منتديات الجزائر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الجزائردخول

منتديات الجزائر


description بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر  Empty بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر

more_horiz
بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر
بقلم: عبد القادر خليفي

وضعية التعليم في الجزائر قبيل مجيء الفرنسيين

لم يكن العثمانيون يهتمون في الجزائر بميدان التعليم, فلم تكن لهم وزارة للتعليم، ولا أية مؤسسة مكلفة بهذا القطاع. بل تُرك الميدان مفتوحا للأفراد والجماعات يقيمون ما يشاؤون من مؤسسات دينية أو تعليمية.

وقد قامت بهذا الدور الزوايا والمساجد, التي كان يتعلم بها أبناء الجزائريين اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم, إلى جانب علوم أخرى كالعلوم الشرعية وقواعد اللغة والنحو والسير والأخبار وغير ذلك.

وإلى جانب هاتين المؤسستين, كانت العائلات تقيم المدارس لأبنائها في القرى والدواوير, وتكلف معلمين بتعليمهم وتوفر لهم كل وسائل عيشهم.

وهكذا كان انتشار التعليم خلال العهد العثماني انتشارا طيبا، حتى غطى المدينة والقرية والجبل والصحراء.(1) ويعترف الجنرال "فاليزي" عام 1834م بأن وضعية التعليم في الجزائر كانت جيدة قبل التواجد الفرنسي, لأن "كل العرب (الجزائريين) تقريبا يعرفون القراءة والكتابة, إذ تنتشر المدارس في أغلبية القرى والدواوير."(2)

ومما يؤكد المستوى التعليمي الذي كان سائدا في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي, والذي يعود الفضل فيه إلى الزوايا والأفراد, ما صرح به "ديشي" –المسؤول عن التعليم العمومي في الجزائر- في قوله: "كانت المدارس بالجزائر والمدن الداخلية, وحتى في أوساط القبائل كثيرة ومجهزة بشكل جيد, وزاخرة بالمخطوطات. ففي مدينة الجزائر هناك مدرسة بكل مسجد, يجري فيها التعليم مجانيا, ويتقاضى أساتذتها أجورهم من واردات المسجد, وكان من بين مدرسيها أساتذة لامعون تنجذب إلي دروسـهم عرب القبائل..."(3)

2-الطرق المستعملة لتطبيق السياسة الفرنسية اتبع الفرنسيون أسلوبين في ذلك هما: محاربة اللغة العربية وإنشاء مدارس فرنسية.

محاربة اللغة العربية:

رأى الفرنسيون أن اللغة العربية هي إحدى أبرز مقومات الشخصية الجزائرية, وأن بقاء هذه اللغة، يعني بقاء الشخصية الوطنية للجزائريين, التي تناقض حضارتهم وتعرقل أهدافهم ومشاريعهم, لهذا عملوا للقضاء عليها بمختلف الطرق ولتفكيك المجتمع الجزائري وفصله عن ماضيه ليسهل ضمه وابتلاعه.

وكانت الميادين التي خاضتها السلطات الفرنسية للقضاء على اللغة العربية هي ثلاث:
-المدارس
-الصحافة
-الكتب والمخطوطات

- المدارس:

استولى الفرنسيون على بعض البنايات المدرسية، بدعوى استغلالها وفق حاجاتهم, وحولوها إلى مكاتب إدارية مدنية أو عسكرية.
وهناك مدارس اضطرت إلى غلق أبوابها بعد مقتل معلميها في المعارك, أو لهجرتهم إلى مناطق آمنة بعيدة, داخل الوطن أو خارجه.
ذلك أن السلطات الفرنسية كانت تَعتبر المعلم الجزائري خطراً يجب محاربته لأنه الحامل والحافظ للمقومات الشخصية للشعب الجزائري.

لهذا عملت على غلق الكثير من المدارس وطرد معلميها, لتحويل المجتمع الجزائري إلى مجتمع أمي, وسنّت قانونا يمنع تنقل الأشخاص من مكان لآخر بدون رخصة, فكان ذلك عقبة في وجه طلبة العلم الذين يتنقلون بهدف اكتساب العلم والمعرفة في الداخل والخارج. "وباسم سياسة الدمج ثم العلمنة حُددت المدارس القرآنية بدقة, وروقبت مدارس الزوايا وأغلقت وأزعجت... وتناقص عدد معلمي القرآن-درارين- والمدرسين (الآخرين), ومنذ ذلك الحين تقهقرت معرفة اللغة العربية الأدبية, إذ كانت لا تكاد تدرس..."(4)

كما مُنع فتح المدارس العربية وبخاصة منذ صدور قانون 18-10-1892 الذي يقضي بعدم فتح أية مدرسة إلا برخصة من السلطات الفرنسية, ولكي تُسلم هذه الرخصة تم وضع عدة إجراءات منها:
-الاستعلام عن صاحب الطلب, أي معرفة كل ما يرتبط بحياته وانتماءاته.
-قبول عدد محدود جدا من التلاميذ في هذه المدارس.

وفي سنة 1904 صدر قانون يمنع فتح أية مدرسة لتعليم القرآن إلا برخصة من السلطات, وإذا ما سمح بفتحها تبعا للشروط السابقة فإنه يمنع عليها تدريس تاريخ الجزائر وجغرافيتها(5).

جاء في أحد التقارير الفرنسية (لجنة القروض الاستثنائية سنة1847): "لقد تركنا المدارس تسقط وشتتناها, لقد أُطفأت الأنوار من حولنا, أي أننا حولنا المجتمع المسـلم إلى مجتمـع أكثر جهلا وبربرية مما كان عليه قبل معرفتنا."(6)

وفي المدن الكبرى منع تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم, أما في الجهات التي لم تمس فيها مدارس القرآن البسيطة, فقد منع عليها فتح أبوابها خلال أوقات عمل المدارس الفرنسية, حتى لا تمنع عنها التلاميذ.

وعندما استولت سلطات الاحتلال على الأوقاف حَرمت المساجد والمدارس من موردها الأساسي الذي كان يمونها, فتضاءل مردودها, ثم انعدم في جهات كثيرة, إلا في الحالات التي تدخَّل فيها السكان للتكفل بحاجيات المعلم الذي أصبح يتعاقد مع القبيلة أو الدوار فيما يدعى: "مشارط".

- الصحافة:

استطاع بعض الجزائريين أن يحصل على نصيب من التعليم خلال العهد الاستعماري, فقام بعضهم بإصدار صحافة ناطقة بالعربية ذات ميول دينية ووطنية متماشية مع مصالح السكان الجزائريين المسلمين. فكان رد السلطات الفرنسية هو متابعة هذه الصحافة بالتضييق أو الغلق تحت ادعاءات وذرائع مختلفة.

- نهب الكتب والمخطوطات الجزائرية:

في الوقت الذي كان التوسع العسكري على أشده في مختلف جهات الوطن الجزائري، كان الفرنسيون من مدنيين وعسكريين يستولون على ما تحتويه المكتبات العامة والخاصة في المساجد والزوايا والدور. وقد لقيت مكتبة الأمير المصير نفسه بعد سقوط عاصمته المتنقلة "الزمالة" سنة 1843. وتلت هذه العملية، عمليات نهب وسطو على مختلف المخطوطات في مختلف المجالات. وكان الكثير من الفرنسيين, من صحفيين وعسكريين أو هواة أو غيرهم يتنقلون بين المدن والقرى وفي المؤسسات الثقافية يجمعون هذه الكنوز الثمينة بطريقة أو بأخرى لدراستها أو بيعها لدور الوثائق والمخطوطات في فرنسا نفسها أو غيرها من البلاد الأوربية.

إنشاء مدارس فرنسية:

عرف الفرنسيون أن تعليم لغتهم لأبناء الجزائريين هو السبيل السهل للسيطرة عليهم, لهذا دعا الكثير من عسكرييهم ومدنييهم إلى الاهتمام بتعليم الأهالي اللغة الفرنسية, ومن أشهر هؤلاء نجد الجنرال بيجو الذي كان يرفع شعار: السيف والمحراث والقلم, وكان الدوق دومال هو أيضا من المطالبين بهذا, حيث يقول: "إن فتح مدرسة في وسط الأهالي يعد أفضل من فيلق عسكري لتهدئة البلاد."

لهذا قاموا بفتح مدارس لتعليم اللغة الفرنسية بهدف القضاء على ما يسمونه بالتعصب الديني, وغرس الوطنية الفرنسية في أذهان الناشئة, وتسهيل التآلف مع الأوربيين وكسب الأجيال الصاعدة إلى جانبهم ليخدموا مصالحهم بين مواطنيهم.

لم يكن هدفهم نشر التعليم لترقية المجتمع الجزائري, بل كان التعليم بسيطا أوليا, كي لا ينافسهم هؤلاء أو يُعَرِّضوا وجودهم للخطر, "أي أنه كان في حدودٍ ضيقة للغاية, حتى يبقى الجزائريون أسرى الجهل والأمية, كي يمكن استغلالهم على أوسع نطاق ممكن"(7).

في هذه المدارس يتعلم الطفل اللغـة الفرنسيـة وقواعدها والتاريخ الفرنسي والحضارة الأوربية فينشـأ محبًا لها, يَعتبر نفـسه جــــزءً منها "Nos ancêtres les gaulois", ولكن لم يكن يسمح لهؤلاء بإكمال تعليمهم, كما أن الكثير منهم كان يضطر إلى ترك المدرسة بسبب الفقر الذي كانت تعيشه الأسر الجزائرية. وإذا كان التعليم الابتدائي إجباريا على أبناء الأوربيين فإنه ليس كذلك بالنسبة لأبناء الجزائريين.

وقد تم فعلا تكوين فئة من الجزائريين، خدموا في المؤسسات الرسمية الفرنسية كمترجمين وقضاة وكتّاب إداريين بسطاء وغير ذلك.

وفي منتصف القرن التاسع عشر أنشئت مدارس إسلامية (شرعية), ليس فيها من العربية إلا القشور, بهدف تكوين طوائف من الموظفين الدينيين في محاولة لمنع التلاميذ من الذهاب إلى الجامعات الإسلامية في الخارج، كالزيتونة والقرويين والأزهر, وقد وُضعت هذه المدارس تحت إشراف ضباط عسكريين يخضعون للحاكم العام.

لقد كانت هذه المدارس "وسيلة أخرى لتجنيد الجزائريين إلى جانب الإدارة الفرنسية... ليكونوا مطية في تولي الوظائف القضائية والدينية... وقد أثمرت الجهود فأخذ الفرنسيون يعينون, منذ منتصف الخمسينيات, من خريجي المدارس التي أنشئوها."(8).

وقد تتبع المثقفون الفرنسيون أعمال هذه المدارس، ليعرفوا مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المسطرة, وانتقد بعض المستشرقين النتائج المحصل عليها, ورأوا أنه قد ارتكبت أخطاء لابد من إعادة النظر فيها, ومراجعة البرامج, وقد تم إصلاح التعليم فيها عدة مرات ليقوم بالدور المنوط به أحسن قيام.

كما اهتمت الكنيسة بالتعليم في الجزائر منذ سنة 1838 وفتحت مدارس ابتدائية تحت سلطتها, وفي عقد الستينيات وبخاصة بعد كارثة المجاعة التي أصابت الحرث والنسل, قام الكاردينال "لافيجري" بتأسيس جمعية "الآباء البيض", التي انتشرت في شمالي إفريقيا, تفتح المدارس والمصحات ومراكز التكوين المهني للتوغل بين السكان, في محاولة لتقريبهم من النصرانية إن لم تستطع تنصيرهم كليا, وقد جذبت إليها أعداداً هامة من الأطفال في المدارس, واهتمت بالبنات في مراكز التكوين المهني, وقدمت الدواء للمرضى والمشردين والعجزة, تحت ستار المساعدة والأعمال الخيرية, بينما كان الهدف تنصير الجزائريين "بالتعليم ذي البرنامج التمسيحي الصريح، أو برنامج لهدم العقيدة والأخلاق الإسلامية, وبث التقديس للأمة الفاتحة، ولحضارتها وثقافتها."(10)

وقد اشتركت في هذه الأعمال مدارس المبشرين والمدارس العمومية الأخرى على السواء، لتفكيك تماسك الأسرة الجزائرية عن طريق تربية دينية تخالف تعاليم أسرهم المتوارثة.

وقد كان هناك تيار معارض لتعليم الأهالي وبخاصة من قبل المعمرين في الجزائر وفي فرنسا نفسها. وكان المعمرون أكثر تشددًا في هذا المجال, إذ أنهم كانوا يرون أن تعليم الجزائريين يعني نشر الوعي بينهم ليخرجوا للمطالبة بحقوقهم كمواطنين, فينافسون الأوربيين ويشاركونهم السلطة والنفوذ.

وبدلا من ذلك طالبوا بتعليم أبناء الفلاحين تعليما فلاحيا "Ecoles Fermes" لخدمة مصالحهم ومصالح المستعمرة, لتكوين يد عاملة محلية رخيصة لمواجهة اليد العاملة الأوربية، التي تطلب أجورا أعلى, وإبقاء الجزائريين في الأرياف بعيدا عن الحواضر, حتى لا ينافسوا الأوربيين في الوظائف, إذا ما تابعوا التعليم العادي. )11(

3 -أهداف الفرنسيين من سياستهم التعليمية:
أ-دعوى نشر الحضارة
ب-الإدماج

أ-دعوى نشر الحضارة:

لقد تم رسم سياسة أوربية مشتركة، مؤداها أن الغرب, باعتباره مشروعا حضاريا, عليه أن ينقذ الأمم التي هي دونه تحضرا بمساعدتها على الارتـقاء إلى درجة المدنية في تجلياتها العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هكذا أدعى الفرنسيون أنهم جاؤوا لنشر الحضارة والتمدن بين أوساط الشعب الجزائري المتخلف, والذي يعيش حياة جمود وخمول, أي أن فرنسا جاءت إلى هذه البلاد وهي تحمل رسالة حضارية "وأنها بهذا العنوان تتحمل مسؤولية التنوير والتحرير والتقدم. وكان مدنيوها وعسكريوها ورجال دينها ومستوطنوها يرددون هذا الشعار آناء الليل وأطراف النهار..."(12)

وعندما جهز الفرنسيون الحملة العسكرية على الجزائر سنة 1830 أفهموا بقية الأوربيين أنهم ذاهبون للقضاء على القرصنة الهمجية, التي هي النقيض للتحضر والتمدن.

وقد وعد الجنرال قائد الحملة الفرنسية الشعب الجزائري بالقضاء على النظام الدكتاتوري التركي, واستبداله بنظام ديموقراطي عادل, يسمح للناس بالدخول إلى عالم أكثر عدلا وتفتحا وتحضرا.

لقد ادعى الفرنسيون أن استعمالهم للتعليم هو من أجل إخراج الأهالي من ظلمات الجهل والبربرية إلى نور العلم والمدنية, وتحبيب الحضارة الغربية لدى الناشئة. وأخَذَ المعلم الفرنسي دور الريادة في هذا المجال, لإبراز مزايا الحضارة الغربية وتوجيه الجيل الجديد للامتثال بالأوربيين، والتنصل من تراثهم الذي ينتمي في نظرهم إلى أمة متعصبة. وقد اتضح للفرنسيين أن التعليم هو السبيل الأول للتآلف معهم, وبواسطة هذا التعليم يمكن "تكوين عناصر قيادية, تعمل على تثبيت وجودهم والعمل تحت سلطتهم... تقوم مقامهم ليكون الجزائريون أتباعا وعبيدا للأسياد, يحترمون الحضارة الأوربية ويتبعونها."(13)

وقد وظف الاستعمار كل إمكانياته، من أجل الإستراتيجية الاستعمارية لإظهار غموض تاريخ الشعب الجزائري، وفقر إسهاماته الحضارية وسلبيتها, وفي المقابل أظهر للمتعلمين قوة الحضارة الأوربية وعظمتها, ووجوب تقليدها والعمل على منوالها.

الإدمـاج:

كانت السياسة العامة لفرنسا هي إلحاق الجزائر بفرنسا أرضا وسكانا, تحت شعارات متعددة, منها: أن "البحر الأبيض المتوسط يقسم فرنسا كما يقسم نهر السين مدينة باريس", أو: "من دانكرك إلى تامنراست". وإذا كان إلحاق الأرض سهلا -وتم بعد الانتصار العسكري ميدانيا-فإن دمج المجتمع الجزائري هو العقبة الكأداء.

كان على الفرنسيين إتباع أساليب مختلفة لتحويل هذا المجتمع ليصبح أوربيا أو ملحقا بالأوربي. وكان لابد من اتباع سياسة الفرنسة والتنصير لإذابة الشعب الجزائري في الكيان الفرنسي. فقد جعلت السلطات الفرنسية من اللغة الفرنسية وسيلة لتحقيق الغزو الفكري والروحي للشعب الجزائري، استكمالا لاحتلال الأرض. وبهذا كانت "الهيمنة الثقافية, وهي أشد ما تكون مكرا وخداعا, لا يمكن إلا أن تكون أشد ضررا وأكثر فسادا, وأعمق أثرا من السيطرة السياسية والعسكرية:(14)

لقد كان تأسيس المدارس من قبل السلطات الفرنسية يهدف إلى دمج المجتمع الجزائري المسلم بالمجتمع الفرنسي, والقضاء على مقدسات الشعب الأساسية، عن طريق نشر اللغة الفرنسية، والقضاء على اللغة العربية, ذلك ما صرح به أحد الضباط الفرنسيين "روفيغو" في رسالة نشرها "فيرو" في كتابه "المترجمون في الجيش الفرنسي", حيث يقول: "إن إيالة الجزائر لن تكون حقيقة من الممتلكات الفرنسية إلا بعد أن تصبح لغتنا لغة قومية فيها, وحتى تتأقلم فيها الفنون والعلوم التي يقوم عليها مجد بلادنا... والمعجزة التي ينبغي تحقيقها هي إحلال اللغة الفرنسية محل اللغة العربية تدريجيا, ومتى كانت اللغة الفرنسية لغة السلطة والإدارة فإنها سوف لا تلبث أن تنتشر بين الأهالي, ولا سيما إذا وجدت مدارسنا إقبالا من الجيل الجديد."(15)

وقد كوّن الفرنسيون في هذه المدارس فئة مدجنة، تعمل على تثبيت وجودهم ونشر سلطتهم بين أوساط الشعب الجزائري, بعد أن فشلوا هم في كسب ثقته مباشرة. وهاهو أحد الفرنسيين Fellman يتساءل عن السبب من إنشاء هذه المدارس من قبل السلطات الفرنسية في الجزائر، ويجيب عن ذلك فيقول: "إن الغاية ليست لتكوين موظفين مختصين... وليس لتكوين مدرسين للتعليم العمومي, كما أنه ليس من أجل تعليم العربية للفرنسيين، ولا من أجل تعليم الفرنسية للعرب, لماذا إذن كل هذه الجهود وهذه العناية؟ إنها من أجل تكوين رجال يكون لهم تأثير على مواطنيهم, يساعدوننا على تحويل المجتمع العربي وفق متطلبات حضارتنا."(16)

وفي إطار سياسة فرق تسد, ومن أجل الوصول إلى نتائج أسرع, ركز الفرنسيون جهودهم على منطقة القبائل, وظهرت كتابات عديدة منذ السنوات الأولى للاحتلال, مؤداها أن سكان هذه المنطقة هم أقرب إلى الأوربيين منهم إلى العرب, وعليه يجب فرنستهم وإعادتهم إلى النصرانية التي كانت سائدة بينهم خلال العهد الروماني(17).

وفي 12 فيفري 1873 اقترح الضابط العسكري قائد دائرة أربعاء ناث إيراثن في تقريره للحاكم العام دي قيدون De Gueydon مخططا لفرنسة المنطقة, يتضمن إلغاء المدارس "العربية الفرنسية" نهائيا, وخلق مدارس بلدية فرنسية, واستعمال كل الوسائل لإبعاد تأثير الزوايا، من أجل جعل المنطقة تحت السلطة الكاملة للفرنسيين.)18(

وقد مَنح الحاكم العام هذا كل التسهيلات للكاردينال لافيجري، من أجل فتح مدارس حرة في هذه المنطقة. وهكذا أنشأ الآباء البيض مدارس عديدة في المنطقة, ودعا بعض القساوسة الحاكم العام إلى أن تتولى الحكومة العامة نفسها الإشراف على هذه المدارس.

وبعد شد ورد فيمن يتكفل بهذه المدارس, هل هي البلديات أم الحكومة العامة أم الوزارة, صدر مرسوم 9 نوفمبر 1881, الذي قرر إنشاء ثمان مدارس في منطقة القبائل تابعة لوزارة التعليم الفرنسية.)19 (

وقد تخرج فعلا من هذه المدارس المختلفة جزائريون تِباعا, مختصون في الصحافة والتعليم والترجمة والقضاء والإمامة وغيرها, أي أن تلك الدراسات لم يكن التعليم بها "تثقيفيا بل لتحضير بعض الإداريين والمترجمين في الإدارة الجزائرية قصد التعجيل بالاندمـاج."(20)

لقد كان الإدماج معناه جعل الجزائريين متساوين مع الأوربيين في كل المجالات, والتمتع بحق التعليم وتولي الوظائف، بالطرق التي يخولها القانون الفرنسي أصلا, وأن يكون إقليم الجزائر جزء من الأراضي الفرنسية، منقسم إلى مديريات ومقاطعات، بالتقسيم نفسه الذي تخضع له الأراضي الفرنسية.

ونظرا لمعارضة المعمرين، وبعض الساسة الفرنسيين, لم تطبق سياسة الدمج الكاملة بين الجزائريين والفرنسيين, بل طبقت عليهم سياسة عنصرية، كان الهدف منها القضاء على العنصر الأهلي، أو طرده نحو الأراضي الفقيرة والصحراوية لأنه منحط ومتخلف.

كما طبقت عليه سياسة سميت بقانون الأهالي الذي صدر بعد اندلاع مقاومة 1871 ووسع مجاله بعد اندلاع مقاومة 1881 طبقا لقانون 28/6 الذي أعقبه إنشاء المحاكم الردعيةTribunaux répressives بناء على مرسوم 29-3-1902 وقد أدت السياسة الفرنسية إلى تغيير أسماء بعض المدن والقرى, إلى جانب تسمية الشوارع بأسماء فرنسيين كان لهم البون الكبير في إخضاع الجزائر واحتلالها, كما أن السجل المدني الذي أنشئ سنة 1882أفضى إلى تزويد الجزائريين بألقاب جديدة لزمتهم آخر الأمر (21).

4 -نتائج هذه السياسة

استطاعت المدرسة الفرنسية, عن طريق سياستها التعليمية, التي شوهت تاريخ الجزائر, وقدمت التاريخ الفرنسي على أنه التاريخ الوطني, أن تكوّن فئة من الجزائريين انفصلت عن شعبها, وتنكرت لأمتها, واندمجت في الحضارة الأوربية, وتجنست بالجنسية الفرنسية, ودافعت عنها دفاعا مستميتا, وبخاصة منذ مطلع القرن العشرين.

ورغم هذا فإن هذه الفئة التي دعيت بـ "النخبة" لم تجد مكانها بين الفرنسيين, لأن هؤلاء لم يكونوا ينظرون إليهم كفرنسيين حقيقيين, بل كرعايا أو مواطنين من الدرجة الثانية, ولهذا قام هؤلاء يطالبون بالمساواة, لأنهم كانوا يؤمنون "بالتقارب مع الفرنسيين والاندماج مع الجزائريين, وقد مثل هذا التيار جيل من الشباب منهم: أحمد بن بريهمات ومجدوب بن قلفاط وربيع الزناتي وسعيد الفاسي ومحمد صوالح وعباس بن حمانة وأحمد بوضربة وبلقاسم بن تهامي والشريف بن حبيلس ومحمد الصالح بن جلول وفرحات عباس ونحوهم ممن آمنوا بالأبوة الفرنسية."(22)

أما بقية أفراد الشعب الجزائري وأغلبية أطفاله، فإن فشل الفرنسيين كان واضحا, رغم الجهود التي بذلها المعلمون في مختلف الأوساط، بدعم من ضباط المكاتب العربية, الذين حاولوا التقرب من السكان، فوزعوا الملابس على التلاميذ الفقراء، ووفروا حاجيات المدارس المختلفة, وأعطوا الجوائز للمتفوقين منهم, وأخذوهم إلى المسارح للترويح عن النفس، والتأثير عليهم.

لقد كانت الاستجابة جد هزيلة بين الجزائريين، رغم كل المغريات, ولم يخف أحد الجزائريين تأسفه أمام أحد الموظفين الفرنسيينMasquerdy عن تلك المدارس التي كانت تعلم سيدي خليل(23) , لأن الجزائريين اعتبروا ذهاب أبنائهم إلى تلك المدارس مسخا لشخصيتهم العربية الإسلامية, وأن ذلك سيؤدي بأبنائهم إلى المروق عمن حوزة الدين، وامتزاجا بالفرنسيين "الكفار" وبأخلاقهم. كما أن قلة الوسائل المادية للجزائريين، جعلتهم ينقطعون أو لا يلتحقون أصلا بهذه المدارس من جهة أخرى. ثم إن الفرنسيين أنفسهم لم يكن من أهدافهم أن يحصل التلميذ الجزائري على تعليم كاف شاف لمستقبله.

وأما الذين التحقوا بهذه المدارس فلم ينقطعوا عن متابعة دروس حفظ القرآن في الكتاتيب المنتشرة في كل مكان، وتحت كل الظروف. حيث كانوا يحاولون التوفيق بين المدرسة الرسمية الفرنسية من جهة، وبين مدرسة تحفيظ القرآن من جهة أخرى, فيذهبون إلى المدرسة القرآنية في الصباح الباكر, ويعودون إلى بيوتهم قبل الساعة الثامنة لتناول فطور الصباح, ثم يتجهون إلى المدرسة الرسمية الفرنسية التي يقضون بها طول النهار, وقد يعودون ثانية إلى المدرسة القرآنية مساء. أما أيام العطل المدرسية فيقضونها في مدارس حفظ القرآن.

وقد تحمل الجزائريون نتيجة لذلك الإمتاع كل العواقب المتمثلة في الطرد من أراضيهم، أو الخسارة في أموالهم. لقد تقوقعوا واحتضنوا تراثهم المتمثل أساسا في اللغة العربية والدين الإسلامي، وشدوا عليها بالنواجذ, إلى أن بدأت بوادر النهضة الثقافية تبرز إلى الوجود مع مطلع القرن العشرين, وبرز علماء جزائريون، تزعموا هذه الحركة, وكانوا النواة التي ستتفتح في شكل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

وهكذا لم يستطع الاستعمار الفرنسي القضاء على الثقافة الوطنية للشعب الجزائري "لأنها لم تكن مجرد بقايا وآثار لبنى ثقافية قديمة شعبية, بل كانت ولا تزال ثقافة عالمة, حية لغة وأدبا ودينا وفكرا, متغلغلة في العقل والشعور, في الفكر والسلوك."(24) لا تني تدافع عن نفسها بكل ما أوتي حاملوها من صبر وجلد، ومن خلال المقاومات الشعبية المسلحة أولا، ثم الحركة الوطنية لاحقا. وما واكب ذلك من حفاظ على أهم مقومات الشعب الجزائري وهي اللغة العربية والدين الإسلامي.

الهوامـش:
1-أبو القاسم سعد الله, تاريخ الجزائر الثقافي, ج:1, المؤسسة الوطنية للكتاب, الجزائر 1985, ص:315.
2-Charles Robert Ageron, Les algériens musulmans et la France, Presses Universitaires de France, Paris, 1968, P 318.
3-عبد الحميد زوزو, نصوص ووثائق في تاريخ الجزائر المعاصـر(1830-1900), المؤسسة الوطنية للكتاب, الجزائر, 1985, ص: 206.
4-شارل روبير أجيرون, تاريخ الجزائر المعاصرة, ديوان المطبوعات الجامعية, الجزائر, 1982, ص:106 و107.
5.تركي رابح, الشيخ عبد الحميد بن باديس فلسفته وجهوده في التربية والتعليم, الشركة الوطنية للنشر والتوزيع, الجزائر 1970, ص: 151.
أنظر:
Charles R. A.. IBID, P 318, selon Tocqueville, Œuvres 6-Complètes, T 3, Paris, P 323.
9-تركي رابح, التعليم القومي والشخصية الجزائرية, الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر,1981, ص:98.
10-أبو القاسم سعد الله, تاريخ الجزائر الثقافي, الجزء الثالث, دار الغرب الإسلامي, بيروت 1998, ص: 375.
- كان التلميذ يدرس فيها ثلاث سنوات, وفي سنة 1944 تحولت إلى ثانويات (متوسطة وثانوية), وفي سنة 1951 أطلق عليها اسم: Franco-Musulmans.
11-المرجع نفسه, ص: 375.
12-علال الفاسي, نشاط المبشرين ودوره الاستعماري, محاضرة في ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي, تيزي وزوو 1973.
13-عبد القادر حلوش, الكولون الفرنسيون والتعليم الفلاحي في الجزائر مجلة عصور, العدد 2, ديسمبر 2002.
14. أ. سعد الله, المرجع السابق, ص: 280.
15- عبد القادر حلوش, سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر, شركة دار الأمة الجزائر 1999, ص: 64.
16- بوعلام بسايح, الثقافة الإفريقية: طموحات ومتطلبات, مجلة الثقافة العدد96, ديسمبر 1986.
17- إسماعيل العربي, الدراسات العربية في الجزائر, المؤسسة الوطنية للكتاب, الجزائر, 1986, ص:10 و11.
18- أنظر: -Yvonne Turin, Affrontements Culturels dans L' Algérie Coloniale, ENAL, Alger 1971, P 73.
19-أنظر:-Charles R. A. IBID, P 269 a 27
20-أنظر المرجع نفسه, ص: 332.
21-المرجع نفسه, ص:335.
20-أ. سعد الله, الحركة الوطنية الجزائرية,الجزء: 2, الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر, 1983, ص: 63.
21- شارل روبير أجيرون, تاريخ الجزائر المعاصرة, ص: 106.
22-أحمد مريوش, القضايا الوطنية في اهتمامات الأنتلجانسيا الجزائرية ما بين 1876-1927, مجلة حولية المؤرخ, العدد الثاني, 2002, عن عادل نويهض معجم أعلام الجزائر, المكتب التجاري للطباعة والنشر لبنان 1971. وكذلك محمد علي دبوز, نهضة الجزائر الحديثة...
23-أنظر: Charles R. A. IBID, P 335.
24-محمد عابد الجابري, إشكالية الفكر العربي المعاصر, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت 1990, ص: 33

description بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر  Emptyرد: بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر

more_horiz
مشكوووووور بارك الله فيك
وجزااااااك الله خيراااااااا

description بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر  Emptyرد: بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر

more_horiz
شكراااا لك اخي
بارك الله فيك
على الموضوع المميز


 بحث حول السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر  397959
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد