بصائر من تذكرة سورة ( عبس )
أبو عمر الدعيج
لم تعرف البشرية ولن تعرف أعظم مِنْ خُلُق محمد صلى الله عليه وسلم،
ولم تعرف الدعوة ولن تعرف أحرص منه صلى الله عليه وسلم على
هداية الناس حتى كادت نفسه الزكية تذهب حسرات من شدة حَدْبه على
هداية من يدعوهم،
وسعيه في ذلك أعظم السعي حتى نزلت آيات تدعو إلى الرفق بتلك
النفس الحريصة الرؤوفة الرحيمة:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْـحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]،
و {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]،
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].
ومن المواطن التي تجلَّى فيها حرصه صلى الله عليه وسلم على
هداية من يدعوهم ما قصَّه الله - تبارك وتعالى - علينا
من خبره صلى الله عليه وسلم في سورة عبس؛
حيث كان مشغولاًَ في دعوة أحد كبراء قومه من المشركين وحريصاً على هدايته،
وبينما هو على تلك الحال جاءه الأعمى (عبد الله بن أم مكتوم) - رضي الله عنه -
يتفقه في الدين ويتزود من الخير، فعبس صلى الله عليه وسلم وتولى وتلهَّى،
وحاشا صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم أن يصدر ذلك عنه ازدراءً أو تنقُّصاً لذلك
الأعمى أو طلباً لعَرَض دنيوي من ذلك الكافر المستغني؛
وإنما الدافع هو الحرص على نجاة من لم يَنعَم بالهداية بَعْد؛
حيث إن الأعمى من المهتدين الناجين؛ أما ذلك المستغني فلا زال في الهالكين،
ثم إنه ذو شأن في قومه؛ وفي هدايته هدايتهم أو تخذيلهم عن محاربة الدعوة على أقل تقدير.
فكان منه صلى الله عليه وسلم ما كان،
ونزل العتاب الإلهي في آيات جعلها الله تذكرة ما بقـي كتاب الله يُتلى ويُتدبَّر،
وقد جاءت تلك التذكرة ببصائر عظيمة، منها:
البصيرة الأولى:
الحرص على هداية الناس خَلَّة عظيمة في مَن شَرُف بحمل لواء الدعوة:
ولكن ينبغي أن يكون حرصاً معتدلاً؛ بحيث لا يضر بنَفْس الداعي أو يثبط عزيمته أو يقعده
عن الدعوة كما لا يسوغ حرصٌ تُقدَّم فيه مصلحة متوَهَّمة على مصلحة متحققة.
البصيرة الثانية: ا
لداعي إلى الله - تعالى - عزيز عنده - سبحانه -
ولذلك رفق وتلطَّف بسيد الدعاة صلى الله عليه وسلم فخاطبه أولاً بخطاب الغائب؛
وكأن المقصود غيره صلى الله عليه وسلم!
وهكذا يكون التعامل مع الدعاة إلى الله - تعالى - عندما يحصل منهم خطأ في سبيل الدعوة
فتُستشعَر مكانتهم ويُغلَّب جانب اِلتِماس ما يرفع الملام عن الدعاة الكرام.
البصيرة الثالثة:
{أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2]:
في التعبير بالأعمى تنبيه للدعاة إلى الله - تعالى -
على ضرورة مراعاة اختلاف المدعوِّين في قدراتهم ومداركهم وفهومهم
مما يكون معه تعرُّض المدعو للداعي بما يكره دون قصد من المدعو.
البصيرة الرابعة:
{أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2]:
لم يوصف بالمؤمن مقابَلَة بالكافر أو الراغب مقابلة بالمستغني؛
ولعل في ذلك إشارةً إلى ضرورة مراعاة الداعية للضعفاء من المؤمنين
الذين هم سبب الرزق والنصر؛
والحذر من إغضابهم مراعاة للكافر كائناً من كان؛ فإن في إغضابهم إغضاب الرب - تبارك وتعالى -
كما جلاَّ ذلك صلى الله عليه وسلم في قصة الصدِّيق مع سليمان وصهيب وبلال - رضي الله عنهم -
حيث راعى الصدِّيق - رضي الله عنه -
هداية شيخ قريش وسيِّدِهم لـمَّا قالوا:
والله! ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وحاشاه - رضي الله عنه -
أن يقصد إغضابهم؛ لكنه راعى مصلحة الدعوة؛ بأن لا يسمع أبو سفيان ما قد يحول دون هدايته،
ومع ذلك تأتي مصلحة المحافظة على رأس المال، ومراعاة المصلحة المتحقِّقة دون المتوهَّمة،
وتعظيم مَنْ حقُّه التعظيم، فيعود الصديق متلطفاً مع أولئك النفر طالباً معذرتهم وحاذراً إغضابهم
فيقول: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ فيقولون: لا. رضي الله عنهم أجمعين.
البصيرة الخامسة:
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3]:
فيه إشارة إلى الحذر من الإعراض عن المؤمن في الدعوة مهما كانت حاله؛
فلعل الله يجعل على يديه من التزكي والرفعة للإسلام والمسلمين ما لا يعلمه إلا هو سبحانه؛
فكم جعل الله من الخير والنفع في أناس لا يؤبَه لهم وكفى شراً
أن يُحقَّر مسلم كائناً من كان! فكيف إذا كان ذلك الاحتقار في مجال الدعوة؟
البصيرة السادسة:
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4]:
فيها إشارة إلى أهمية تقديم مصلحة مراعاة المؤمن ولو كانت هدايته قاصرٌ نفعُها على نفسه؛
فهو أَوْلى من التصدي للمعرِض.
البصيرة السابعة:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]:
ليس على الداعية إلا دعوة الناس لا هُداهُم ولا يضره عدم تزكِّيهم
فليس عليه إلا البلاغ فَلْيلتزم في بلاغه المنهج الموافق لمراد الله
وَلْيَحذر ما يشتط به عن السبيل،
والنتائج بعد ذلك مردُّها إلى من له الحكمة البالغة فيهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم.
البصيرة الثامنة:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]:
إن الحرص في الدعوة ينبغي أن يكون متجرداً لغرض
هداية المدعو وتعبيده لرب العالمين لا لغرض الانتفاع به؛
وإنما ذلك يأتي تبعاً إذا أراده الله، تبارك وتعالى.
ثم إن المخلوق يحب ويكره ولا يدري في ما فيه الخير والشر ولا النفع والضر؛
وإنما ذلك مرده إلى الله تعالى.
وبهذا المنهج يسلم الداعي من التصدي للمُعرِض المستغني،
أو التولي والتلهي عن المقبل الراغب؛
فيحرص الداعية على الجميع لخيرهم هم، وعند التعارض يقدِّم المقبلَ الراغبَ في
الدعوة والداعية؛
والخير كل الخير في التزام شرع الله ولزوم مراده؛
فلا يُحكِّم الداعية عقله ولا يُقدِّر المصالح في مسائل لا يسعه فيها الاجتهاد،
وإذا وسع الاجتهاد فعليه أن يتأمل كثيراً في ما يعارض ذلك الاجتهاد.
البصيرة التاسعة:
قد يتحاشى الداعية عرض بعض القضايا التي قررتها الشريعة؛
يريد بذلك مراعاة تزكِّي المدعو وهدايته، ولعل في قوله - تعالى -:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]
رفضاً لهذا المنهج والمعتقَـد؛ فهيهـات هيهات أن يكـون في ما شرع الخبير العليم
ما يكون سبباً لنفور المدعو إذا تجرد للحق،
وإذا كان هذا المنهج مردوداً مع من حسُنت نيَّته ممن يراعي مصلحة الدعوة؛
فكيف بمن يتهرب من عرض تلك القضايا ويروغ عند ورودها خجلاً وانهزاماً
أمام من لا يؤمن بها؛
وخصوصاً إذا كان ذلك الكافر من أولئك القوم الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا
ممن غرتهم حضارتهم، وفتنهم ما هم فيه من علم دنيوي؟
البصيرة العاشرة:
أن ما فعله صلى الله عليه وسلم من الإقبال والحرص على هداية المشرك
أمر مشروع،
ولعل غاية ما فعل أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأَوْلى؛
ومع ذلك ينزل هذا العتاب الإلهي، وهو ما يبيِّن عِظَم وخطر مسألة الدعوة
وضرورة التحري الدقيق في مسائلها ووسائلها وأساليبها والمصالح المراعاة فيها.
البصيرة الحادية عشرة: أ
ن ما فعله الأعمى من الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك الحال أمر غير مناسب منه - رضي الله عنه -
ومع ذلك ينزل العتاب على النبي صلى الله عليه وسلم،
وفي ذلك تربية للدعاة إلى الله - تعالى - أ
ن عليهم مراعاة المدعوين وتحمُّل أخطائهم واستشعار أن التبعة عليهم مهما أخطأ غيرهم.
البصيرة الثانية عشرة:
ينبغي للداعي إلى الله - تعالى - أن لا يتهرب من الإقرار بالخطأ تمادياً في الباطل؛
بل عليه أن يفرح بالتنبيه على خطئه،
وأن يحمد لصاحبه صنيعه؛ إذ هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم؛
فقد بالغ في إكرام ذلك الأعمى (الذي عوتب من أجله)،
ورفع منزلته، وكان يرحِّب به كلما رآه،
ويقرن ذلك الترحيب بذكرى العتاب إشعاراً منه صلى الله عليه وسلم
بأهمية العتاب في تصحيح المسار والترقي في الكمال.
البصيرة الثالثة عشرة:
ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أفعال مع أعمى لا يراها ومع ذلك ينزل العتاب؛
فكيف بمن يتعرض لمن يسمع ويرى ما لا يليق؟
بل كيف بمن يتعمد الإساءة؟ إنه منزلَق خطير ينبغي استشعاره والتنبه له
في التعامل مع المقبل على الله - تعالى -
فكما أن فضل الإحسان في الدعوة عظيم كذلك فإن تَبِعة الإساءة فيها عظيمة.
البصيرة الرابعة عشرة:
{فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6]:
لعل في عتبه - جل وعلا - لرسوله صلى الله عليه وسلم بالتصدي
لذلك المعرِض المتكبِّر إشارةً إلى أنه لا ينبغي للداعـي إلى اللـه - تعالى -
أن يُذِل نفسه ويشغلها بالإقبال على أهل الكبر والإعراض؛
وأن عليه أن يستشعر عزَّته وعلوَّه بما يحمل من الحق والخير؛
فلا يكترث بالمستغني كائناً من كان؛ بل الأَوْلى الإعراض عنه واستشعار أنه أحرى
بالتحقير والذم؛ وذلك أنه لا حيلة في أهل الكبر على الحق ومن جاء به؛
إذ قضى الله صرفهم عن طريق الهداية:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ} [الأعراف: 146].
البصيرة الخامسة عشرة:
على الداعي أثناء تعامله مع المدعو استشعار أن الجزاء من ___ العمل؛
فعليه أن يكون مع المدعوين من حيث الإقبالُ والعفوُ والصفحُ ونحوها
كما يحب أن يكون الله - تبارك وتعالى - معه في الدنيا ويوم العرض عليه - سبحانه وتعالى -
فقد ذكر بعض المفسرين أن في مخاطبته صلى الله عليه وسلم
بلفظ الغائب مبالغة في العتب بخلاف المعنى المشهور من أن المراد التلطف؛
حيث إن في ذلك بعض الإعراض؛
فكمـا تُعرِض يُعـرَض عنـك. فيـا لهـا مـن تذكـرة ما أعظم عِبَرها وأغزرها لمن تدبرها!
فحري بالدعاة إلى الله - تعالى - خاصة الوقوف عندها كثيراً واستخلاص
الدروس والعِبَر التي تزخر بها هذه التذكرة العظيمة
جعلنا الله من المنتفعين بمواعظه إنه جواد كريم.
أبو عمر الدعيج
لم تعرف البشرية ولن تعرف أعظم مِنْ خُلُق محمد صلى الله عليه وسلم،
ولم تعرف الدعوة ولن تعرف أحرص منه صلى الله عليه وسلم على
هداية الناس حتى كادت نفسه الزكية تذهب حسرات من شدة حَدْبه على
هداية من يدعوهم،
وسعيه في ذلك أعظم السعي حتى نزلت آيات تدعو إلى الرفق بتلك
النفس الحريصة الرؤوفة الرحيمة:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْـحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]،
و {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]،
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].
ومن المواطن التي تجلَّى فيها حرصه صلى الله عليه وسلم على
هداية من يدعوهم ما قصَّه الله - تبارك وتعالى - علينا
من خبره صلى الله عليه وسلم في سورة عبس؛
حيث كان مشغولاًَ في دعوة أحد كبراء قومه من المشركين وحريصاً على هدايته،
وبينما هو على تلك الحال جاءه الأعمى (عبد الله بن أم مكتوم) - رضي الله عنه -
يتفقه في الدين ويتزود من الخير، فعبس صلى الله عليه وسلم وتولى وتلهَّى،
وحاشا صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم أن يصدر ذلك عنه ازدراءً أو تنقُّصاً لذلك
الأعمى أو طلباً لعَرَض دنيوي من ذلك الكافر المستغني؛
وإنما الدافع هو الحرص على نجاة من لم يَنعَم بالهداية بَعْد؛
حيث إن الأعمى من المهتدين الناجين؛ أما ذلك المستغني فلا زال في الهالكين،
ثم إنه ذو شأن في قومه؛ وفي هدايته هدايتهم أو تخذيلهم عن محاربة الدعوة على أقل تقدير.
فكان منه صلى الله عليه وسلم ما كان،
ونزل العتاب الإلهي في آيات جعلها الله تذكرة ما بقـي كتاب الله يُتلى ويُتدبَّر،
وقد جاءت تلك التذكرة ببصائر عظيمة، منها:
البصيرة الأولى:
الحرص على هداية الناس خَلَّة عظيمة في مَن شَرُف بحمل لواء الدعوة:
ولكن ينبغي أن يكون حرصاً معتدلاً؛ بحيث لا يضر بنَفْس الداعي أو يثبط عزيمته أو يقعده
عن الدعوة كما لا يسوغ حرصٌ تُقدَّم فيه مصلحة متوَهَّمة على مصلحة متحققة.
البصيرة الثانية: ا
لداعي إلى الله - تعالى - عزيز عنده - سبحانه -
ولذلك رفق وتلطَّف بسيد الدعاة صلى الله عليه وسلم فخاطبه أولاً بخطاب الغائب؛
وكأن المقصود غيره صلى الله عليه وسلم!
وهكذا يكون التعامل مع الدعاة إلى الله - تعالى - عندما يحصل منهم خطأ في سبيل الدعوة
فتُستشعَر مكانتهم ويُغلَّب جانب اِلتِماس ما يرفع الملام عن الدعاة الكرام.
البصيرة الثالثة:
{أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2]:
في التعبير بالأعمى تنبيه للدعاة إلى الله - تعالى -
على ضرورة مراعاة اختلاف المدعوِّين في قدراتهم ومداركهم وفهومهم
مما يكون معه تعرُّض المدعو للداعي بما يكره دون قصد من المدعو.
البصيرة الرابعة:
{أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2]:
لم يوصف بالمؤمن مقابَلَة بالكافر أو الراغب مقابلة بالمستغني؛
ولعل في ذلك إشارةً إلى ضرورة مراعاة الداعية للضعفاء من المؤمنين
الذين هم سبب الرزق والنصر؛
والحذر من إغضابهم مراعاة للكافر كائناً من كان؛ فإن في إغضابهم إغضاب الرب - تبارك وتعالى -
كما جلاَّ ذلك صلى الله عليه وسلم في قصة الصدِّيق مع سليمان وصهيب وبلال - رضي الله عنهم -
حيث راعى الصدِّيق - رضي الله عنه -
هداية شيخ قريش وسيِّدِهم لـمَّا قالوا:
والله! ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وحاشاه - رضي الله عنه -
أن يقصد إغضابهم؛ لكنه راعى مصلحة الدعوة؛ بأن لا يسمع أبو سفيان ما قد يحول دون هدايته،
ومع ذلك تأتي مصلحة المحافظة على رأس المال، ومراعاة المصلحة المتحقِّقة دون المتوهَّمة،
وتعظيم مَنْ حقُّه التعظيم، فيعود الصديق متلطفاً مع أولئك النفر طالباً معذرتهم وحاذراً إغضابهم
فيقول: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ فيقولون: لا. رضي الله عنهم أجمعين.
البصيرة الخامسة:
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3]:
فيه إشارة إلى الحذر من الإعراض عن المؤمن في الدعوة مهما كانت حاله؛
فلعل الله يجعل على يديه من التزكي والرفعة للإسلام والمسلمين ما لا يعلمه إلا هو سبحانه؛
فكم جعل الله من الخير والنفع في أناس لا يؤبَه لهم وكفى شراً
أن يُحقَّر مسلم كائناً من كان! فكيف إذا كان ذلك الاحتقار في مجال الدعوة؟
البصيرة السادسة:
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4]:
فيها إشارة إلى أهمية تقديم مصلحة مراعاة المؤمن ولو كانت هدايته قاصرٌ نفعُها على نفسه؛
فهو أَوْلى من التصدي للمعرِض.
البصيرة السابعة:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]:
ليس على الداعية إلا دعوة الناس لا هُداهُم ولا يضره عدم تزكِّيهم
فليس عليه إلا البلاغ فَلْيلتزم في بلاغه المنهج الموافق لمراد الله
وَلْيَحذر ما يشتط به عن السبيل،
والنتائج بعد ذلك مردُّها إلى من له الحكمة البالغة فيهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم.
البصيرة الثامنة:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]:
إن الحرص في الدعوة ينبغي أن يكون متجرداً لغرض
هداية المدعو وتعبيده لرب العالمين لا لغرض الانتفاع به؛
وإنما ذلك يأتي تبعاً إذا أراده الله، تبارك وتعالى.
ثم إن المخلوق يحب ويكره ولا يدري في ما فيه الخير والشر ولا النفع والضر؛
وإنما ذلك مرده إلى الله تعالى.
وبهذا المنهج يسلم الداعي من التصدي للمُعرِض المستغني،
أو التولي والتلهي عن المقبل الراغب؛
فيحرص الداعية على الجميع لخيرهم هم، وعند التعارض يقدِّم المقبلَ الراغبَ في
الدعوة والداعية؛
والخير كل الخير في التزام شرع الله ولزوم مراده؛
فلا يُحكِّم الداعية عقله ولا يُقدِّر المصالح في مسائل لا يسعه فيها الاجتهاد،
وإذا وسع الاجتهاد فعليه أن يتأمل كثيراً في ما يعارض ذلك الاجتهاد.
البصيرة التاسعة:
قد يتحاشى الداعية عرض بعض القضايا التي قررتها الشريعة؛
يريد بذلك مراعاة تزكِّي المدعو وهدايته، ولعل في قوله - تعالى -:
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]
رفضاً لهذا المنهج والمعتقَـد؛ فهيهـات هيهات أن يكـون في ما شرع الخبير العليم
ما يكون سبباً لنفور المدعو إذا تجرد للحق،
وإذا كان هذا المنهج مردوداً مع من حسُنت نيَّته ممن يراعي مصلحة الدعوة؛
فكيف بمن يتهرب من عرض تلك القضايا ويروغ عند ورودها خجلاً وانهزاماً
أمام من لا يؤمن بها؛
وخصوصاً إذا كان ذلك الكافر من أولئك القوم الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا
ممن غرتهم حضارتهم، وفتنهم ما هم فيه من علم دنيوي؟
البصيرة العاشرة:
أن ما فعله صلى الله عليه وسلم من الإقبال والحرص على هداية المشرك
أمر مشروع،
ولعل غاية ما فعل أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأَوْلى؛
ومع ذلك ينزل هذا العتاب الإلهي، وهو ما يبيِّن عِظَم وخطر مسألة الدعوة
وضرورة التحري الدقيق في مسائلها ووسائلها وأساليبها والمصالح المراعاة فيها.
البصيرة الحادية عشرة: أ
ن ما فعله الأعمى من الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك الحال أمر غير مناسب منه - رضي الله عنه -
ومع ذلك ينزل العتاب على النبي صلى الله عليه وسلم،
وفي ذلك تربية للدعاة إلى الله - تعالى - أ
ن عليهم مراعاة المدعوين وتحمُّل أخطائهم واستشعار أن التبعة عليهم مهما أخطأ غيرهم.
البصيرة الثانية عشرة:
ينبغي للداعي إلى الله - تعالى - أن لا يتهرب من الإقرار بالخطأ تمادياً في الباطل؛
بل عليه أن يفرح بالتنبيه على خطئه،
وأن يحمد لصاحبه صنيعه؛ إذ هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم؛
فقد بالغ في إكرام ذلك الأعمى (الذي عوتب من أجله)،
ورفع منزلته، وكان يرحِّب به كلما رآه،
ويقرن ذلك الترحيب بذكرى العتاب إشعاراً منه صلى الله عليه وسلم
بأهمية العتاب في تصحيح المسار والترقي في الكمال.
البصيرة الثالثة عشرة:
ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أفعال مع أعمى لا يراها ومع ذلك ينزل العتاب؛
فكيف بمن يتعرض لمن يسمع ويرى ما لا يليق؟
بل كيف بمن يتعمد الإساءة؟ إنه منزلَق خطير ينبغي استشعاره والتنبه له
في التعامل مع المقبل على الله - تعالى -
فكما أن فضل الإحسان في الدعوة عظيم كذلك فإن تَبِعة الإساءة فيها عظيمة.
البصيرة الرابعة عشرة:
{فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6]:
لعل في عتبه - جل وعلا - لرسوله صلى الله عليه وسلم بالتصدي
لذلك المعرِض المتكبِّر إشارةً إلى أنه لا ينبغي للداعـي إلى اللـه - تعالى -
أن يُذِل نفسه ويشغلها بالإقبال على أهل الكبر والإعراض؛
وأن عليه أن يستشعر عزَّته وعلوَّه بما يحمل من الحق والخير؛
فلا يكترث بالمستغني كائناً من كان؛ بل الأَوْلى الإعراض عنه واستشعار أنه أحرى
بالتحقير والذم؛ وذلك أنه لا حيلة في أهل الكبر على الحق ومن جاء به؛
إذ قضى الله صرفهم عن طريق الهداية:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ} [الأعراف: 146].
البصيرة الخامسة عشرة:
على الداعي أثناء تعامله مع المدعو استشعار أن الجزاء من ___ العمل؛
فعليه أن يكون مع المدعوين من حيث الإقبالُ والعفوُ والصفحُ ونحوها
كما يحب أن يكون الله - تبارك وتعالى - معه في الدنيا ويوم العرض عليه - سبحانه وتعالى -
فقد ذكر بعض المفسرين أن في مخاطبته صلى الله عليه وسلم
بلفظ الغائب مبالغة في العتب بخلاف المعنى المشهور من أن المراد التلطف؛
حيث إن في ذلك بعض الإعراض؛
فكمـا تُعرِض يُعـرَض عنـك. فيـا لهـا مـن تذكـرة ما أعظم عِبَرها وأغزرها لمن تدبرها!
فحري بالدعاة إلى الله - تعالى - خاصة الوقوف عندها كثيراً واستخلاص
الدروس والعِبَر التي تزخر بها هذه التذكرة العظيمة
جعلنا الله من المنتفعين بمواعظه إنه جواد كريم.