لا نهضة بدون القضاء على الفساد والمحسوبية
بقلم عزالدين مبارك*

نخر الفساد عظام الدولة التونسية منذ زمن الاستقلال وقد أصبح بقدوم الرئيس الهارب منظومة متكاملة ومؤسسة قائمة الذات واستشرت المحسوبية في جميع المجالات والرشوة وسياسة الاقصاء والتهميش والقهر.
فدولة الفساد كانت عائقا أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي والتوزيع العادل للثروة بين الأفراد والجهات فنتج عن ذلك ظهور طبقة قليلة العدد متنفذة ومتغولة تدور في فلك العائلة الحاكمة تسيطر على دواليب المال والأعمال كالبنوك والإدارة فتوجه القرارات والقوانين حسب أهوائها بدون رقيب وحسيب.
كما تم شراء الذمم بالإغراءات والمساومات وتدجين القضاء وهياكل الرقابة وتوظيف الكفاءات وتطويعها لخدمة المصالح الخاصة والمشبوهة.
وهذه السياسة الفاسدة والغبية والمغلفة ببهرج المديح وأبواق الدعاية أثمرت في نهاية المطاف خرابا وفقرا وتهميشا وسخطا مكبوتا أدى في نهاية الأمر إلى ثورة عارمة.
وبعد حراك وتجاذبات سياسية واندفاعات هي من طبيعة الأشياء بعد كبت سنوات الجمر تم التوافق على كتابة الدستور من قبل مجلس تأسيسي منتخب وحكومة مؤقتة تدير دواليب الدولة إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية.
لكن المتأمل للمشهد الآن يوحي بأن الصراعات الحزبية الضيقة والتجاذبات السياسية هي الطاغية وقد بدأنا نفكر بالانتخابات القادمة وبالكراسي أكثر مما نفكر في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وهي القضاء على الفساد والمحسوبية ورفع المظالم وإيجاد شغل للمعطلين ومداواة جرحى الثورة ومحاسبة الفاسدين والمجرمين. أما المشاكل الأخرى وذات الصبغة الهيكلية فهي من مشمولات الحكومة القادمة.
فعلى المجلس التأسيسي كسلطة منتخبة شعبيا أن لا يكتفي بالتفرج والمباركة وأن يتدخل في تصويب الاتجاهات والاختيارات الحكومية متى حادت عن أهداف الثورة والمرحلة وقد كان من الأجدى تحديد هذه الأهداف بدقة في صيغة قانون ملزم قبل شروع الحكومة في عملها.
كما على الحكومة أن لا تستهين بالمجتمع المدني ونقده ما دامت تنادي بالديمقراطية وأن لا تعيد مساوئ العهد البائد بأن تكمم الأفواه وتضيق على الحريات المدنية المتمثلة في التظاهر السلمي والاحتجاج وحرية التعبير والصحافة ، فهذه أركان أساسية لا يمكن المساس بها إذا أردنا القطع مع الماضي والتطلع إلى دولة المواطنة للجميع.
كما يجب على أفراد الحكومة النأي على التداخل بين أطروحات ومطابخ الأحزاب و كيان الدولة الذي يخضع بالضرورة لمبدأ التجرد والشفافية والنزاهة والعدالة والكفاءة بعيدا عن الموالاة والمحسوبية.
وحتى لا نقع في أخطاء العهد البائد المؤسس على الفساد والمحسوبية يجب تحييد الإدارة والقضاء والتعليم والمؤسسة الأمنية والعسكرية من الأصول الحزبية لكل حكومة لأن هذه المؤسسات في خدمة الشعب وجميع الأحزاب فلا يمكن توظيفها في خدمة حزب بعينه وتطويعها من أجل مصالح فئوية ضيقة.
فالتعيينات بهذه المصالح تكون عن طريق مناظرات تنظمها جهات أكاديمية مستقلة وشفافة بعيدا عن التدخلات الحزبية والحكومية فنبتعد بذلك عن الشبهات والمحاباة والصراعات الاجتماعية.
فالفساد يبدأ بالتعيينات حسب الولاءات الحزبية والمحسوبية في الأماكن الحساسة فلا نجد صوت النقد والمعارضة والاحتجاج بما أن الطاعة العمياء هي الأساس في التمكن من المنصب وليس الكفاءة.
كما لا يمكن أن ننسى أن الدولة هي في خدمة المجتمع والشعب ولا يجب أن تتعالى عليه وتتهرب من محاسبته لها وأن أي حكومة لا يمكنها أن تنجح بدون القضاء على الفساد والمحسوبية فتلك هي مهمتها الأساسية خاصة بعد ثورة جاءت من أجل هذه الأهداف.
والدولة ككيان مستقل وثابت في مركزه القانوني تبتعد بمسافات عن الحراك الحزبي المتغير حسب التحالفات والظروف فلا يمكن جرها إلى مربع التجاذبات السياسية ونوازع الأفراد ونزواتهم الذاتية وهي بالضرورة منحازة للضعفاء والمهمشين فحري بنا أن نصون هذا المبدأ وأن لا نستعمل مقدراتها وقوتها ضد قمع هؤلاء وترك الفاسدين والمجرمين بدون محاسبة ومساءلة.
*كاتب وشاعر