غداً يقف على صعيد عرفات أكثر من ثلاثة ملايين مسلم يرجون رحمة ربهم، لا فضل لأحد هم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح والاجتهاد في ما يرضي رب الخلق الواحد الأحد الذي تخضع له الرقاب وترجو لطفه ومغفرته العباد.. جاءت تلك الجموع من أقطار الأرض تلبية لنداء خالد منذ أن صدع به أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام وسيبقى صداه يتردد في جوانح المؤمنين ما بقيت السموات والارض.
في مثل هذا اليوم قبل، أكثر من ألف وأربعمئة عام، وقف رسول الرحمة والعدالة والإنصاف سيد ولد آدم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفات متجهاً إلى القبلة ليقول كلماته الخالدات حضاً على التمسك بقيم هذا الدين ومبادئ شريعته ونظم العلاقة بين البشر في ظل الاحتكام إلى أوامره.. قال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع". ونزلت "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة – 3).
في ذلك اليوم الخالد ـ الذي تتكرر ذكراه كل عام ـ أدرك العقلاء الموفقون أن المسؤوليات تعاظمت وأن الأمانات ثقلت، فلم يعد القرآن ينزل ليصحح الأخطاء البشرية ولم يعد المعصوم بين الناس يرشدهم إلى الحق قبل أن يتساقطوا في حياض الباطل.. يومها بكى العبقري الفذ الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أدرك بفطرته النقية وطبعه الأصيل وعقله المستشرف "أنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".. وكان "هاجس النقصان" هو الذي يؤرق المؤمنين على مر تاريخ هذا الدين وأهله، فهم على يقين أن "الوداع" لم يكن إلا بعد تبليغ الرسالة وأداء الأمانة وأن ما بين أيديهم من قرآن يتلا وسنة تتبع فيهما ما تستقيم به حياة البشر وفق مراد الله، ففيهما أسس العدل ومعيار المساواة بين الناس كما فيهما ضوابط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومبادئ إنشاء وتسيير مرافق الحياة التي تضبط العلاقة بين أفراد المجتمع وكيف يديرون حياتهم بما يحفظ أرواحهم وأموالهم والمبادئ ويحكم مناهج التعامل مع الآخر في أحوال السلم والحرب وإلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة.
هذا اليقين ـ الكنز الثمين ـ لم يغب عن عقول وقلوب المؤمنين بصلاحية هذا الدين لحياة الناس وقدرة مبادئه على حفظ المنجز الإنساني وتطوره ودفع الحضارة البشرية إلى أقصى درجات الرقي مع حفظ توازنها الروحي والمادي.
وإذا كانت مسيرة المسلمين تعرف الكثير من العثرات وغياب تعاليم الدين من حياتهم اليومية فإن المنصفين يقرون بأن مراحل ترقيها ومحطات تقدمها ارتبطت بمبادئ الدين التي ترسخ مبدأ العدالة بين الناس: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى – 15).. "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف..".. والعدل بين الناس يرتكز إلى قاعدة المساواة البشرية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
هذه المبادئ العظيمة هي التي ارتقت بها حياة المؤمنين، وهي التي استقامت بها حياتهم وانضبطت بها العلاقة بين الحكام والمحكومين حين أدرك الطرفان حدود مسؤولياتهم وتخوم واجباتهم وشعروا بعظم المسؤولية وثقل الأمانة فنهض كل طرف بما عليه.. "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً" (النساء – 58) .. ويقول نبي الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة".. وقال "من أخون الخيانة تجارة الوالي في رعيته".
وإذا كان الحاكم مطالباً بالعدل والإنصاف وحماية الحقوق والأعراض وصون الكرامة وأسباب العيش الكريم وفق دورة الحياة فإن الناس مطالبون بالروح الإيجابية تجاه أوطانهم وحكامهم، فهم جزء أساس من "دائرة" العدالة التي هي أساس بناء الأمم وسبب نهضتها ومنطلق تطورها.. ولهذا يطالب الناس بالتفاعل الإيجابي مع الأنظمة التي تدفع بالتنمية وتحفظ المال العام وتصون الوطن وأي تخاذل عن ذلك يعد تقصيراً في أداء الواجبات.
الوقوف على صعيد عرفات "رمز" لكمال الدين وتمام التدين وإليه يتطلع المسلمون في كل أصقاع الأرض وثمرته اصطحاب معانيه الجامعة وإنزالها على واقع الحياة وترجمتها في سلوك يهذب الأخلاق ويحيي الضمائر ويحفظ الحقوق وإلا أصبحت "قشورا" لا تتجاوز المظاهر الخادعة والطقوس الجامدة الخاوية من الأثر الإيجابي. الوقوف على صعيد عرفات تحت لافتة "المساواة" رمز يلهم الإنصاف واحترام الآخر وقبول الاختلاف والاعتقاد باتساع رحمة الله لعباده المؤمنين.
اليوم ـ على صعيد عرفات ـ وعلى خطى الرسول الكريم ـ ماذا نتذكر من هذه المبادئ والقيم؟ وأين هي من حياة المسلمين؟.. وهل استطاع أهل الرأي والفكر والحكم أن يجعلوا من هذه المبادئ روح الأنظمة العصرية التي توجب الانفتاح على الآخر والعيش في مقتضيات الواقع دون التخلص من مبادئ الدين؟.. هل سيكتفي المسلمون من ذكريات عرفة بذرف الدموع والابتهال في لحظة روحية ما تلبث أكدار الحياة ومشاغلها أن تجرفهم بعيداً عنها؟.
ماذا يبقى من معاني الوقوف بعرفات في نفوس المسلمين لنبذ الفرقة والشتات؟ وكيف يتحول هذا اليوم المشهود إلى واقع يخلص المؤمنين من حال الشتات والشقاق ونبش "ملفات" التاريخ لإشعال المزيد من الحرائق؟.
سيظل هذا "الرمز" وقودا يشعل ضوء الأمل.
محمد المختار الفال
في مثل هذا اليوم قبل، أكثر من ألف وأربعمئة عام، وقف رسول الرحمة والعدالة والإنصاف سيد ولد آدم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفات متجهاً إلى القبلة ليقول كلماته الخالدات حضاً على التمسك بقيم هذا الدين ومبادئ شريعته ونظم العلاقة بين البشر في ظل الاحتكام إلى أوامره.. قال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع". ونزلت "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة – 3).
في ذلك اليوم الخالد ـ الذي تتكرر ذكراه كل عام ـ أدرك العقلاء الموفقون أن المسؤوليات تعاظمت وأن الأمانات ثقلت، فلم يعد القرآن ينزل ليصحح الأخطاء البشرية ولم يعد المعصوم بين الناس يرشدهم إلى الحق قبل أن يتساقطوا في حياض الباطل.. يومها بكى العبقري الفذ الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أدرك بفطرته النقية وطبعه الأصيل وعقله المستشرف "أنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".. وكان "هاجس النقصان" هو الذي يؤرق المؤمنين على مر تاريخ هذا الدين وأهله، فهم على يقين أن "الوداع" لم يكن إلا بعد تبليغ الرسالة وأداء الأمانة وأن ما بين أيديهم من قرآن يتلا وسنة تتبع فيهما ما تستقيم به حياة البشر وفق مراد الله، ففيهما أسس العدل ومعيار المساواة بين الناس كما فيهما ضوابط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومبادئ إنشاء وتسيير مرافق الحياة التي تضبط العلاقة بين أفراد المجتمع وكيف يديرون حياتهم بما يحفظ أرواحهم وأموالهم والمبادئ ويحكم مناهج التعامل مع الآخر في أحوال السلم والحرب وإلى غير ذلك من شؤون وشجون الحياة.
هذا اليقين ـ الكنز الثمين ـ لم يغب عن عقول وقلوب المؤمنين بصلاحية هذا الدين لحياة الناس وقدرة مبادئه على حفظ المنجز الإنساني وتطوره ودفع الحضارة البشرية إلى أقصى درجات الرقي مع حفظ توازنها الروحي والمادي.
وإذا كانت مسيرة المسلمين تعرف الكثير من العثرات وغياب تعاليم الدين من حياتهم اليومية فإن المنصفين يقرون بأن مراحل ترقيها ومحطات تقدمها ارتبطت بمبادئ الدين التي ترسخ مبدأ العدالة بين الناس: "وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى – 15).. "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف..".. والعدل بين الناس يرتكز إلى قاعدة المساواة البشرية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
هذه المبادئ العظيمة هي التي ارتقت بها حياة المؤمنين، وهي التي استقامت بها حياتهم وانضبطت بها العلاقة بين الحكام والمحكومين حين أدرك الطرفان حدود مسؤولياتهم وتخوم واجباتهم وشعروا بعظم المسؤولية وثقل الأمانة فنهض كل طرف بما عليه.. "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً" (النساء – 58) .. ويقول نبي الهدى ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة".. وقال "من أخون الخيانة تجارة الوالي في رعيته".
وإذا كان الحاكم مطالباً بالعدل والإنصاف وحماية الحقوق والأعراض وصون الكرامة وأسباب العيش الكريم وفق دورة الحياة فإن الناس مطالبون بالروح الإيجابية تجاه أوطانهم وحكامهم، فهم جزء أساس من "دائرة" العدالة التي هي أساس بناء الأمم وسبب نهضتها ومنطلق تطورها.. ولهذا يطالب الناس بالتفاعل الإيجابي مع الأنظمة التي تدفع بالتنمية وتحفظ المال العام وتصون الوطن وأي تخاذل عن ذلك يعد تقصيراً في أداء الواجبات.
الوقوف على صعيد عرفات "رمز" لكمال الدين وتمام التدين وإليه يتطلع المسلمون في كل أصقاع الأرض وثمرته اصطحاب معانيه الجامعة وإنزالها على واقع الحياة وترجمتها في سلوك يهذب الأخلاق ويحيي الضمائر ويحفظ الحقوق وإلا أصبحت "قشورا" لا تتجاوز المظاهر الخادعة والطقوس الجامدة الخاوية من الأثر الإيجابي. الوقوف على صعيد عرفات تحت لافتة "المساواة" رمز يلهم الإنصاف واحترام الآخر وقبول الاختلاف والاعتقاد باتساع رحمة الله لعباده المؤمنين.
اليوم ـ على صعيد عرفات ـ وعلى خطى الرسول الكريم ـ ماذا نتذكر من هذه المبادئ والقيم؟ وأين هي من حياة المسلمين؟.. وهل استطاع أهل الرأي والفكر والحكم أن يجعلوا من هذه المبادئ روح الأنظمة العصرية التي توجب الانفتاح على الآخر والعيش في مقتضيات الواقع دون التخلص من مبادئ الدين؟.. هل سيكتفي المسلمون من ذكريات عرفة بذرف الدموع والابتهال في لحظة روحية ما تلبث أكدار الحياة ومشاغلها أن تجرفهم بعيداً عنها؟.
ماذا يبقى من معاني الوقوف بعرفات في نفوس المسلمين لنبذ الفرقة والشتات؟ وكيف يتحول هذا اليوم المشهود إلى واقع يخلص المؤمنين من حال الشتات والشقاق ونبش "ملفات" التاريخ لإشعال المزيد من الحرائق؟.
سيظل هذا "الرمز" وقودا يشعل ضوء الأمل.
محمد المختار الفال