت له قدم راسخة في الشعر، جمع شعره في ديوانه (نزهة الخاطر) ونشر زكريا
عبد الرحمن صيام (ديوان الأمير عبد القادر الجزائري) سنة 1978 .
توفي بدمشق، ودفن بالصالحيّة، إلى جانب الشيخ محي الدين بن عربي، وفي ذلك يقول الشاعر :
ذو الدار والضيف سراجا هدى فنعم رب الدار والضيف
ونقلت رفاته إلى الجزائر بعد الاستقلال، واحتفلت الأمّة احتفالاً مهيباً
بدفن رفاته، حيث اجتمع نحو نصف مليون مواطن جزائري، إلى جانب أربعين وفداً
من الأقطار العربية والصديقة، وأعضاء مجلس الثورة الجزائري، في مقبرة
الشهداء، خارج العاصمة.
ألف في سيرته أبو القاسم سعد الله في كتابه: (حياة الأمير عبد القادر) و
يحي أبو عزيز (بطل الكفاح الأمير عبد القادر الجزائري) وعمار الطالبي (عبد
القادر الجزائري) .