تفكيك منظومة الفساد
بقلم عزالدين مبارك*
تكونت في العهد السابق شبكة عنكبوتية محكمة التنظيم من الفساد في كل المجالات والقطاعات لا تغيب عنها لا شاردة ولا واردة فأصبحت الدولة حقلا من الفساد المهيكل ومرتعا لمافيات النهب والسطو والمحسوبية والرشاوي وتجاوز السلطة.
ولتنفيذ كل المعاملات الخارجة عن القانون والتحكم في آليات الفساد المنظم أنتدب الأشخاص المكلفون بذلك وتم ترويضهم للقيام بالمهام الموكولة إليهم تحت غطاء الأوامر واستعمال عصا الترهيب والدسائس وفبركة القضايا والحيل الشيطانية لإسكات البعض أو جزرة العطايا والامتيازات والمناصب والترقيات لشراء ذمم البعض الآخر.
ونتيجة لهذه السياسة المتبعة ومع مرور الزمن أصبح القليل من الناس خارج منظومة الفساد وهم في الغالب متابعون ومطاردون ومحاصرون أو في السجون قابعون.
أما أكثر الناس فهم مشاركون في الفساد أو متواطئون أو مستعملون له لأن وجوده أصبح بالظاهرة والعرف الجاري به العمل ولا يمكن القيام بشيء ولو بسيط دون الإتيان بفعل فاسد محظور.
وأخطر أنواع الفساد ما يقوم به أهل القمة من السلطة فهم بيدهم الحل والربط ويتحكمون بفعل وظائفهم السامية بجيش من الموظفين وبهياكل متعددة ومصالح كثيرة تهم دواليب الدولة والشأن العام.
والفساد المستشري في بلادنا مع الأسف الشديد هو فساد من هذا النوع الذي تصعب مقاومته وحصره والتخلص منه لأنه متجذر في العقول ومرتبط بمصالح فئات متنفذة ومتغولة ولها الكثير من المال والجاه ولا يمكن التنصل من هذه المسؤولية التاريخية بأي شكل من الأشكال لأن إفساد المجتمع من الكبائر والمحرمات وشكل من أشكال الحرب الأهلية.
وبما أن الفساد المتعلق بالمسؤولين الكبار في المؤسسات ومراكز القرار في دولة الفساد وولائهم للفاسد الأكبر بن علي ليس محل جدال فإنهم بمنطق التبعية التراتبية ضالعون في منظومة الفساد وكل حسب مقداره.
وبما أن مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية هي نتيجة حتمية لمنظومة الفساد والتي خلفت الفقر والتهميش والبطالة والمظالم فلا بد أن نحمل الفاسدين والقائمين على الفساد تبعات أعمالهم وأقل عقاب لهم هو المغادرة الفورية لأماكن عملهم حتى لا يتمادون في أفعالهم الفاسدة لأن ما بالطبع لا يتغير.
ونظرا لصعوبة التحقيق مع العدد الهائل من الموظفين السامين علما بأن القليل منهم كان بعيدا عن الشبهة لأنه في حكم المؤكد ضلوع هؤلاء في منظومة الفساد المستشرية في مفاصل الإدارة التونسية، فقد بات من المنطق تغيير من كانوا في رتبة مدير إلى ما فوق بموظفين آخرين بعيدين عن الشبهات والشك.
وأكبر خطأ وقعت فيه الحكومات التي حلت بعد الثورة هو أنها تركت جحافل الفاسدين في أماكنهم ظنا منها أنهم يعرفون الملفات أو يمكن إصلاحهم أو محاسبتهم بعد التثبت في جرمهم وهذا التمشي ترك لهم المجال فسيحا لطمس الحقائق وتغيير جلودهم حتى وصل بهم التملق بالتقوى المزيفة ولباس جبة الثورية المفتعلة.
فهل إدارتنا عاقر وليس بها كفاءات نظيفة حتى نمكنها من المساهمة الفعلية في تحقيق أهداف الثورة وتغيير واقع الإدارة ونتمسك بمن كانوا ومازالوا يتمعشون من كفاءات من لم تنصفهم منظومة الفساد والمحسوبية ويلحسون من قصاعهم العامرة ناكرين المعروف والجميل؟
فلا يمكن بناء دولة خالية من الفساد وتحقيق أهداف الثورة دون إحالة الفاسدين على التقاعد الوجوبي ورميهم في مزبلة التاريخ ومنحهم شهادة '' فاسد'' من جامعة بن علي للفساد والمحسوبية حتى تكون عبرة لهم وللمتلهفين على السلطة والمال.
فتفكيك منظومة الفساد أهم حتى من الدستور نفسه والقوانين لأن من سينفذ ويشرف على الحياة العامة ويسير دواليب الدولة هم الأشخاص وليس النصوص الجامدة.
فقد كانت لنا أجمل النصوص وأروعها لكنها تركت جانبا للديكور والزينة في الرفوف ونفذ ما هو عرفي وحسب أهواء الأسياد وذلك بتطبيق ما هو معروف في الإدارة بالسلطة التقديرية وهذا يعني في منظومة الفساد بتحكيم مبدأ المحسوبية والأقربون أولى بالمعروف والأهل والعشيرة والشلة وهلم جرا.
فمحاربة الفساد تكون بالأساس وقائية بالحد من السلطة التقديرية الممنوحة للمسؤولين جزافا وبدون ضوابط قانونية وقضائية وتحديد آليات معارفية وإجرائية لما يعرف بسوء التصرف الإداري والمالي.
فلا بد من العمل ضمن مبادئ الاقتصاد المقيد والحوكمة الرشيدة للتمكن من الاستغلال الأمثل للموارد ونحن دولة نامية ذات موارد متواضعة ورأس مالنا الوحيد والمتوفر هو الموارد البشرية مما يعطي للتعليم والتكوين أهمية قصوى وعنصر أساسي للتمكن من التطور السريع وخلق الثروة بعد إنجاز أهداف الثورة.
فلا يمكن تحقيق التنمية المتوازنة والعادلة والمستدامة دون التخلص نهائيا من هدر الموارد المتاحة والقضاء بالخصوص على منظومة الفساد ورجالاتها من الجذور وهذا من المهام الأساسية للعدالة الانتقالية الشاملة.
*كاتب ومحلل سياسي واقتصادي