دار الإفتاء المصرية تجيز مشروعية الاحتفال بالمولد

القرآن الكريم أمرنا بتذكر الأنبياء والصالحين وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أول من سن لنا الاحتفال بمولده الشريف
" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " " النحل 43 "
الطلب المقدم من / مشيخة عموم الطرق الصوفية المقيد برقم 1186 لسنة 2007 بتاريخ 30/7/2007 المتضمن :
•ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي وموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين ؟

-المولد النبوي الشريف إطلاله للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشرى
جميعه, فلقد عبر القرآن الكريم عن وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلّم
بأنه " رحمه للعالمين " , وهذه الرحمة لم تكن محدودة , فهي تشمل تربية
البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم على صعيد حياتهم
المادية والمعنوية , كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان , بل تمتد على
امتداد التاريخ بأسره (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ) ( الجمعة : 3 ) .

والاحتفال بذكرى مولد سيد الكونين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبي الرحمة
وغوث الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم , ومحبة النبي صلى الله
عليه وآله وسلّم أصل من أصول الإيمان , وقد صح عنه أنه صلى الله عليه وآله
وسلّم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس
أجمعين ) رواه البخاري

قال ابن رجب : " محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من أصول الإيمان ,
وهى مقارنه لمحبة الله عز وجل , وقد قرنها الله بها , وتوعد من قدّم
عليهما محبة شيء من الأمور المحببة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان
وغير ذلك , فقال تعالى : ( قل إن كان آبائكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم
من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) ( التوبة :
24 ) , ولما قال سيدنا عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم : يا رسول الله
, لأنت أحب إلى من كل شيء إلا نفسي , قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم
: ( لا والذي نفسي بيده , حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال له سيدنا عمر
: فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي , فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلّم " الآن يا عمر " رواه البخاري .

والاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلّم هو الاحتفاء به , والاحتفاء به
صلى الله عليه وآله وسلّم أمر مقطوع بمشروعيته , لأنه أصل الأصول ودعامته
الأولى , فقد علم الله سبحانه وتعالى قدر نبيه , فعرف الوجود بأسره باسمه
وبمبعثه وبمقامه وبمكانته , فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله
وفرجه ونعمته على العالمين وحجته .

وقد درج سلفنا الصالح منذ القرن الرابع والخامس على الاحتفال بمولد الرسول
الأعظم صلوات الله وسلامه عليه بإحياء ليلة المولد بشتى أنواع القربات من
إطعام الطعام وتلاوة القرآن والأذكار وإنشاد الأشعار والمدائح في رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلّم , كما نص على ذلك غير واحد من المؤرخين مثل
الحافظ ابن كثير , والحافظ بن دحيه الأندلسي , والحافظ بن حجر , وخاتمة
الحفاظ جلال الدين السيوطي رحمهم الله تعالى .
ونص جماهير العلماء سلفاً وخلفاً على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي
الشريف , بل ألف في استحباب ذلك جماعه من العلماء والفقهاء , بينوا
بالأدلة الصحيحة استحباب هذا العمل , بحيث لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر
سليم إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.
وقد أطال ابن الحاج في ( المدخل ) في ذكرى المزايا المتعلقة بهذا الاحتفال
, وذكر في ذلك كلاماً مفيداً يشرح صدور المؤمنين , مع العلم أن ابن الحاج
وضع كتابه ( المدخل ) في ذم البدع المحدثة التي لا يتناولها دليل شرعي ,
وللإمام السيوطي في ذلك رسالة مستقلة سماها " حسن المقصد في عمل المولد " .

والاحتفال في لغة العرب : من حفل اللبن في الضرع يحفل حفلاً وحفلاً
وتحفلّل واحتفل : اجتمع , وحفل القوم من باب ضرب واحتفلوا : اجتمعوا
واحتشدوا . وعنده حفل من الناس : أي جمع , وهو في الأصل مصدر , ومحفل
القوم ومحتفلهم : مجتمعهم , وحفله : جلاه ,فتحفل واحتفل , وحفل كذا : بالى
به , ويقال : لا تحفل به .

وأما الاحتفال بالمعنى المقصود في هذا المقام , فهو لا يختلف كثيراً عن
معناه في اللغة , إذا المراد من الاحتفال بذكرى المولد النبوي هو تجمع
الناس على الذكر , والإنشاد في مدحه والثناء عليه صلى الله عليه وآله
وسلّم , وإطعام الطعام صدقة , إعلاناً لمحبة سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم , وإعلاناً لفرحنا بيوم مجيئه الكريم صلى الله عليه وآله
وسلّم .
ويدخل في ذلك ما اعتاده الناس من شراء الحلوى والتهادي بها في المولد
الشريف , فإن التهادي أمر مطلوب في ذاته , لم يقم دليل على المنع منه أو
إباحته في وقت دون وقت , فإذا انضمت إلى ذلك المقاصد الصالحة الأخرى
كإدخال السرور على أهل البيت وصلة الأرحام فإنه يصبح مستحباً مندوباً إليه
, فإذا كان ذلك تعبيراً عن الفرح بمولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم
كان ذلك أشد مشروعيه وندباً واستحبابا , لأن للوسائل أحكام المقاصد ,
والقول بتحريمه أو المنع منه حينئذ ضرب من التنطع المذموم .

ومما يلتبس على بعضهم دعوى خلو القرون الأولى الفاضلة من أمثال هذه
الاحتفالات , ولو سلم هذا – لعمر الحق – فإنه لا يكون مسوغاً لمنعها ,
لأنه لا يشك عاقل في فرحهم – رضي الله عنهم به صلى الله عليه وآله وسلّم ,
ولكن للفرح أساليب شتى في التعبير عنه وفى إظهاره , ولا حرج فى الأساليب
والمسالك , لأنها ليست عباده في ذاتها , فالفرح به صلى الله عليه وآله
وسلّم عباده وأي عباده , والتعبير عن هذا الفرح إنما هو وسيله مباحة ,
ولكل فيها وجهة هو موليها .

على أنه قد ورد في السنة النبوية ما يدل على احتفال الصحابة الكرام بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلّم مع إقراره لذلك وإذنه فيه , فعن بريدة الأسلمي
رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في بعض مغازيه
, فلما انصرف جاءت جاريه سوداء فقال : يا رسول الله , إني كنت قد نذرت إن
ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى , فقال لها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلّم : " إن كنت نذرت فاضربي , وإلا فلا " رواه الإمام
أحمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .فإذا كان الضرب بالدف
إعلاناً للفرح بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من الغزو أمراً
مشروعاً أقره سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأمر بالوفاء بنذره ,
فإن إعلان الفرح بقدومه صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الدنيا – بالدف أو
غيره من مظاهر الفرح المباحة في نفسها - أكثر مشروعيه وأعظم استحبابا .

جاء في صحيح البخاري , فما بالكم بجزاء الرب لفرح المؤمنين لميلاده وسطوع نوره على الكون ! .
وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بنفسه الشريفه الشكر لله
تعالى على ميلاده الشريف , فقد صح عنه أنه كان يصوم يوم الاثنين ويقول : "
ذلك يوم ولدت فيه " رواه مسلم من حديث أبى قتادة رضي الله عنه , فهو شكر
منه عليه الصلاة والسلام على منة الله تعالى عليه وعلى الأمة بذاته
الشريفه , فالأولى بالأمة الاحتفاء به صلى الله عليه وآله وسلّم بشكر الله
على منته ومنحته المصطفويه بكل أنواع الشكر , ومنها الإطعام والمديح
والاجتماع للذكر والصيام والقيام وغير ذلك , - وكل ماعون ينضح بما فيه .

وقد نقل الصالحى في ديوانه الحافل في السيرة النبوية " سبل الهدى والرشاد
في هدى خير العباد " عن بعض صالحي زمانه : أنه رأى النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم في منامه , فشكى إليه أن بعض من ينتسب إلى العلم يقول ببدعية
الاحتفال بالمولد الشريف , فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم " من
فرح بنا فرحنا به " .

وكذلك الحكم في الاحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين وإحياء
ذكراهم بأنواع القرب المختلفة , فإن ذلك أمر مرغب فيه شرعاً , لما في ذلك
من التأسي بهم والسير على طريقتهم , وقد ورد الأمر الشرعي بتذكر الأنبياء
والصالحين فقال تعالى : ( واذكر في الكتاب إبراهيم ) " مريم : 41 " (
واذكر في الكتاب موسى ) " مريم : 51 "

وهذا الأمر لا يختص بالأنبياء , بل يدخل فيه الصالحون أيضاً , حيث يقول
تعالى : ( واذكر فى الكتاب مريم ) " مريم : 16 " إذ من المقرر عند
المحققين أن مريم عليها السلام صديقه لا نبيه , كما ورد الأمر الشرعي
أيضاً بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى : ( وذكرهم بأيام
الله ) " إبراهيم : 5 " ومن أيام الله تعالى أيام الميلاد وأيام النصر ,
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع
شكراً لله تعالى على نعمه إيجاده واحتفالا بيوم ميلاده كما سبق فى حديث
أبى قتادة الأنصاري في صحيح مسلم , كما كان يصوم يوم عاشوراء ويأمر أصحابه
بصيامه شكراً لله تعالى وفرحاً واحتفالا بنجاة سيدنا موسى عليه السلام .

وقد كرم الله تعالى يوم الولادة في كتابه وعلى لسان أنبياؤه فقال سبحانه :
( وسلام عليه يوم ولد ) " مريم : 15 " وقال جل شأنه على لسان السيد المسيح
عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم : ( والسلام على يوم ولدت
) " مريم : 33 " , وذلك أن يوم الميلاد حصلت فيه نعمة الإيجاد , وهى سبب
لحصول كل نعمه تنال الإنسان بعد ذلك , فكان تذكره والتذكير به باباً لشكر
نعم الله تعالى على الناس : فلا بأس من تحديد أيام معينه يحتفل فيها بذكرى
أولياء الله الصالحين , ولا يقدح في هذه المشروعية ما قد يحدث في بعض هذه
المواسم من أمور محرمه , بل تقام هذه المناسبات مع إنكار ما قد يكتنفها من
منكرات , وينبه أصحابها إلى مخالفة هذه المنكرات للمقصد الأساسي الذي
أقيمت من أجله هذه المناسبات الشريفه .
والله سبحانه وتعالى أعلم

أمانة الفتوى
دار الإفتاء المصرية