ze=18].عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال - صلى الله عليه وسلم -: (الصيام
جنة، وهو حصن من حصون المؤمن، وكل عمل لصاحبه إلا الصيام يقول الله:
الصيام لي وأنا أجزي به) (1).

الصوم عبادة السادات، وعبادة السادات سادات العبادات، وأحلى
أعطيات الصوم وأغلى معانيه الإخلاص، والإخلاص تجرد وخلاص، والصوم هو
العبادة الوحيدة التي خصت بالنسبة إلى الله (الصيام لي وأنا أجزي به).

(الصيام جنة) الجُنة كل ما ستر ومنه (المجن) وهو الترس، وإنما كان
الصوم جنة لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات. قال ابن الأثير:
معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات (2) وقال القاري: الصوم
ثالث أركان الإسلام شرعه - سبحانه - لفوائد أعظمها كونه موجب لشيئين أحدهما
ناشئ عن الآخر، سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع
الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها،
ولذا قيل إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها، والناشئ
عن هذا صفاء القلب عن الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين
وباقيهما، وبصفائه تناط المصالح والدرجات (3).

وعن جابر -رضي الله عنه- قال - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله -
تعالى -: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار وهو لي وأنا أجزي به) (4)
‌قال المناوي (… وأنا أجزي به) صاحبه بأن أضاعف له الجزاء بلا حساب، لأن
فيه الإعراض عن لذات الدنيا والنفس وحظوظها، ومن أعرض عنها ابتغاء وجه
اللّه لم يجعل بينه وبينه حجاب، واعلم أن الصوم من أخص أوصاف الربوبية إذ
لا يتصف به على الكمال إلا اللّه فإنه يطعم ولا يطعم فإضافته إلى نفسه
بقوله (..وأنا أجزي به) لكونه لا يتصف به أحد على الحقيقة إلا هو لأنه
الغني عن الأكل أبد الآبدين، ومن سواه لا بد له منه، وقد دعا الباري إلى
الاتصاف بأوصافه وتعبدهم بها بعد الطاقة، والصوم من أخصها وأصعب الأشياء
على النفوس لكونه خلاف ما جبلوا عليه، لما أن وجودهم لا يقوم إلا بمادّة
بخلاف الغنى عن كل شيء (5).

(وهو حصن من حصون المؤمن) فالصوم رقة للقلب وصيانة للجوارح،
والصوم قطع لأسباب التعبد لغير الله - تعالى -، وهو شعار الأبرار كما صح عن
رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو ويقول (جعل الله عليكم صلاة
قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار ليسوا بأثمة ولا فجار) (6) قال ابن
القيم: ومن عقوبة المعاصي ما يلقيه الله - سبحانه - من الرعب والخوف في قلب
العاصي، فلا تراه إلا خائفا مرعوبا، فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من
دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به
المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا، ومن عصاه
انقلبت مأمنه مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر، إن
حركت الريح الباب قال جاء الطلب، وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب
يحسب كل صيحة عليه وكل مكروه قاصد إليه، فمن خاف الله آمنه من كل شيء، ومن
لم يخف الله أخافه من كل شيء (7).

(الصيام لي) فإضافة الصوم لله - تعالى -تشريفا لقدره وتعريفا
بعظيم فخره، قال ابن عبد البر: "كفى بقوله (الصوم لي) فضلا للصيام على سائر
العبادات".

ومع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها، إلا أن الصوم لا يقع
فيه الرياء كما يقع في غيرها، فإن حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا في
الصورة الظاهرة.

وقال أبو عبيدة: إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم فعله
وإنما هو شيء في القلب، وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم
فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال
يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى
نفسه ولهذا قال في الحديث (يدع شهوته من أجلي) (8).

وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم.

ومعنى "لا رياء في الصوم" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد
يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه
الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية
الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها (9).

وقال المناوي: والموجب لاختصاص الصوم بهذا الفضل أمران أحدهما: أن
جميع العبادة مما يطلع عليه العباد، والصوم سر بينه وبين اللّه يفعله
خالصاً لوجهه ويعامله به طالما لرضاه، الثاني: أن جميع الحسنات راجعة إلى
صرف المال فيما فيه رضاه، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقص
والتحول، مع ما فيه من الصبر على مضض الجوع وحرقة العطش، فبينه وبينهما أمد
بعيد لفراغه بغير قاطع أو لخلوصه للّه (10).

(وأنا أجزي به) أي أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته،
وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبى: معناه أن
الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى
ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا
السياق الرواية الأخرى في الموطأ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل عمل
ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال
الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به) أي أجازى عليه جزاء كثيرا من غير
تعيين لمقداره، وهذا كقوله - تعالى -(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)
[الزمر 10]. والصابرون "الصائمون" في أكثر الأقوال. وسبق إلى هذا أبو عبيد
في غريبه فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال: الصابرون "الصائمون"، واستدل
له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات.

وقال المناوي (وأنا أجزي به) إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة
الثواب لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء
وشرفه، قال القاضي: ثواب الصائم لا يقدر قدره ولا يقدر على إحصائه إلا
اللّه فلذلك يتولى جزاءه بنفسه ولا يكله إلى ملائكته (11).



ـــــــــــــ

(1) ‌رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 7608، والهيثمي في مجمع
الزوائد ج: 3 ص: 180 (حسن) حديث رقم: 3881 في صحيح الجامع. السيوطي /
الألباني.

(2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/586.

(3) مرقاة المفاتيح / القاري 4/229.

(4) (حسن) انظر حديث رقم: 4308 في صحيح الجامع.

(5) فيض القدير 1/588.

(6) رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس (صحيح) انظر حديث رقم: 3097 في صحيح الجامع.

(7) الجواب الكافي / ابن القيم ج: 1 ص: 50.

(8) سنن البيهقي 5/586.

(9) نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان د/ سيد العفاني ج1 ص 30.

(10) فيض القدير 2/586.

(11) فيض القدير / المناوي 4/251.



13/9/1428هـ