الاحتفال بالمولد النبوي الشريف



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه
أما بعد




-{مقدمة في أصل تخصيص يوم المولد بفعل الطاعات}-



أن نحتفل بمولد سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم يعني أن نُظهر الفرح والسرور وأن نشكر الله تعالى على هذه
النعمة العظيمة نعمة بروز سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا.
كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم أصل النعمة وسبب الرحمة فقد أنقذنا الله به
من الجهالة وظلمتها إلى الإيمان ونوره الذي به سعادة الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي
ضلال مبين}.
من هنا، درج المسلمون على الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف يشكرون
الله على هذه النعمة العظيمة الجليلة ويُظهرون الفرح والاستبشار بمولده
عليه الصلاة والسلام.
ولهذا الفعل أصل ثابت في السنة النبوية الشريفة فقد روى الإمام مسلم في
صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبب صيامه يوم الاثنين؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك يوم ولدت فيه".
وقد وجد –كما سنبيّن فيما يلي- علماءُ أهل السنة والجماعة في هذا الحديث
أصلا للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وهذا رأي العلماء المعتبرين الذين
نأخذ بقولهم، فالفقيه العالِم هو الذي يفتي الناس ويعلمهم أحكام الدين
وليس أي عاميّ قرأ حديثا أو ءاية ثم لم يدرك المعنى ويريد أن يتنطع للفتوى
بغير علم ولا هدى.
فإن قال قائل إن الحديث يفيد بتخصيص أسبوعي للاحتفال وليس سنويا فالجواب
أن العبرة بتجدد الذكرى هذا ما رآه العلماء فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم
صيام عاشوراء فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله
عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك، فقالوا:
هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ونحن نصومه
تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أَوْلى بموسى.. وأمر
بصومه صوم استحباب.. أخرجه البخاري ومسلم. فيستفاد من هذا الحديث فعل
الشكر لله تعالى على ما تفضّل به في يوم معيّن من حصول نعمة أو رفع نقمة..
ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.
كل هذا يؤكد صحة ما ذهب إليه علماء أهل السنة والجماعة من أن في هذا
الحديث إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على
عباده. ومن أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا هي إظهاره صلى الله عليه
وسلم وبعثته وإرساله إلينا كما مرّ معنا في قوله تعالى: {لقد منّ الله على
المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} أليس هذا تصريحا أن الله أنعم
علينا بهذه النعمة العظيمة الرحمة المهداة!
والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام.. والصدقة والتلاوة..
وأيّ نعمة أعظم من نعمة بروز النبي.. نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم..
فكيف لا نحتفل بمولده ونحن نعرف أن مولده نور وبركة..




-{شبهة الجاهلين في تحريم المولد والرد عليهم}-



لذلك ينبغي على كل واحد فينا أن لا
يُسرع إلى فتوى بغير علم ما لم يقل بها عالم معتبَر من علماء أهل السنة
والجماعة وإلا فإن في تحريم عمل المولد تفسيقا وتبديعا لمئات الملايين من
المسلمين في كل البلاد والأمصار وقبل أن يفعل أحد منكم هذا فليأت لنا
بفتوى واحدة من عالم معتبَر من علماء أهل السنة والجماعة يقول بتحريم عمل
المولد ولن يجد، فكفانا رميا للأمة بالكفر والشرك والفسق والتبديع بلا
دليل ولا برهان فهذا مما ستحاسبون عليه يوم القيامة إن فعلتموه فمن فعل
فليسرع إلى ترك هذا الأمر.

وقبل الخوض في شبهات الجاهلين كان لا بد من التنبّه إلى أن هذا العلم دين
فينبغي على كل واحد فينا أن ينظر عمّن يأخذ دينه، لذلك فالحذر الحذر من
كثير من الفتاوى التي تنتشر في الإنترنت فهذه الفتاوى ما أنزل الله بها من
سلطان تحرم على المسلمين أن يُظهروا الفرح والاستبشار بذكرى مولد سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل السنة والجماعة لا يوافقون على هذا
التحريم الذي لا يقول به من كان له حظٌّ من علم الدين وفهمٌ لأحكام الشرع
الحنيف وتلقٍّ من أفواه العلماء لما كان عليه فقهاء المذاهب السنية
الأربعة المشهورة والمعتبرة عند عموم أهل السنة والجماعة.
لذلك كان من الأسلم في الوصول إلى المعرفة الشرعية النظر فيما ثبت عن
علماء أهل السنة المعتبرين عند عموم أهل السنة والجماعة وليس على ما تشيعه
بعض الجماعات الشاذة عن أهل السنة بأفكار ومعتقدات تساهم الثروات النفطية
في دعمها ماليا لتقوم بطباعة ءالاف الكتيّبات التي عبثا تحاول عبرها نشر
فكرها الهدّام فرفضه أهل السنة والجماعة في سائر الأمصار ولله الحمد وله
المنّة سبحانه وتعالى.

هذا وكان أولئك الجاهلون قد انطلقوا في تحريمهم لعمل المولد الشريف من
قاعدة "ابتدعوها بأنفسهم" بلا أصل صحيح لها حيث قالوا فيها: "إن كل ما لم
يعمله النبي حرام علينا أن نعمله ولو لم ينهنا عنه رسول الله"!!.
وقولهم هذا مخالف للأصول التي عليها أهل السنة والجماعة الذين قالوا إن
الأصل في الأشياء الإباحة ما لم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبما أن اولئك الجاهلين لم يبلغوا منزلة الاجتهاد في العلم الشرعي فليس
لهم أن يطلقوا أحكاما ما سبقهم إليها أحد من علماء المسلمين ليس لهم أن
يأخذوا وظيفة الأئمة الكرام فيُحللون ويحرّمون دون الرجوع إلى كلام الأئمة
المجتهدين، فالذي حرّم ذكر الله عز وجل وذكر شمائل النبي صلى الله عليه
وسلم في يوم مولده عليه السلام بحجة أن النبي عليه السلام لم يفعله فنقول
له: هل تحرّم المحاريب التي في المساجد وتعتقد أنها بدعة ضلالة؟! وهل
تحرّم جمع القرءان في المصحف ونقطه بدعوى أن النبي لم يفعله؟! فإن كنتَ
تُحرّم ذلك فقد ضيقتَ ما وسّع الله على عباده من استحداث أعمال خير لم تكن
على عهد الرسول، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سنّ في
الإسلام سُنة حسنة فلَهُ أجرُها وأجْرُ مَن عَملَ بها بعده من غير أنْ
ينقُصَ من أُجورهم شىء" رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بعدما جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح:
"نِعْمَ البدعة هذه" رواه الإمام البخاري في صحيحه.

كل هذا يؤكد أن لا مدخل للجاهلين إلى تحريم الاحتفال بالمولد النبوي
الشريف فهم أخذوا بظاهر حديث "كل بدعة ضلالة" وحملوه على تفسير فاسد وإنما
معنى قول النبي "كل بدعة ضلالة" أي أغلب البدع تكون بدع ضلال وليس الكل
على وجه الإطلاق بلا استثناء وهذا من اللغة العربية يعرفه أهل الخبرة وهو
عبارة عن إطلاق "الكل" على "البعض" إذا غلب، ومن ذلك قول الله تبارك
وتعالى عن الرياح التي أرسلها الله لتدمر بعض الكافرين: {تدمر كل شىء}.
وهي لم تدمر كل شىء على وجه الإطلاق فلا زالت الأمصار والأقطار والنواح
عامرة وإنما هي دمرت الكثير الكثير من الأشياء فأطلق "الكل" على "البعض"
لأنه غلب عليه.
وكذلك حديث: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) فمعناه ضد ما ذهب إليه
الجاهلون الذين يريدون تحريم الاحتفال بمولد سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم، ووجه الدليل ضدهم قوله في الحديث: ((عمل عملا ليس عليه أمرنا))،
فيكون معنى الحديث إن من عمل عملا عليه أمرنا فليس بمردود وهكذا الاحتفال
بالمولد النبوي الشريف لأنه لا يخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه.

ومما يؤكد فهمنا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقسيم البدعة إلى
بدعة حسنة وبدعة سيئة ما ثبت عن الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث يقول:
"المُحدثـات من الأمور ضربان أحدهما: ما أُحدث مما يُخالفُ كتابـا أو سُنة
أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضـلالة، والثانيـة: ما أُحدثَ من الخير
لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه مُحدثةٌ غير مذمومة". رواه الحافظ البيهقي
في كتاب "مناقب الشافعي" ج 1 ص 469.

فها هو الإمام الشافعي واحد من أكابر علماء وأئمة السلف الصالح يوافق
فهمُنا فهمَه للحديث وأحكام الدين، ويؤيد هذا الأمر الكثيرُ من علماء أهل
السنة والجماعة ومنهم صاحب الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله حيث يقول:
"إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعةٌ حسنة" فلا تصحُ فتوى من أفتى
بأن الاحتفالَ بذكرى المولد بدعةٌ محرمةٌ لما تقدم من الأدلة ومثل ذلك
ذكرَ العلماء الذين تُعْتَمَدُ فتواهم كالحافظ ابن دحية والحافظ العراقي
والحافظ السخاوي والحافظ السيوطي والشيخ ابن حجر الهيتمي والإمام النووي
والإمام أبي بكر بن العربي المالكي والإمام عز الدين بن عبد السلام والشيخ
محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق والشيخ مصطفى نجا مفتى
بيروت الأسبق، ولا عبرة بكلام من أفتى بخلاف قولهم لأنه ليس كلام مجتهد،
والعبرة إنما هي بما وافق كلام العلماء المعتبرين، والأصل في الأشياء
الإباحة ما لم يرد التحريم.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري ما نصه: ((قوله قال
عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة
أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون
مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن
كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح،
وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة)) ا.هـ. ومراده بالأحكام الخمسة: الفرض
والمندوب والمباح والمكروه والحرام.

هذا ما قاله الإمام ابن حجر العسقلاني، وهذا ما ورد وثبت عن علماء أهل
السنة والجماعة، أما الجاهلون الذين يريدون أن يحرموا عملا مستحسَنا في
الشرع الحنيف فلا يجدون قولا واحدا لعالم وفقيه معتبَر عند جمهور الامة
المحمدية قال بقولهم.

وقال النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات ما نصه: "البدعة بكسر الباء في
الشرع هي: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وءاله وسلم،
وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الإمام الشيخ المجمع على إمامته وجلالته
وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز ابن عبد السلام رحمه
الله ورضي عنه في ءاخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى: واجبة ومحرمة
ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد
الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة أو في قواعد التحريم فمحرمة
أو الندب فمندوبة أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة" ا.هـ. كلام النووي.

وقال ابن عابدين الحنفي في رد المحتار ما نصه: "فقد تكون البدعة واجبة،
كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلم النحو المفهم للكتاب
والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر
الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب
والثياب" ا.هـ.

وقال النووي في روضة الطالبين في دعاء القنوت ما نصه: "هذا هو المروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم وزاد العلماء فيه: "ولا يَعِزُّ من عاديت" قبل:
"تباركت وتعاليت" وبعده: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك".
قلت: قال أصحابنا: "لا بأس بهذه الزيادة". وقال أبو حامد والبَنْدَنِيجيُّ
وءاخرون: "مستحبة" ا.هـ. كلام النووي.

وروى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه
قال: "المحدَثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابًا أو
سنةً أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، والثانية: ما أحدث من
الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة" اهـ.

هذا ما ذهب إليه علماؤنا الأبرار الأفاضل في تقسيم البدعة ولكن البعض يصر
على ترك كل ما قاله كل أولئك العلماء علماء المذاهب الأربعة ليلتحقوا
بفتاوى وشبهات لأشخاص معاصرين ما فهموا دين الله بل اختلطت عليهم المسائل
فضلوا وأضلوا والعياذ بالله تعالى، فكيف نجد بعد كل هذا البيان من يحرّم
الاحتفال بالمولد النبوي زاعما أنه بدعة ضلالة! بل الجاهل هو من يخالف
أقوال علماء أهل السنة إذ كان محروما من الفهم والتفقه وتلقي علم الدين من
أفواه العلماء، ولو كان علم الدين يؤخذ من الكتب ما كان منها معتمدا من
العلماء وما لم يكن كذلك لما كان ثمة فرق بين عالم وعامي بين فقيه متبحر
وبين من لم يوفّقه الله إلى فهم الشريعة والدين.

ولكن الجاهلين لا يأخذون بكل ما ثبت عن علماء المذاهب الأربعة بل ويعترض
أن لا نوافق على ما شذّ عن مذاهبنا السنية، وفي هذه الحالة فعليه أن لا
يدّعي أنه سنيّ ثم يقول بما يخالف ما كان عليه فقهاء المذاهب السنية
الأربعة وليعترف أنه يتبع مذهبا خامسا غير معروف لدينا وغير مقرر عندنا
وليلحق بطائفته فلا ينتسب بالزور إلى أهل السنة والجماعة.

ولو أن أولئك الجاهلين فهموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنّ
في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص من
أجورهم شىء ومن أحدث في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من
بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء) لو فهموا معنى الحديث كما فهمه علماء
أهل السنة والجماعة لهان عليهم أن يسلّموا بما قاله علماء أهل السنة ولكن
على قلوب أقفالها.





-{ابتداء الاحتفال بالمولد النبوي الشريف}-



ولنراجع معا زملائي الأعزاء أن ننظر
فيما لا يرضى الجاهلون أن ينظروا إليه عن ابتداء الاحتفال بالمولد الشريف
وما كان رأي علماء المسلمين من علماء الفقه وحفّاظ الحديث النبوي وءاخرين.

فأول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو ملك إربل وكان عالما تقيا
شجاعا يقال له المظفر، وذلك في أوائل القرن السابع للهجرة. جمع لهذا كثيرا
من العلماء فيهم من أهل الحديث فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض
ومغاربها. حتى إن الحافظ ابن دحية قدم من المغرب فدخل الشام والعراق
واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها يعتني بالمولد فعمل له كتاب:
((التنوير في مولد البشير النذير)).
وتوالى الحفاظ على التأليف في قصة المولد فألف شيخ الحفاظ العراقي كتابا في المولد سماه ((المورد الهني في مولد النبي)).
فالعلماء والفقهاء والمحدثون والصوفية الصادقون كالحافظ العسقلاني والحافظ
السخاوي والحافظ السيوطي وغيرهم كثير، حتى علماء الأزهر كمفتي الديار
المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي، حتى علماء لبنان كمفتي بيروت السابق
الشيخ مصطفى نجا رحمه الله استحسنوا هذا الأمر واعتبروه من البدع الحسنة
فلا وجه لإنكاره بل هو جدير بأن يسمى سنة حسنة لأنه من جملة ما شمله قول
رسول الله: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من
بعده لا ينقص من أجورهم شىء)) رواه مسلم.

إذا كما رأينا فقد استحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها،
منهم الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، وتلميذه الحافظ السخاوي، وكذلك الحافظ
السيوطي وغيرهم.

وذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، ثم
لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد
ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر
عليهم من بركاته كل فضل عميم.

وللحافظ السيوطي رسالة سماها "حسن المقصد في عمل المولد"، قال: "فقد وقع
السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل
هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟ والجواب عندي: أن أصل عمل
المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسر من القرءان، ورواية الأخبار
الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات
ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع
الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه
وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. وأول من أحدث فعل ذلك صاحب
إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدّين علي بن بكتكين أحد
الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له ءاثار حسنة، وهو الذي عمَّر
الجامع المظفري بسفح قاسيون".ا.هـ.

قال ابن كثير في تاريخه: "كان يعمل المولد الشريف -يعني الملك المظفر- في
ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً
عالمًا عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه. قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب
ابن دحية مجلدًا في المولد النبوي سماه "التنوير في مولد البشير النذير"
فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في المُلك إلى أن مات وهو محاصر
للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة".ا.هـ.

ويذكر سبط ابن الجوزي في مرءاة الزمان أنه كان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية.

وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ ابن دحية: "كان من أعيان العلماء ومشاهير
الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشام والعراق، واجتاز بإربل سنة أربع
وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي،
فعمل له كتاب "التنوير في مولد البشير النذير"، وقرأه عليه بنفسه فأجازه
بألف دينار".ا.هـ.

قال الحافظ السيوطي: "وقد استخرج له -أي المولد- إمام الحفاظ أبو الفضل
أحمد بن حجر أصلاً من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانيًا.."ا.هـ.

فتبين من هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة فلا وجه لإنكاره، بل
هو جدير بأن يسمى سنة حسنة لأنه من جملة ما شمله قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من
غير أن ينقص من أجورهم شىء" وإن كان الحديث واردًا في سبب معين وهو أن
جماعة أدقع بهم الفقر جاءوا إلى رسول الله وهم يلبسون النِّمار مجتبيها أي
خارقي وسطها، فأمر الرسول بالصدقة فاجتمع لهم شىء كثير فسرّ رسول الله
لذلك فقال: "من سنَّ في الإسلام.." الحديث.
وذلك لأن العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول، ومن أنكر ذلك فهو مكابر.

حتى ابن تيمية الذي خالف المذاهب الأربعة قال في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" وصرح بجواز الاحتفال بالمولد الشريف.




-{الإجماع على مشروعية عمل المولد وعلى أن البدعة تنقسم إلى أنواع}-



وقد قال الإمام السيوطي في الأمر
بالاتباع والنهي عن الابتداع ص 12 أو ص27 (تحقيق عبد القادر عطا) ما نصه:
((فالبدعة الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها رجاء الثواب لمن
حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشىء، ولا
يلزم من فعله محظور شرعي)). انتهى.

واليكم من السيرة الحلبية نقلا عن ابن حجر الهيتمي وفيه: وقد قال ابن حجر
الهيتمي: والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها، وعمل المولد واجتماع
الناس له كذلك أي بدعة حسنة. انتهى فهو بدعة حسنة مجمع على جواز فعلها.

والإمام النووي يقول:
- قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد: غالب البدع.
قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق.
قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة.
فمن الواجبة: نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك.
ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرّبط وغير ذلك.
ومن المباح: التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.
والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلَّتها المبسوطة في (تهذيب
الأسماء واللُّغات) فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص،
وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيِّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التَّراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث
عامّا مخصوصا.
قوله: (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّداً بكلّ بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىْءٍ}.
وهنا انتهى كلام الامام النووي في تفصيل البدعة.




------*------



وقد استحضرت حوارا سريعا كنت قرأته
بين رجل من أهل السنة والجماعة وءاخر من الطائفة الوهابية يتناول موضوع
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أحببت أن تشاركوني في قراءته لما يحتويه
من فوائد:

يقول السني: أنتم الوهابية تحرمون الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، والنبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من
عمل بها من بعده من غير أن ينقص من اجورهم شىء) وصاحب إربل الملك المظفر
كان أول من احتفل بالمولد فلم ينكر عليه العلماء، بل مدحوه ومدحوا فعله
هذا.

الوهابي: لا، العلماء لم يمدحوه على ذلك، بل هو رجل مذموم.

السني: أتأخذ بكلام الذهبي؟

الوهابي: نعم ءاخذ بكلامه.

السني: الذهبي مدح الملك المظفر في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) فقال عنه:
(كان محبا للصدقة.. وبنى أربع خوانك للزُمنى والأضراء.. وبنى دارا للنساء،
ودار للأيتام ودارا للقطاء، ورتب بها المراضع، وكان يدور على مرضى
البيمارستان.. وبنى مدرسة للشافعية والحنفية.. وكان يمنع من دخول منكر
بلده.. وأما احتفاله بالمولد النبوي الشريف فيقصر التعبير عنه، كان الخلق
يقصدونه من العراق والجزيرة وتُنصب قباب خشب له ولأمرائه وتُزين.. ويعمل
ذلك أياما، ويخرج البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا فتنحر وتطبخ الألوان..
ويتكلم الوعاظ في الميدان، فينفق أموالاً جزيلة، وقد جمع له ابن دحية
((كتاب المولد)) فأعطاه الف دينار، وكان متواضعا، خيرا، سُنيًا، يحب
الفقهاء والمحدثين، وربما اعطى الشعراء، وما نقل أنه انهزم في حرب، وقد
ذكر هذا وأمثاله ابن خلكان واعتذر من التقصير)).

الوهابي: كيف تفتري على الذهبي هذا الإفتراء وهو لم يقل ذلك؟

السني: بلى، هو قال ذلك، هاك كتابه الذي طبعته مؤسسة الرسالة فهو يذكر ذلك
في الصحيفتين 335 و336 في الجزء الثاني والعشرين، انظر واقرأ.

الوهابي:.. (ينظر ويقرأ وينصدم).

السني: وماذا تقول في ابن كثير؟

الوهابي: ابن كثير ءاخذ بكلامه.

السني: هو ايضا يمدح الملك المظفر في ((البداية والنهاية)) فقال: (الملك
المظفر أبو سعيد كوكبري أحد الأجواد والسادات الكبراء والملوك والأمجاد،
له ءاثار حسنة.. وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به
احتفالاً هائلاً، وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلاً عاقلاً عالما عادلا
رحمه الله وأكرم مثواه. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في
المولد النبويّ سماه ((التنوير في مولد البشير النذير)) فأجازه على ذلك
بألف دينار.. محمود السيرة والسريرة.. وكان يحضر عنده في المولد أعيان
العلماء".

الوهابي: ابن كثير لا يقول ذلك، هذا افتراء على ابن كثير.

السني: خذ وانظر الى الجزء الثالث عشر من كتابه الذي طبع سنة 1966 على
نفقة مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض، في الصحيفتين 136 و137.

الوهابي: أرني الكتاب.. (ينظر إلى الكتاب دون أن يتفوه بكلمة).

السني: ماذا حصل؟

الوهابي: أنا لا ءاخذ بكلام ابن كثير.

السني: كيف هذا؟! قبل قليل قلت أنك تأخذ بكلامه، ما هذا التذبذب!؟

الوهابي: (سكوت مطبق.. واحمرار في العينين).

السني: إن كنت تصر على تحكمك ومذهبك هذا الذي هو من فساد محمد بن عبد
الوهاب فهل تعلم ماذا قال ابن تيمية في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟

الوهابي: وصلنا، أنا ءاخذ بكلام ابن تيمية.

السني: هكذا؟! ابن تيمية قال: فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض
الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله
عليه وءاله وسلم.

الوهابي: لا.. لا.. ابن تيمية لا يقول ذلك وإلا لتعارض كلام ابن تيمية مع كلام محمد بن عبد الوهاب ولكفر الواحد منهما الآخر.

السني: خذ وانظر الى كتاب ابن تيمية المسمى ((اقتضاء الصراط المستقيم
مخالفة أصحاب الجحيم)) بتحقيق محمد حامد الفقى المسمى رئيس جماعة أنصار
السنة المحمدية، الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر-بيروت-لبان-، صحيفة
297.

الوهابي: ماذا؟! أرني.. أرني (ينظر الى الكتاب ويتمتم بكلام فيه سب مع احمرار شديد في الوجه فضلاً عن العينين).

السني: إياك والكلام البذيء.

الوهابي: (يمضي منهزما وهو يقول) أنا لا أسبك وإنما أقول لعنة الله على ابن تيمة.. لعنة الله على ابن تيمية.

انتهى الحوار، وحسبنا الله ونعم الوكيل، أليس الأفضل للكل أن يتعلموا ما
ثبت عن علماء أهل السنة والجماعة في هذه المسالة ليُصار إلى الالتزام
بأقوالهم وهم نجوم الهدى ومصابيح العلم وخدّام الدعوة إلى الله سبحانه
وتعالى؟


خاتمة: هذا ما تمكنت اليوم من جمعه ومراجعته مرة قبل إضافته في هذا
الموضوع وإن شاء الله تعالى لي عودة مع فوائد أخرى كثيرة ومتنوعة تتعلق
كلها بأمر المولد النبوي الشريف والبدعة وأقسامها واما المواضيع الأخرى
كمواضيع التبرك والتوسل فتحتاج إلى مواضيع مستقلة عن هذا الموضوع لكي لا
تختلط المسائل في ذهن الزملاء القراء.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.