منهج تصنيف العلوم بين التقليد والتأصيل
تمهيد :
ليس علم تصنيف العلوم علماً وصفياً صرفاً . يكتفي بإحصاء ما هو كائن من المعرفة البشرية ، ويعقبها بالترتيب بعديا ليقدمها تقريرا للناس يصف ما كان ليبني عليها ما يكون في نطاق التدرج المعرفي الإنساني العام ، بل إن هذا العلم يحمل في ظاهره الوصفي التقريري غاية معيارية تتمثل في اتخاذه من وصف ما كان في واقع العلوم بناء لما ينبغي أن يكون في توجهات العقل إلي مواضيع المعرفة سواء على مستوى تربوي بالإرشاد إلي كيفية استيعاب العلوم وتمثلها ، أو على مستوى إبداعي بالتوجيه إلي المستجد من مناطات الاستكشاف العقلي بحسب ما يقتضيه تقدم الحياة الإنسانية .
ولذلك فإن هذا العلم أشبه التاريخ في مظهره الوصفي لما هو واقع في حقل المعرفة الإنسانية من جهة ، وأشبه المنطق في تحديده لما ينبغي أن يجري عليه العقل فيها من جهة أخري ، حتى إنه سمي « بمنطق العلوم » فكان علما وصفيا معياريا في نفس الآن .
إلا أن هذه الوصفية التي أشبه بها التاريخ ، وهذه المعيارية التي أشبه بها المنطق لم تكونا لتجعلا منه علما موضوعيا مثل علم التاريخ وعلم المنطق ؛ ذلك لأن غايته المعيارية ليست بقضايا العقل الفطرية كما هو الحال في المنطق وسائر العلوم الموضوعية الأخرى ، بل هي متقومة بالموقف الوجودي للإنسان فيما يراه من حقيقة الوجود وموقعه هو ذاته من تلك الحقيقة ، ليصوغ من تصنيف العلوم منهاجا يتناسب مع ذلك الموقف ،ويخدم المآل الذي يرسمه الإنسان لنفسه فيه .
ولذلك فإن هذا العلم يحمل عبر تاريخه في طيات مسحته الإحصائية الوصفية أبعادا أيديولوجية عقدية ، كما ظل يعكس الخصائص الفكرية والثقافية للبيئات التي تحتضنه ، والأعلام الذي عرفوا بالتأليف فيه ، خاصة عندما يتعلق الأمر بطور من أطوار التجديد [1] ؟ بل إن الصفة المنطقية التي يتصف بها هذا العلم ترشحه لأن يكون في مضمار الكشف عن الخصائص الفكرية الثقافية لمن تعاطي البحث والتأليف فيه مادة ممتازة لتبين تلك الخصائص والميزات وشرحها وتحليلها ،وذلك بما ممتازة لتبين تلك الخصائص والميزات وشرحها وتحليلها ،وذلك بما هو رسم منهجي لما ينبغي أن تؤول إليه المعرفة الإنسانية ، الأمر الذي يجعله تعبيرا شبه مباشر عن خصائص فكرية ثقافية باعتبار أن الثقافة تعني منهجية الإنسان تحقيق حياته العقلية والعملية [2] ، والفكر يعني حركة العقل في عملية المعرفة للوصول إلي الحقيقة [3] .
إنه هذه المعاني تبدو واضحة في ذلك التصنيف للعلوم المأثور عن أرسطو ، والذي يعتبر أنضج تفسير في الفكر الفلسفي القديم ، كما أنه يعتبر التصنيف الذي ظل موجها للفكر التصنيفي بعده قرونا طويلة من الزمن في ظل التوجيه العام الذي كان للفكر الأرسطي على وجه العموم .
لقد قسم أرسطو العلوم إلي قسمين رئيسيين . يندرج تحت كل منهما جملة من العلوم الفرعية على النحو التالي :
1- 1- علم نظري . غايته مجرد المعرفة ، وينقسم إلي ثلاثة أقسام وهي :
(أ) علم ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولي ، أو العلم الإلهي ، وهو بحث في الوجود المطلق .
(ب) العلم الرياضي ، وهو البحث في الوجود من حيث هو مقدار وعدد .
(جـ) العلم الطبيعي ، وهو البحث في الوجود من حيث هو محسوس متحرك .
2- 2- علم عملي ، وغايته المعرفة لأجل تدبير الأفعال الإنسانية . وهو أربع شعب :
(أ) (أ) علم الأخلاق
(ب) (ب) علم تدبير
(ت) (ت) علم السياسية
(ث) (ث) الفن والشعر
أما المنطق فإنه غير داخل في هذا التقسيم ، لأن موضوعة ذهني ، وهو آلة للعلو كلها [4] .
إن هذا التقسيم الأرسطي يمتزج فيه وصف العلوم التي كانت على عهد أرسطو الذاتي لما ينبغي أن تنتهجه المعرفة الإنسانية بناء على فلسفته في بنية الوجود التي تترتب فيها الموجودات ترتيبا شرقيا متنازلا من أكثرها تجريدا إلي أكثرها اتصالا بالمادة ، وهو ما يحكي تلك الصورة المأثورة عن أرسطو في تدريجه للموجودات الكونية درجات : أعلاها المحرك الأول الواجب الوجود ، وأدناها الكائنات التي لا أعضاء لها الشبيهة بالهيولي ، مرورا بعالم ما فوق فلك القمر الذي يشمل الكواكب التي لا ينالها الكون والفساد ، ثم بعالم ما تحته الذي يشمل ما يناله الكون والفساد لاختلاطه بالمادة [5] .
كما أنه يعكس خاصية البنية الفكرية التي ميزت العقلية اليونانية على وجه العموم ، وهي خاصية التجريد كما تبدو في الفصل بين العلوم على أساس نسبتها من التجريد وإناطة الشرف والإجلال بها على ذلك الاعتبار . وكما تبدو أيضا في انبناء هيكلية التقسيم بحسب تصور نظري مجرد تابع لصورة الوجود في الذهن ، أكثر من انبنائها على لواقع المعرفة الإنسانية وما أثمرته من علوم .
كما أن هذا التقسيم يعكس أيضا خاصية المفاضلة والمباعدة في الفكر الأرسطي . فالعلم النظري كأنما هو مفاصل تماما للعلوم النظرية ، فإن غايته هي المعرفة فحسب ، وليس له من مدخل في العمل السلوكي ،إذ المعرفة بالتعقل غاية في حد ذاتها بل هي أشرف غايات الإنسان ، وكأنما الإنسان يعيش ثنائية ذات طرفين متدابرين متقاطعين : التعقل الذي يشده إلي عالم المجردات ،والعمل الذي يشده إلي عالم المحسوسات . ولعل هذه الخاصية تعتبر هي بدورها تظهيرا للتصور الوجودي لأرسطو حيث واجب الوجود عنده حرك العالم ثم تركه يتحرك وأصبح عنه بعيدا لا يتدخل في شؤونه حتى على سبيل العلم به إلا أن يكون علما بالكليات .
على هذا النحو من التفاعل بين علم تصنيف العلوم وبين مقومات التصور الوجودي ، والخصائص الثقافية للمصنفين نجد سائر التصنيفات التي وصلتنا من نتائج أزمنة مختلفة وأعلام متعددين ، فماذا كان الأمر بالنسبة لتصنيف العلوم عند المسلمين من حيث علاقة ذلك التصنيف بما أحدثه لتصنيف العلوم عند المسلمين من حيث علاقة ذلك التصنيف بما أحدثه عنصر التدين بالإسلام في عقول المسلمين من تصور للوجود ولدور الإنسان فيه ، وماذا أبرز من خصائص فكرية ثقافية متميزة ؟
I- I- علم تصنيف العلوم عند المسلمين :
لم يحظ علم تصنيف العلوم عند المسلمين بما يليق به من الدراسة والتحليل ،سواء من قبل الدراسين المسلمين أنفسهم ، أو من قبل الدراسين عامة ،فالمسلمون يندرج ضعف اهتمامهم بدراسة هذا العلم ضمن ضعف اهتمامهم بالعلوم المنهجية عامة . وأما عامة الدراسين فإن أغلب دراساتهم في تصنيف لتنقل من التقسيم القديم المتأثر بتقسيم أرسطو إلي تصنيف روجر بيكون ( 1214-1268 )Roger Bacon وفرانسيس بيكون ( (1625-1561) Francis Bacon .
1- 1- أهم المؤلفات في هذا العلم :
ويقابل هذا الضعف العلوم عند المسلمين وفرة في الإنتاج من قبلهم فيه ، وثراء في المحتوي ، وجدة وابتكارا في البناء التصنيفي ، مما يخرج من أن يكون مشاركة عابرة في هذا العلم ، ويمثل بحق مدرسة إسلامية في تصنيف العلوم ، وهو ما تضمنته مجموعة واسعة من المؤلفات عبر أزمة متتالية تمحض بعضها لتصنيف العلوم خاصة ، واشتمل البعض الآخر على عادة المسلمين القديمة في التأليف الموسوعي . وإذا كان تتبع ما ألفه المسلمون في هذا الغرض تتبعا إحصائيا كاملا غير ميسور في هذا المقام فإننا نعرض فيما يلي لائحة بأهم ما وصلنا من مؤلفات إسلامية في تصنيف العلوم منفردة أو مشتركة ، مما نقدر أنه كان له إسهام في إنضاج هذا الفن من فنون المعرفة ، وأنه يمكن الدارس من تبين خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف ،وأنه يمكن الدارس من تبين خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف ، وميزاته فيه . وسنورد هذه اللائحة في نسق تاريخي على النحو التالي :
1- 1- « إحصاء العلوم » للفارابي ( أبي نصر محمد بن محمد ، ت 339 هـ ) .
2- 2- « رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا » ( منتصف القرن 4 هـ ) .
3- 3- « مفاتيح العلوم » للخوارزمي ( محمد بن أحمد بن يوسف ،ت 386 هـ ) .
4- 4- « الفهرست » لا بن النديم ( محمد بن إسحاق ،ت 438 هـ ) .
5- 5- رسالة « أقسام العلوم العقلية » لا بن سينا ( ت 428 هـ ) .
6- 6- رسالة « مراتب العلوم » لا بن حزم ( ت 456 هـ ) .
7- 7- « طبقات العلوم » للأبيوري ( أبي المظفر محمد بن أحمد ، ت 507 هـ ) .
8- 8- « المقدمة » لا بن خلدون ( ت 808 هـ ) .
9- 9- « مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم » لطاش كبرى زاده ،( ت 968 هـ ) .
10-« كشف الظنون عن أسامي الكبت والفنون » لحاجي خليفة ، ( ت 1067 هـ ) .
10- 10- « كشاف اصطلاحات العلوم » للتهانوي ( محمد بن علي ، ت بعد 1158 هـ ) .
11- 11- « أبجد العلوم » لصديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ / 1889 م ) [6].
وليست هذه المؤلفات متساوية في قيمتها التصنيفية ، ولا في تمثيلها لخصائص الفكر الإسلامي الأصلية كما سيظهر بعد حين ،ولكنها تبين العناية المستمرة من قبل المسلمين بهذا العلم ،والإنضاج المطرد لشكله ومحتواه تمشيا في ذلك مع واقع العلوم الإسلامية في تناميها وتوسعها وتفرعها .
وإذا ما تجاوزنا ما أثر عن أبي يوسف يعقوب الكندي ( ت 252 هـ / 868 م ) من محاولة متواضعة لتصنيف العلوم [7] ، فإننا نجد الفارابي ينهض بعمل تصنيفي رائد في نطاق الفكر الإسلامي حتى ليعتبر عمله ذاك أقرب إلي الفطرة منه إلي التدرج الطبيعي المتنامي إذا ما نظرنا إليه في نطاق ذلك الفكر ، وإذا ما وجدنا لهذه الطفرة تفسيرا في تأثر الفارابي في تصنيفه بالحصيلة التصنيفية الموروثة عن أرسطو ،والتي بلغ عمرها ما ينيف عن الألف عام ، فإننا نجد في نفس الآن تصنيفات أخرى متأثرة بالموروث الأرسطي ، وهي متأخرة زمنيا على الفارابي ، ولكنها من حيث قيمتها التصنيفية تنقص كثيرا عن تصنيف الفارابي ، وهو ما يصح في حق كل من تصنيف ابن سينا وإخوان صفا .
وإذا ما انتقلنا إلي ابن النديم فإننا نجد بداية المحاولة التصنيفية النابعة من واقع الفكر الإسلامي في غير تأثر يذكر بثقافات أخرى . ثم تنمو هذه المحاولة نموا طبيعيا متدرجا في النضج عند ابن حزم والأبيوري لتبلغ مستوى رفيعا عند ابن خلدون ابن خلدون حيث تظهر في تصنيفه خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف واضحة المعالم .
ثم يأتي طاش كبرى زاده ليكون تصنيفه تتويجا مستوفيا للفكر التصنيفي الإسلامي ،بل خلاصة عميقة الدلالة للتراث العلمي الإسلامي وقد أخذ وضع الاستقرار وكف عن النمو أو كاد ، فجاء« مفتاح السعادة » يسجل في نسق تصنيفي منهجي العلوم الموجودة في دائرة الثقافة الإسلامية بأوسع وأشمل ما عرف في الفكر الإسلامي من تصنيف . وكل من جاء بعد ابن خلدون وطاش كبرى زاده من مصنفين إنما هم مقتبسون منهما سائرون على خطاهما في الأكثر .
2- 2- غاية تصنيف العلوم :
حملت أغلب هذه المؤلفات في مقدماتها تعريفا بعلم تصنيف العلوم أو علم تقاسيم العلوم كما يسمى أحيانا ، فوضحت طبيعته كما وضحت غايته بما يبين الإطار العام الذي يندرج فيه هذا العلم ، وهو ما قصده الفارابي في فاتحة كتابه حينما قال : « قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما ، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها ،وأجزاء كل ما له منها أجزاء ، وجمل ما في كل واحد من أجزائه » [8] . وهذا المعني هو نفسه الذي عبر عنه طاش كبرى زاده في تعريفه لعلم التصنيف إذ يقول : « هو علم باحث عن التدرج من أعم الموضوعات إلي أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم » [9] .
ومن البين أن هذين التعريفين صيغا بما يدل على أن هذا العلم بني بحيث يكون إحصاء منهجيا للمعارف بغاية التسهيل في استيعابها ،وهو ما يفسر انبناء التعريفين على معني التجزئة في العلوم وإدراج الأخص في الأعم . وهو معني ذو غاية تعليمية واضحة عبر عنها الفارابي بدقة في بيانه لمنافع كتابه « إحصاء العلوم » إذ يقول : « وينتفع بما في هذا الكتاب لأن الإنسان إذا أراد أن يتعلم علما من هذه العلوم وينظر فيه علم على ماذا يقدم ،وفي ماذا ينظر ،وأي شيء سيفيد بنظره ، وما غناء ذلك ، وأي فضيلة تنال به ، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا عن مي وغرور . وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم ، فيعلم أيها أفضل ،وأيها أنفع ، وأيها أتقن وأوثق وأقوى ، وأيها أوهن وأوهي » [10] ، وهذا المعني ذاته هو الذي أشار إليه طاش كبرى زاده في قوله : « إن الفنون كثيرة ، وتحصيل كلها بل جلها يسيرة، مع أن مدة العمر قصيرة ، وتحصيل آلات التحصيل عسيرة ،فكيف الطريق إلي الخلاص من هذا المضيق ؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسما ورسما وموضوعيا ونفعا وفيما اخترعت من التفصيل في طريق التحصيل » [11] .
ويتبين مما تقدم أن هذا العلم استحدثه المسلمون في إطار منهجي معرفي تربي ، وليس لاستحداثه في هذا الإطار من قبل مسلمين وفي مجال ثقافي إسلامي من غاية سوى أن يكون عاملا على بناء فكر إسلامي متقوم بحقيقة العقيدة الإسلامية الشاملة كما شرحتها العلوم الكثيرة التي هي مادة التصنيف في علم تصنيف العلوم ، وليس هذا بمتناقض مع تكوين الفكر على خصائص منهجية ثقافية في المعرفة بوجه عام بل هو تدعيم لذلك التكوين مع توجيهه الوجهة التي تبرز فيها صفات فكرية ثقافية متأتية بالداعي العقائدي الإسلامي ،وكفيلة في نفس الوقت بأن تمكن من استيعاب الحقيقة الإسلامية التي جاءت العلوم لشرحها .
وإذا كنا لا نظفر في مقدمات التآليف التصنيفية موضوع دراستنا ببيانات مباشرة في هذا المعني الذي قررناه آنفا ، فإننا نحسب أن سببه قيام ذلك المعني في الأذهان على وجه يقارب البداهة مما يجعله أصبح تكوين الفكر على أساس استيعاب الحقيقة الدينية محل جدل بين قابل مؤيد وبين رافض منكر . ويكفي في بيان ذلك أن نرجع إلي ما قاله الإسلاميون على اختلاف وجهاتهم في بيان حقيقة العلم بصفة عامة – وليس تصنيف العلوم إلا جزءا منه – وفي غايته وثمرته ، فإننا حينئذ نجد أن العلم ليس إلا طريقا لتحصيل الحقيقة الدينية والسعادة بها تفكرا وتطبيقا ، وهو ما عناه الفارابي ، بقوله : إن العلم كنز مدفون يفوز من سهل الله طريقه إليه [12] .
وإذا كان الأمر على ما بينا في استحداث هذا العلم في البيئة الثقافية الإسلامية م حيث الغاية التي استحدث لأجلها . وما تقومت به بنيته هيكلا وصفات من خصائص وميزات تبلغ إلي ذلك الهدف ، فما هو واقع الفكر التصنيفي الإسلامي في مسعاه إلي أن يشكل ذاته على البنية المطلوبة الكفيلة بتحقيق الغاية المرسومة ؟ وما هي الأساليب التي اتخذها ، والاتجاهات التي اتجهها في سبيل ذلك ؟
إن المتأمل في التصانيف التي قدمنا ذكرها من جهة هيكلها وخصائصها التصنيفية ، ومن جهة بنيتها الداخلية ، وعلاقتها بواقع العلوم في البيئة الثقافية الإسلامية تبينا في كل ذلك لنسبتها مما ينبغي أن تحقق من غاية في تكوين فكر إسلامي قادر على استيعاب الحقيقة الدينية الإسلامية في مختلف مظاهرها ، إن المتأمل في تلك التصانيف يلاحظ بسهولة وجهتين مختلفتين في التصنيف ، تتمايزان في الهيكلة العامة ، كما تتمايزان في الخصائص التصنيفية والبنية الداخلية ، وهو ما ينتهي باختلاف بينهما في النسبة من الغاية التي رامت كل التصانيف تحقيقها : أما الوجهة الأولي ، فهي وجهة يظهر بوضوح التأثر بالتصنيف الأرسطي للعلوم ، ولذلك فإننا سنسميها الوجهة التقليدية . وأما الثانية فهي وجهة حاولت أن تشتق أصولا للتصنيف من خصائص البيئة الثقافية الإسلامية المتأتية بالداعي العقائدي الإسلامي ، ولذلك فإننا سنسميها بالوجهة التأصيلية ، وسنحاول فيما يلي أن نتبين واقع وخصائص كل من الوجهتين من خلال تحليل نماذج من التصانيف نقدر أنها أكثر من غيرها للوجهة التي تنتمي إليها .
II- II- الوجهة التقليدية في تصنيف العلوم :
لا نجد صعوبة في تعيين المنصفات التي تندرج ضمن هذه الوجهة ، إذ أن نظرة متأنية على هيكل التصنيف تحدد ما إذا كان له صلة بتصنيف أرسطو أو هو متحرر منه .
ومن الناحية التاريخية فإن هذه الوجهة التقليدية كانت أسبق ظهورا من الوجهة التأصيلية ، كما أنها كانت مواكبة لظهور النزعة الفلسفية اليونانية في الفكر الإسلامي التي كانت بدايتها على يد الكندي ، ثم تدعمت بالفارابي وابن سينا من بعده .
ولما كانت هذه النزعة تقليدية فإننا نلاحظ في المؤلفات التي سنعرضها بعد حين أن التصنيف فيها كان على درجة من النضج تبين أنه يشبه أن يكون مرحلة متلونة بلون جديد إلا أن هيكلها يعتبر امتدادا لهيكل قديم . ويمكن أن نتبين هذا المعني من عرض موجز لبعض المؤلفات في تصنيف العلوم في هذه الوجهة.
1- 1- وقاع التصنيف في الوجهة التقليدية :
نرشح في عرض واقع التصنيف في هذه الوجهة ثلاثة من التصانيف نراها كفيلة بأن تعطينا صورة كاملة لهيكل التصنيف وخصائصه ، وقد راعينا في هذا الترشيح شمول ونضج هذه التصانيف ، كما راعينا أيضا تمثيلها لمختلف المنازع في التأثر والتقليد ، كما راعينا أيضا ما ورد فيها من بيانات وتعاليق تنظيرية من شأنها أن تساعدنا في البحث حينما نأتي إلي تقويم هذه الوجهة بعد عرض واقعها . وهذه الآثار الثلاثة هي : إحصاء العلوم للفارابي ، ورسائل إخوان الصفا ، وأقسام العقلية لا بن سينا .
( أ ) تصنيف العلوم عند الفارابي [13] : ألف الفارابي كتابا مفردا في تصنيف العلوم سماه « إحصاء العلوم » . وقد بين الفارابي نفسه في مقدمة كتابه الهيكل التصنيفي للعلوم كما بسطه وجزأه في أثناء الكتاب حيث قال :
« قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما ، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها ، وأجزاء كل ما له منها أجزاء ، وجمل ما في كل واحد من أجزائه ونجعله في خمسة فصول :
ـ الأول في علم اللسان وأجزائه .
ـ والثاني في علم المنطق وأجزائه .
ـ والثالث في علوم التعاليم : وهي العدد والهندسة وعلم المناظر ، وعلم النجوم التعليم ، وعلم الموسيقي ، وعلم الأثقال ، وعلم الحيل .
ـ والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه ، وفي العلم الإلهي وأجزائه .
ـ والخامس في العلم المدني وأجزائه ، وفي علم الفقه وعلم الكلام » [14] .
وفي نطاق هذا التقسيم يعرف الفارابي العلم الطبيعي بقوله : « العلم الطبيعي ينظر في الأجسام الطبيعية ، وفي الأعراض التي قوامها في هذه الأجسام ويعرف الأشياء التي عنها والتي بها ، والتي لها توجد هذه الأجسام والأعراض التي قوامها فيها » [15] .
ويقول في العلم المدني : « إنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية ، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها الأفعال والسنن . وعن الغايات التي لأجلها تفعل » [16] .
ويعرف علم الفقه بأنه : « الصناعة التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده عن الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير ،وأن يتحرى تصحيح ذلك على غرض واضع الشريعة بالملة التي شرعها في الأمة التي لها شرع » [17] .
أما علم الكلام فهو : « صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خلفها بالأقاويل » [18] .
(ب) تصنيف العلم عند إخوان الصفا [19] : من خلال التوزيع الذي وزع به إخوان الصفا رسائلهم الاثنتين والخمسين على العلوم ، ومن خلال ما تناولته بعض تلك الرسائل مباشرة من تصنيف للعلوم وخاصة « رسالة الصنائع العلمية » نتبين صورة متكاملة العلوم عندهم ، وتتمثل هذه الصورة فيما يلي :
تنقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام رئيسية ، ويشتمل كل قسم على أجزاء وفروع على النحو التالي :
أولا : العلوم الرياضية أو علم الآداب وقد وضع أكثرها لطلب المعاش : ويشتمل على علم القراءة والكتابة ، وعلم النحو واللغة ، وعلم الشعر والعروض ،وعلم الحساب والمعاملات ، وعلم الزجر والأول ، وعلم العزائم والكيمياء والحيل ، وعلم الحرف والصنائع ، وعلم الحرث والنسل ، وعلم السير والأخبار .
ثانيا : العلوم الشرعية الوضعية ، وقد وضعت لطب النفوس وطب الآخرة . وتشتمل على علم التنزيل ، وعلم التأويل ،وعلم الروايات والأخبار ، وعلم الفقه والسنن والأحكام ، وعلم المواعظ وعلم تأويل المنامات .
ثالثا : العلوم الفلسفية الحقيقية : وتشتمل على أربعة أنواع :
ـ الرياضيات : وهي علم العدد والهندسة والنجوم والموسيقي .
ـ المنطقيات : وهي علوم صناعة الشعر ، والخطب والجدل ، والبرهان ، المغالطة .
ـ الطبيعيات :وهي علوم المبادئ الجسمانية ، والسماء والعالم والكون والفساد ، وحوادث الجو ، والمعادن والنبات والطب والبيطرة .
ـ الإلهيات : وهي خمسة أنواع : معرفة الباري ،وعلم الروحانيات ،على السياسة النبوية ، والسياسة الملوكية ، والسياسة العامة ، والسياسة الخاصة، والسياسة الذاتية [20] .
( جـ ) تصنيف العلوم عند ابن سينا [21] : أورد ابن سينا تقسيما للعلوم في العديد من مؤلفاته ، إلا أن أو في تصنيف له وأوضحه هو ذلك الذي أفرد له رسالة سماها « رسالة في أقسام العلوم العقلية » ولذلك فإننا سنعتمدها في توضيح تصنيف العلوم عنده .
قسم ابن سينا علوم الحكمة إلي قسمين رئيسيين : كل قسم منها يتفرع إلي فروع وأجزاء .
الأول : علوم نظرية مجردة ، وغايتها حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان ، وإنما يكون المقصود منها حصول رأي فقط مثل : علم التوحيد ، وعلم الهيأة ، وتنقسم هذه العلوم إلي ثلاثة أقسام :
ـ العلم الأسفل ، ويسمى العلم الطبيعي .
ـ العلم الأوسط ، ويسمى العلم الرياضي .
ـ والعلم الأعلى ، ويسمى العلم الإلهي .
ولكل علم من هذه العلوم أقسام أصلية . وأقسام فرعية ، ومما يندرج في العلم لأعلى ( العلم الإلهي ) :
- - النظر في معرفة المعاني العامة لجيمع الموجودات .
- - النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق .
- - النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده .
- - النظر في إثبات الجواهر الروحانية وهي الملائكة .
- - النظر في تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية.
- - معرفة كيفية نزول الوحي .
- - علم المعاد ، وهو الذي يبحث في أحوال البعث من السعادة والشقاوة الروحانيتين اللتين تعرفان بالعقل ،والبدنيتين اللتين تعرفان بالشرع .
الثاني : علوم عملية : والمقصود منها ليس حصول رأي فقط ، بل حصول رأي لأجل عمل ،وهي ثلاثة أقسام ك
- - علم الأخلاق : وهو الذي يعرف به الإنسان كيف تكون أخلاقه وأفعاله ، ويشتمل عليه كتاب أرسطو طاليس في الأخلاق .
- - علم تدبير المنزل : ويشتمل عليه كتاب « أرونس » في تدبير المنزل .
- - علم السياسة المدنية : ويشتمل عليه أفلاطون وأرسطو في السياسة ، ويلحق به ما يتعلق بالنبوة والشريعة . وهو ما يعرف به وجود النبوة وحاجة نوع الإنسان في وجوده وبقائه إلي الشريعة . وتعرف به بعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الصنائع ، والتي تخص شريعة شريعة بحسب قوم قوم وزمان زمان . ويعرف به الفرق بين النبوة الإلهية وبين الدعاوى الباطلة كلها [22] .
2- 2- خصائص الوجهة التقليدية :
إن هذه المؤلفات عرف أصحابها بتأثرهم الثقافي بالفلسفة اليونانية .
أما الفارابي وابن سينا فهما متأثران بالفلسفة الأرسطية . وأما إخوان الصفا فبأمشاج من الفلسفة الأفلاطونية . وهذا التأثر بالثقافة الفلسفية اليونانية كان ضمنه تأثر في تصنيف العلوم كان سائدا في الفكر اليوناني ومناطق نفوذه من تصنيف يعود إلي التصنيف الأرسطي .
وإذا كانت هذه التصانيف الثلاثة تختلف فيما بينها في نسبة التقليد فيها ، وفي مقدار ما تميزت به من عنصر الجدة ، فإننا نجدها تشترك في بعض الخصائص المشتقة في أغلبها من تأثرها بالتصنيف اليوناني مع اختلاف فيما بينها في درجة تحقق تلك الخصائص فيها ، وهو ما سنبينه فيما يلي :
( أ ) محاكاة الهيكلية الأرسطية : إذا تأملنا في الهيكل العام الذي أقيمت عليه التصانيف الآنفة الذكر ألفيناها كلها أخذت من الهيكلية الأرسطية في التصنيف ،مع تفاوت بينها في ذلك الأخذ بين استفادة ما وقع إدراجه ضمن هيكلة تبدو جديدة ، وبين محاكاته برمته .
فابن سينا يكاد في تصنيفه يقلد تماما أرسطو العلوم إلي نظرية وعملية ، وتقسيم النظرية إلي إلهية ورياضية وطبيعية ، وتقسيم العلمية إلي الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة .
ورغم أن الفارابي بني هيكل تصنيفه على خمسة أقسام فإننا إذا تجاوزنا القسمين الأولين ( علم اللسان وعلم المنطق ) باعتبار هما لا يدخلان في تصميم هيكل العلوم لأنهما من علوم الآلة ، فإن الأقسام الثلاثة الباقية تتوزع فيما بينها العلم والإلهيات ، والعلم العملي حيث خصص له القسم الخامس . وبهذا يكون الفارابي كأنما وزع القسم النظري عند أرسطو إلي قسمين هما الثالث والرابع في تصنيفه .
أما إخوان الصفا فكأنما فعلوا عكس ما فعله الفارابي ، حيث خصصوا القسم الأول والثاني للعلوم العملية في فصل بين علوم الآداب وعلوم الشريعة ، وخصصوا الثالث للعلوم النظرية فيما يشبه تماما العلوم النظرية عند أرسطو مع زيادة المنطقيات إذ جعلها أرسطو خارج الهيكل لأنه من علوم الآلة .
لقد اجتمعت هذه التصانيف في هيكلها على مبدأ الفصل بين العلوم النظرية والعلوم العملية ، وجعل النظرية تدور على الإلهيات والرياضيات والطبيعيات العملية تدور على الأخلاق والسياسة المدنية والمنزلية ،وهو ما يجعل هيكلها العام يحاكي الهيكلية الأرسطية .
إن العلوم الإسلامية العديدة التي نشأت بخاصة الدعوة الإسلامية لم يكن لها مدخل في تعديل ذي بال في الهيكلية التي اعتمدتها هذه التصانيف ، بل كان مصير ما أخذ بعين الاعتبار من هذه العلوم أن أدرج ضمن الهيكل الجاهز مسبقا ،فأصبح علم الفقه وعلم الكلام عند الفارابي مضمومين إلي العلم المدني في قسم العلوم العملية . وعند إخوان الصفا خصص قسم من قسمي العلوم العملية لبعض العلوم الإسلامية المستجدة مثل علم التأويل وعلم الروايات وعلم الفقه والسنن ، وعلم المواعظ . أما ابن سينا فقد تجاهل العلوم الإسلامية تماما ولم يدرجها ضمن تصنيفه .
( ب ) صيغة التجريد : تبدو هذه التصانيف مصطبغة بصيغة التجريد سواء على مستوى المنطلق المعرفي الذي صدرت عنه ، أو على مستوى البنية التي انتهت إليها ، والمادة التي أقيمت عليها تلك البنية .
فمن حيث المنطلق يبدو واضحا ‹أن هذه التصانيف لم تصدر عن إحصاء عملي لما هو واقع من العلوم بالفعل في العهد الذي أنجزت فيه ، بل تشبه أن تكون صدرت عن تصور ذهني مجرد لما يمكن أن تكون عليه المعرفة البشرية . لقد وضع الإطار الهيكلي للمعرفة ألوا بناء على تصور للوجود : موجودات لا تعلق لها بالأجسام ، وموجودات لها تعلق بالأجسام ، وأجسام طبيعة ، وإنسان له حياة اجتماعية ، ثم أدرجت في ذلك الهيكل أصناف العلوم بحسب مظاهر الوجود .
ولا نعني بما تقدم أن العلوم المدرجة في هذه التصانيف هي العلوم باعتبار إمكانها فحسب ، إذ وقع الإدراج لعلوم واقعة بالفعل ، ولكن نعني أن هذا التصور الذهني لهيكل العلوم السابق على العلوم والواقعة نفسها كان سببا في منهج انتقائي نتج عن إدراج لبعض العلوم التي تناسب الهيكل القبلي ، وإسقاط للكثير مما لا يناسبه من تلك العلوم الناشئة في الثقافة الإسلامية اللاحقة بالنسبة لذلك الهيكل الأرسطي النزعة .
ورغم أن الفارابي أشعر بأنه سيقوم في كتابه بإحصاء العلوم كما تفيده ترجمة كتابه « إحصاء العلوم » ، وكما وعد به في المقدمة حينما قال : « قصدنا في هذا الكتاب أن نحصى العلوم المشهورة علما علما » [23] . إلا أنه في واقع تصنيه أورد العلوم في مورد العموم من حيث تشترك فيها سائر الأمم مقتصرا على ذكر أجناس العلوم دون أن يوردها بأعيانها كما هي واقعة في عهده . في حديثه عن علم اللسان مثلا لم يذكر العلوم المندرجة فيه من نحو وصرف ولغة ، بل عمم القول في هذا العلم ، وجعل منطلقه « إن علم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى ، علم الألفاظ المفردة . وعلم الألفاظ المركبة ، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة ، وقوانين الألفاظ عندما تركب ، وقوانين تصحيح الكتابة ، وقوانين تصحيح القراءة ، وقوانين الأشعار » [24] . ثم جعل يتحدث عن كل علم بمثل هذا التعميم . وكذلك في علم الفقه فإنه تحدث كعلم عام في الأمم دون أن يخص بالبيان الفقه الإسلامي بأجزائه وفروعه .
على هذا النسق الذي سار عليه الفارابي سار أيضا إخوان الصفا ، فقد قدموا للحديث على أصناف العلوم بقولهم : « أعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس : فمنا الرياضية ، ومنها الشرعية الوضعية . ومنا الفلسفية الحقيقية » [25] وهو ما يوحي بأن التصنيف ينطلق من منطلق تجريدي لا من إحصاء واقعي ، أما ابن سينا فقد كان في هذا الإسلامية الواقعة على عهده و لو في المعرفة الإنسانية العامة .
إن الانتقائية في إدراج لعلوم المؤدية إلى إهمال الكثير من العلوم الإسلامية التي فرضها المنطلق النظري لهذه التصانيف أفضت إلى قصورها عن أن تكون متناولة للعلوم الواقعة مبينة لواقعيتها في نشوئها ومادتها وأغراضها و تفاصيل فروعها و أجزائها وصلاتها ببعضها . ولو وقع الانطلاق من واقع المعرفة الإنسانية في البيئة التي على عهدهم مع التوسع إلى غيرها لأدى إلى أن تفرض تلك العلوم الواقعة هيكلاً قابلاً لأن يتسع لها جميعاً . فيفرض حينئذ الواقع منطقه في الاستقراء، وهو المنطق الإسلامي الأصيل بديلاً للمنطق الصوري القياسي القائم على التجريد ، وهو منطق اليونان .
( جـ ) صبغة التفريق : إن المتتبع لوضع العلوم في هذه التصانيف الثلاثة من حيث صلتها ببعضها ، وعلاقتها الداخلية فيما بينها يقف على شيء من التنافر و الافتراق بين هذه العلوم حتى لتبدو أحياناً كأنها الشتات الذي لا تربطه رابطة جلية ، وتظهر كأنها المعارف المتحاذية التي ليس بينها حركة يمتد فيها بعضها إلى بعض ، ويأخذ فيها بعضها من بعض .
ولعل أبرز مظهر لهذه الصبغة ذلك الفصل القاطع الذي ورد في هذه التصانيف بين ما هو نظري وبين ما هو عملي ، وهو ما صوره ابن سينا بجلاء حينما جعل المقصود مت العلم النظري حصول رأي فقط ، ومثل لذلك بعلم التوحيد ، وجعل المقصود من العلم العملي حصول رأي لأجل عمل ، وهو بهذا يكون قد فرق بين علوم شديدة الصلة ببعضها حتى لا يتصور بينها افتراق ؛ إذ العلوم العملية في المفهوم الإسلامي ليست إلا وجهاً تطبيقياً للعلوم النظرية على نحو ما يتضح من صلة علم الفقه بعلم التوحيد ، فهو ليس إلا امتداداً له في مستوى التطبيق .
وقد فرق إخوان الصفا في العلوم العملية بين نوع وضع لطلب المعاش ، ونوع وضع لطلب الآخرة ، وهي تفرقة يأباها واقع العلوم الإسلامية . فعلم الفقه مثلاً وقد وضعوه في العلوم التي تطلب بها الآخرة ، هو علم وضع لتنظيم الحياة الدنيا ابتداءً ، وعلى ذلك الأساس تطلب به الآخرة. وعلم اللغة و النحو وقد وضع في العلوم التي يطلب بها المعاش إنما وضع في الحقيقة في واقع الثقافة الإسلامية ليمكن من فهم القرآن وتحري مقاصده حتى تكون تلك المقاصد سبباً للمعاش و للمعاد في آن واحد . أما الفارابي فرغم تفرقته بين العلوم النظرية التي خصص لها الفصلين الثالث والرابع ، وبين العلوم العملية التي خصص لها الفصل الخامس ، فإنه كان أكثر إدراكا للتواصل بين العلوم وللحركة الداخلية بينها ، ويعتبر إدراجه لعلم الكلام ضمن العلوم العملية أبرز شاهد على ذلك ، فهو يدل على وعي بالغاية العملية لعلم الكلام . ويبدو ذلك الوعي جليا في تعريفه لهذا العلم حينما جعله يتجاوز نصرة الآراء العقائدية المجردة ليمتد إلي نصرة الأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف ما نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف ما خالفها بالأقاويل » [26] . وهذا تعريف فيه من البعد العملي لعلم الكلام ما لم نجده عند غيره من الإسلاميين ،فأين منه ما ذهب إليه ابن سينا من أن علم التوحيد يقصد منه تحصيل رأي فقط كما تقدم ذكره ؟
ومن مظاهر هذه الصبغة التفريقية ما يلاحظ من هوة بين العلوم الناشئة في البيئة الإسلامية ابتداء ، وبين العلوم المأخوذة من الثقافات الأخرى ،فقد بنيت هذه التصانيف على أساس هذه الأخيرة ، ثم أدرجت فيها بعض العلوم الإسلامية النشأة على وجه لم يخل من التكلف ، ودونما إدراك لما آلت إليه جملة كبيرة من علوم الأوائل لما دخلت إلي دائرة الثقافة الإسلامية من وضع جديد أصبحت فيه متواصلة شديدة التواصل مع العلوم الإسلامية على نحو ما نراه من التقاء بين الفقه والحساب نشأ منه علم الفرائض ، وعلى نحو ما وقع من الالتقاء بين علم الهيئة وبني الفقه لتحديد مواقيت العبادات خاصة . إن ذلك الحوار الواسع الذي قام بين العلوم الإسلامية النشأة وبين العلوم المقتبسة ، والذي أسفر عن تواصل بين النوعين وحركة أخذ وعطاء بينهما [27] لا نجد له صدي واضحا في هذه التقاسيم . ومن الغريب أن يكون هؤلاء المصنفون جامعين في ذواتهم بين العلوم في نوعيها ، فقد كان الفارابي مثلا قاضيا وفيلسوفا في نفس الآن ، فكيف لم تتفاعل العلوم في تصانيفهم كما انعقدت عليها أذهانهم ؟
ويبدو أن هذه الصبغة التفريقية بين العلوم ناشئة في أساسها من أن النظر في العلوم بقصد تصنيفها لم يكن من داخل دائرة الثقافة الإسلامية ، حيث تبدو هذه العلوم في واقعها خادمة لهدف واحد هو تأكيد الحقيقة الدينية سواء ما كان منها ناشئا بالخاصية الإسلامية كالفقه والتفسير والحديث وغيرها ، وما كان منها مقتبسا من الثقافات الأخرى ، فانتظمت كلها على نسق من التواصل والتلاقي لتحقيق الهدف المشترك بينها . ولكن هؤلاء المصنفين نظروا إلي العلوم من خارج دائرة الثقافة الإسلامية تأثرا بالثقافة المصنفين نظروا إلي العلوم من خارج دائرة الثقافة الإسلامية تأثرا بالثقافة اليونانية والإشراقية مما أدى إلي اضطراب في إدراج العلوم ، وتردد في إثباتها في التصنيف بين ما هو موجود في الثقافات الأخرى بحسب واقعه في تلك الثقافات ووضعه في المأثور من تصانيفها ، وبين ما هو واقع من العلوم الإسلامية بالفعل ، وكانت نتيجة هذه الازدواجية تصوير العلوم على هيئة يبدو فيه التباعد والتنافر بينها .
ومن المؤكد أن من أسباب هذه الصبغة أيضا ما أشرنا إليه سابقا من أن هذه التصانيف يشبه أن تكون منطلقة من تصور للإمكان العقلي للعلوم لا مما هو واقع منها فعلا وذلك ما أدى إلي القصور عن تصوير نشأة العلوم الواقعة وتطورها إذ تبين النشأة والتطور عن الصلة الشديدة بين العلوم ، فهي ليست في أغلبها إلا ناشئة بعضها من بعض عبر التوسع المعرفي في البيئة الإسلامية . وهو ما يبدو واضحا أشد الوضوح في انطلاق العلوم الإسلامية من النظر في القرآن الكريم والحديث الشريف ، ثم نشأتها بعد ذلك بعضها من بعض في حركة التطور العلمي التي اجتذبت أيضا في مراحل مختلفة العلوم الناشئة في ثقافات أخرى من طب ومنطق وهيئة وغيرها ، فانتظمت هذه العلوم المقتبسة في نسق العلوم الإسلامية النشأة.
أما المنطلق الإمكاني الذي انطلقت منه هذه التصانيف فإنه جعل العلوم تندرج فيها متحاذية متجاوزة غير مندرج بعضها في بعض ولا متصل بعضها ببعض ، خضوعا في ذلك للتقنين العقلي الجاف الذي يعتمد الانطلاق من موضوع العلم نفسه كما ذكره ابن سينا حينما جعل أساس التقسيم أن الأمور المبحوث فيها إما أن تكون المادة من حيث ذاتها أو من حيث عوارضها ، أو تكون لا علاقة لها بالمادة أصلا ، وينشأ من البحث على هذا الأساس العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي [28] . إن هذا الإنطلاق من مواضيع العلوم في التصنيف لا من حركة نشوئها الواقعية أدى إلي وضع من التشتت والافتراق بينها ، وحجب واقع التواصل والتلاقي الذي كانت عليه في البيئة الإسلامية .
( د ) صبغة التعميم : قد عمد أصحاب هذه التصانيف إلي محاولة وضع تصنيف للمعرفة الإنسانية العامة ، فجاء الحديث عن العلوم في غالبه منوطا بأجناس العلوم في عمومها مما تشترك فيه الأقوام . لا بأعيانها مما تظهر فيه خصائص كل أمة ، وقد عبر عن هذا المعني إخوان الصفا حينما قالوا في مقدمة تصنيفهم : « نريد أن نذكر أجناس العلوم ، وأنواع تلك الأجناس ليكون دليلا لطالبي العلم إلي أغراضهم » [29] .
وإذا كان هذا الغرض التعميمي في تصنيف المعرفة البشرية يفيد في تمثل منطق العلوم عامة ، وفلسفة المعرفة البشرية في علاقة الإدراك بالموضوع المدرك ، وفي ترتب الإدراكات فيما بينها ، فإنه أدى في موضوع الحال إلي خلل واضح في وصف العلوم الإسلامية وترتيبها وملاحظة خصائصها .
فزيادة على أن العلوم الإسلامية كانت غائبة في معظمها باعتبار أعيانها في هذه التصانيف وخاصة في تصنيف ابن سينا ، فإنه وقع قصور في إدراك الخاصية الإسلامية في نشأة العلوم المنشأة ، وفي اقتباس العلوم المقتبسة ، فذكرت العلوم على وجه العموم خلوا من تلك الخصائص ، منبتة عن نسقها المعرفي في البيئة الثقافية الإسلامية .
ولعل من أهم الخصائص التي أهمل شأنها في هذه التصانيف خاصية الالتزام بخدمة الحقيقة الدينية في العلوم المنشأة والمقتبسة على حد سواء ، في حين لم ينشئ المسلمون علما ، ولم يقتبسوا علما إلا لغرض خدمة حقيقة دينية عقدية أو شرعية بصفة مباشرة أو غير مباشرة .
فالفارابي نجده يفرق بين العلم المدني وبين علم الفقه ، وإذا كان يسوق علم الفقه على أنه علم يخدم حقائق الشريعة ، فإنه يسوق العلم المدني في سياق خرج عن هذا المعني ، ويجعل مسائل هذا العلم ( وهي السياسة الملكية ) تجري على مقتضى ما يراه العقل بعيدا عن تعاليم الشرع ، والحال أن هذه المسائل مندرجة في الثقافة الإسلامية في صلب علم الفقه فيما يعرف بالسياسة الشرعية ، فليس إذا من مبرر للفصل بين العلم المدني وعلم الفقه بحسب واقع العلوم الإسلامية إلا أن يكون الاقتناع بأن الحكم وشؤونه لا مدخل للشرع فيه بالبيان ،وإنما هو جار على مقتضى العقل ،وذلك خلل واضح في فهم حقيقة الإسلام وما اتصف به من شمول البيان لكل مناحي التصرف الإنساني .
أما ابن سينا فإنه كان أكثر وضوحا في سوق عاما ، وإغفال العلوم الإسلامية في غايتها الملتزمة حتى إنه يجعل مرجع التحديد لما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان في أخلاقه فرعا من فروع العلم العملي اشتمل عليه كتاب أسطو في الأخلاق . ويجعل مرجع التحديد لما ينبغي أن تكون عليه حياته في تدبير منزله فرعا آخر اشتمل عليه كتاب أرونس في تدبير المنزل دون التفات في كل ذلك إلي أي علم من العلوم الإسلامية التي تضبط التحديدات الشرعية لحياة الإنسان في هذين المجالين .
وقد سلك إخوان الصفا نفس المسلك حينما أثبتوا في القسم الأول علوما رياضية هي علوم الآداب ، ومن ضمنها علم البيع والشراء والتجارات ،وأثبتوا في القسم الثاني العلوم الشرعية ومن بينها علم الفقه ،وفي هذا إيذان بأن البيع والشراء والتجارات منها ما يكون على مقتضى الشرع ومنها ما يكون على مقتضى العقل .
إن هذا التعميم في إيراد العلوم عند هؤلاء المصنفين لم يكن على سبيل الوصف و التقرير للعلوم الإنسانية عموماً من حيث إنها علوم تحدد مسالك حياة الإنسان بحسب ما رأته الأقوام الذين نشأت فيهم بل كان تعميماً تقديرياً اقتضى كما عبر عنه ابن سينا بوضوح أن تكون بعض العلوم اليونانية مصدراً لما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان حتى في البيئة الإسلامية التي نشأت فيها علوم شرعية ملتزمة بإخضاع الحياة الإنسانية لحقيقة الدين في المجال السلوكي ، وفي هذا قصور بين عن إدراك البيئة المعرفية الإسلامية الملتزمة بتأكيد الحقيقة الدينية كما بدا في سائر ما نشأ فيها وما اقتبس من علوم .
3 – دور الوجهة التقليدية في بناء الفكر الإسلامي :
إذا ما عدنا إلى هذه الوجهة التقليدية الإسلامية في تصنيف العلوم لنتبين ما قامت به من دور في بناء الفكر الإسلامي ، وما قصرت عنه في ذلك ، فإننا نلفيها قامت بدور لا ينكر أثره تمثل أساسا في إدخال الفكر التصنيفي في دائرة الثقافة الإسلامية كمنهج لتنظيم المعرفة في نسق منطقي تترتب فيه العلوم على نحو من الترتيب قدر أنه يوفي بغرض التحصيل الأقوم للعلم . وبالإضافة إلي هذه الإفادة على المستوى المنهجي الفلسفي فإن هذه الوجهة أفادت أيضا في نقل تجربة اليونان في التصنيف وهي التجربة التي تقوم في مبدئها وبصرف النظر عن محتواها عن منطق عقلي يفضي لا محالة إلي مران الذهن على تبين مسالك المعرفة التي تقوم على القواعد العقلية دون مسالك الإشراق ، وفي ذلك كله لا محالة دفع للفكر الإسلامي إلي أن تتكون لديه ملكة التصنيف كمنهج لترتيب المعرفة ، ولهذا الفكر بعد ذلك أن يصرف ذلك المنهج فيما يناسب البيئة الثقافية الإسلامية الخاصة .
إلا أننا إذا نظرنا إلي هذه الوجهة من ناحية أخرى مقارنة بين ما اتصفت به من خصائص التجريد والتفريق والتعميم ، وبين ما يتطلبه وضع الثقافة الإسلامية من نمط الفكر يستجيب لغرض الحقيقة الدينية التي كانت محورا يحرك الحياة الإسلامية كلها ، ألفيناها قصرت عن الإيفاء بما هو مطلوب من أغراض .
إن البيئة الثقافية الإسلامية نشأت العلوم العديدة ، وأدخلت إلي دائرتها اقتباسا العلوم الكثيرة ، وكان ذلك بداعي خدمة الحقيقة الدينية في مختلف مظاهرها ، ولذلك كانت تلك العلوم كلها مستقرة في مجال الثقافة الإسلامية على وضع من التناسق والتواصل بينها . وعلى وضع من اندراج بعضها في بعض ، وامتداد بعضها إلي بعض بحيث تؤدي في كل وضع من تلك الأوضاع إلي تأكيد الحقيقة الدينية التي من أجلها وضعت .
والفكر الإسلامي لكي يجد سبيله الصحيح في رحلته عبر تلك العلوم إلي تمثل الحقيقة الدينية – وتلك هي غاية العمل كما مر بيانه – يحتاج إلي منهج تصنيفي لتلك العلوم يقوم على محاكاة واقعها في التواصل والتناسق والالتزام فيما أنشئ انشاء وفيما اقتبس من المعرفة الإنسانية العامة ، وذلك ما لم تستطع هذه الوجهة التقليدية أن توفي به لجنوحها إلي التفريق والتجريد والتعميم في منهجية التصنيف ، ولعل ذلك يرجع فيما يرجع إلي أن تلك الوجهة تمثل المرحلة الأولى في التصنيف لدى المسلمين ، حيث لم تكن على عهدها قد اكتملت العلوم الإسلامية ووضحت صورة مستقرها ،بل كانت لا زالت في طور التوالد والتكامل والتنامي ، فربما كان التقليد خطوة لازمة نحو التأصيل ،فهل استطاعت وجهة التأصيل أن توفي بالغرض المطلوب ؟
III- الوجهة التأصيلية في تصنيف العلوم :
كانت هذه الوجهة متأخرة في الزمن بالنسبة لسابقتها ؛ إذ لا نجد لها ظهورا إلا في أواخر القرن الرابع ، وإنه لمما يلفت الانتباه ألا يكون للمتكلمين محاولة في هذا الصدد ،وهم الذين مثلوا الظهور المبكر للنزعة الفلسفية العقدية في البيئة الإسلامية ، وذلك منذ ظهر المعتزلة أوائل القرن الثاني ، فهم بذلك المرشحون لأن يكونوا روادا للنزعة التأصيلية في تصنيف العلوم باعتبار الطبيعة العقلية الفلسفية للتصنيف . ولعل تخلف المتكلمين عن القيام بهذا الدور يعود إلي أن التصنيف لم يكن يمس محورا عقديا بحيث يمثل تحديا المواجهة التصحيحية وهو ما ندب المتكلمون أنفسهم للاضطلاع به .
وسنعتمد في إدراج المؤلفات ضمن هذه الوجهة مدى ما تكون عليه هذه المؤلفات من تحرر من التصنيف اليوناني للعلوم ،ومن محاولة ذاتية في التصنيف تقوم على استجلاء خصائص العلوم في واقع البيئة الثقافية الإسلامية لتشتق منها أسسا للتصنيف تعود في طبيعتها إلي الأصول العقدية التي كانت البيئة الثقافية الإسلامية امتدادا لها وبعدا من أبعادها .
بهذا المقياس تندرج ضمن هذه الوجهة التأصيلية جملة من التصانيف التي أوردناها في اللائحة المتقدمة ، وأخرى أقل منها شأنا لم نوردها [30] .
وتختلف هذه التصانيف في درجة نضجها وتأصيلها واستيعابها ، وعلى وجه العموم فإن مرور الزمن أتى عليها بالإنضاج ومزيد من الشمول والاستيعاب .
وفيما يلي نورد عرضا لواقع التصنيف في هذه الوجهة ثم نبين خصائصها التأصيلية :
1- 1- واقع التصنيف في الوجهة التأصيلية :
نرشح فيما يلي أربعة من التصانيف المندرجة من هذه الوجهة نقدر أنها تمثل الخصائص العامة لوجهة التأصيل ، مع مراعاة للتطور الزمني أيضا ، وهي الفهرست لابن نديم ، ورسالة ابن حزم ،ومقدمة ابن خلدون ،ومفتاح السعادة لطاش كبرى زادة .
(أ ) تصنيف العلوم عند ابن النديم [31] : لم يكن كتاب الفهرست لابن النديم كتابا متمحضا لتصنيف العلوم ،بل هو كتاب يؤرخ للمعرفة المنتشرة في المجتمع الإسلامي متمثلة في العلوم والمذاهب ، وفي العلماء والمؤلفات ، إلا أن الهيكل الذي بني عليه ابن النديم كتباه والملاحظات المتعددة المبثوثة فيه بالمعرفة من حيث تصنيفها ترشح هذا الكتاب لأن يكون وثيقة مهمة في تصور البناء المعرفي للعلوم ، ويمكن أن نتبين هذه الأهمية فيما وصف به ابن النديم كتابه حينما قال : « هذا فهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم . الموجود منها بلغة العرب وقلمها في أصناف العلوم ،وأخبار مصنفيها ، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم … منذ ابتداء كل علم اخترع إلي عصرنا هذا » [32] .
بني الفهرست على عشر مقالات ، كل مقالة اختص بعلم أساسي من العلوم : شرحا لنشأته ، أو ترجمته واقتباسه ، وبيانا لأهم ما ألف فيه ؛ وقد رتبت هذه المقالات على النحو التالي :
ـ المقالة الأولي : في لغات الأمم وكتب الشرائع ، والقرآن وعلومه .
ـ المقالة الثانية : في النحو والنحويين .
ـ المقالة الثالثة : في الأخب
تمهيد :
ليس علم تصنيف العلوم علماً وصفياً صرفاً . يكتفي بإحصاء ما هو كائن من المعرفة البشرية ، ويعقبها بالترتيب بعديا ليقدمها تقريرا للناس يصف ما كان ليبني عليها ما يكون في نطاق التدرج المعرفي الإنساني العام ، بل إن هذا العلم يحمل في ظاهره الوصفي التقريري غاية معيارية تتمثل في اتخاذه من وصف ما كان في واقع العلوم بناء لما ينبغي أن يكون في توجهات العقل إلي مواضيع المعرفة سواء على مستوى تربوي بالإرشاد إلي كيفية استيعاب العلوم وتمثلها ، أو على مستوى إبداعي بالتوجيه إلي المستجد من مناطات الاستكشاف العقلي بحسب ما يقتضيه تقدم الحياة الإنسانية .
ولذلك فإن هذا العلم أشبه التاريخ في مظهره الوصفي لما هو واقع في حقل المعرفة الإنسانية من جهة ، وأشبه المنطق في تحديده لما ينبغي أن يجري عليه العقل فيها من جهة أخري ، حتى إنه سمي « بمنطق العلوم » فكان علما وصفيا معياريا في نفس الآن .
إلا أن هذه الوصفية التي أشبه بها التاريخ ، وهذه المعيارية التي أشبه بها المنطق لم تكونا لتجعلا منه علما موضوعيا مثل علم التاريخ وعلم المنطق ؛ ذلك لأن غايته المعيارية ليست بقضايا العقل الفطرية كما هو الحال في المنطق وسائر العلوم الموضوعية الأخرى ، بل هي متقومة بالموقف الوجودي للإنسان فيما يراه من حقيقة الوجود وموقعه هو ذاته من تلك الحقيقة ، ليصوغ من تصنيف العلوم منهاجا يتناسب مع ذلك الموقف ،ويخدم المآل الذي يرسمه الإنسان لنفسه فيه .
ولذلك فإن هذا العلم يحمل عبر تاريخه في طيات مسحته الإحصائية الوصفية أبعادا أيديولوجية عقدية ، كما ظل يعكس الخصائص الفكرية والثقافية للبيئات التي تحتضنه ، والأعلام الذي عرفوا بالتأليف فيه ، خاصة عندما يتعلق الأمر بطور من أطوار التجديد [1] ؟ بل إن الصفة المنطقية التي يتصف بها هذا العلم ترشحه لأن يكون في مضمار الكشف عن الخصائص الفكرية الثقافية لمن تعاطي البحث والتأليف فيه مادة ممتازة لتبين تلك الخصائص والميزات وشرحها وتحليلها ،وذلك بما ممتازة لتبين تلك الخصائص والميزات وشرحها وتحليلها ،وذلك بما هو رسم منهجي لما ينبغي أن تؤول إليه المعرفة الإنسانية ، الأمر الذي يجعله تعبيرا شبه مباشر عن خصائص فكرية ثقافية باعتبار أن الثقافة تعني منهجية الإنسان تحقيق حياته العقلية والعملية [2] ، والفكر يعني حركة العقل في عملية المعرفة للوصول إلي الحقيقة [3] .
إنه هذه المعاني تبدو واضحة في ذلك التصنيف للعلوم المأثور عن أرسطو ، والذي يعتبر أنضج تفسير في الفكر الفلسفي القديم ، كما أنه يعتبر التصنيف الذي ظل موجها للفكر التصنيفي بعده قرونا طويلة من الزمن في ظل التوجيه العام الذي كان للفكر الأرسطي على وجه العموم .
لقد قسم أرسطو العلوم إلي قسمين رئيسيين . يندرج تحت كل منهما جملة من العلوم الفرعية على النحو التالي :
1- 1- علم نظري . غايته مجرد المعرفة ، وينقسم إلي ثلاثة أقسام وهي :
(أ) علم ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولي ، أو العلم الإلهي ، وهو بحث في الوجود المطلق .
(ب) العلم الرياضي ، وهو البحث في الوجود من حيث هو مقدار وعدد .
(جـ) العلم الطبيعي ، وهو البحث في الوجود من حيث هو محسوس متحرك .
2- 2- علم عملي ، وغايته المعرفة لأجل تدبير الأفعال الإنسانية . وهو أربع شعب :
(أ) (أ) علم الأخلاق
(ب) (ب) علم تدبير
(ت) (ت) علم السياسية
(ث) (ث) الفن والشعر
أما المنطق فإنه غير داخل في هذا التقسيم ، لأن موضوعة ذهني ، وهو آلة للعلو كلها [4] .
إن هذا التقسيم الأرسطي يمتزج فيه وصف العلوم التي كانت على عهد أرسطو الذاتي لما ينبغي أن تنتهجه المعرفة الإنسانية بناء على فلسفته في بنية الوجود التي تترتب فيها الموجودات ترتيبا شرقيا متنازلا من أكثرها تجريدا إلي أكثرها اتصالا بالمادة ، وهو ما يحكي تلك الصورة المأثورة عن أرسطو في تدريجه للموجودات الكونية درجات : أعلاها المحرك الأول الواجب الوجود ، وأدناها الكائنات التي لا أعضاء لها الشبيهة بالهيولي ، مرورا بعالم ما فوق فلك القمر الذي يشمل الكواكب التي لا ينالها الكون والفساد ، ثم بعالم ما تحته الذي يشمل ما يناله الكون والفساد لاختلاطه بالمادة [5] .
كما أنه يعكس خاصية البنية الفكرية التي ميزت العقلية اليونانية على وجه العموم ، وهي خاصية التجريد كما تبدو في الفصل بين العلوم على أساس نسبتها من التجريد وإناطة الشرف والإجلال بها على ذلك الاعتبار . وكما تبدو أيضا في انبناء هيكلية التقسيم بحسب تصور نظري مجرد تابع لصورة الوجود في الذهن ، أكثر من انبنائها على لواقع المعرفة الإنسانية وما أثمرته من علوم .
كما أن هذا التقسيم يعكس أيضا خاصية المفاضلة والمباعدة في الفكر الأرسطي . فالعلم النظري كأنما هو مفاصل تماما للعلوم النظرية ، فإن غايته هي المعرفة فحسب ، وليس له من مدخل في العمل السلوكي ،إذ المعرفة بالتعقل غاية في حد ذاتها بل هي أشرف غايات الإنسان ، وكأنما الإنسان يعيش ثنائية ذات طرفين متدابرين متقاطعين : التعقل الذي يشده إلي عالم المجردات ،والعمل الذي يشده إلي عالم المحسوسات . ولعل هذه الخاصية تعتبر هي بدورها تظهيرا للتصور الوجودي لأرسطو حيث واجب الوجود عنده حرك العالم ثم تركه يتحرك وأصبح عنه بعيدا لا يتدخل في شؤونه حتى على سبيل العلم به إلا أن يكون علما بالكليات .
على هذا النحو من التفاعل بين علم تصنيف العلوم وبين مقومات التصور الوجودي ، والخصائص الثقافية للمصنفين نجد سائر التصنيفات التي وصلتنا من نتائج أزمنة مختلفة وأعلام متعددين ، فماذا كان الأمر بالنسبة لتصنيف العلوم عند المسلمين من حيث علاقة ذلك التصنيف بما أحدثه لتصنيف العلوم عند المسلمين من حيث علاقة ذلك التصنيف بما أحدثه عنصر التدين بالإسلام في عقول المسلمين من تصور للوجود ولدور الإنسان فيه ، وماذا أبرز من خصائص فكرية ثقافية متميزة ؟
I- I- علم تصنيف العلوم عند المسلمين :
لم يحظ علم تصنيف العلوم عند المسلمين بما يليق به من الدراسة والتحليل ،سواء من قبل الدراسين المسلمين أنفسهم ، أو من قبل الدراسين عامة ،فالمسلمون يندرج ضعف اهتمامهم بدراسة هذا العلم ضمن ضعف اهتمامهم بالعلوم المنهجية عامة . وأما عامة الدراسين فإن أغلب دراساتهم في تصنيف لتنقل من التقسيم القديم المتأثر بتقسيم أرسطو إلي تصنيف روجر بيكون ( 1214-1268 )Roger Bacon وفرانسيس بيكون ( (1625-1561) Francis Bacon .
1- 1- أهم المؤلفات في هذا العلم :
ويقابل هذا الضعف العلوم عند المسلمين وفرة في الإنتاج من قبلهم فيه ، وثراء في المحتوي ، وجدة وابتكارا في البناء التصنيفي ، مما يخرج من أن يكون مشاركة عابرة في هذا العلم ، ويمثل بحق مدرسة إسلامية في تصنيف العلوم ، وهو ما تضمنته مجموعة واسعة من المؤلفات عبر أزمة متتالية تمحض بعضها لتصنيف العلوم خاصة ، واشتمل البعض الآخر على عادة المسلمين القديمة في التأليف الموسوعي . وإذا كان تتبع ما ألفه المسلمون في هذا الغرض تتبعا إحصائيا كاملا غير ميسور في هذا المقام فإننا نعرض فيما يلي لائحة بأهم ما وصلنا من مؤلفات إسلامية في تصنيف العلوم منفردة أو مشتركة ، مما نقدر أنه كان له إسهام في إنضاج هذا الفن من فنون المعرفة ، وأنه يمكن الدارس من تبين خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف ،وأنه يمكن الدارس من تبين خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف ، وميزاته فيه . وسنورد هذه اللائحة في نسق تاريخي على النحو التالي :
1- 1- « إحصاء العلوم » للفارابي ( أبي نصر محمد بن محمد ، ت 339 هـ ) .
2- 2- « رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا » ( منتصف القرن 4 هـ ) .
3- 3- « مفاتيح العلوم » للخوارزمي ( محمد بن أحمد بن يوسف ،ت 386 هـ ) .
4- 4- « الفهرست » لا بن النديم ( محمد بن إسحاق ،ت 438 هـ ) .
5- 5- رسالة « أقسام العلوم العقلية » لا بن سينا ( ت 428 هـ ) .
6- 6- رسالة « مراتب العلوم » لا بن حزم ( ت 456 هـ ) .
7- 7- « طبقات العلوم » للأبيوري ( أبي المظفر محمد بن أحمد ، ت 507 هـ ) .
8- 8- « المقدمة » لا بن خلدون ( ت 808 هـ ) .
9- 9- « مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم » لطاش كبرى زاده ،( ت 968 هـ ) .
10-« كشف الظنون عن أسامي الكبت والفنون » لحاجي خليفة ، ( ت 1067 هـ ) .
10- 10- « كشاف اصطلاحات العلوم » للتهانوي ( محمد بن علي ، ت بعد 1158 هـ ) .
11- 11- « أبجد العلوم » لصديق بن حسن القنوجي ( ت 1307 هـ / 1889 م ) [6].
وليست هذه المؤلفات متساوية في قيمتها التصنيفية ، ولا في تمثيلها لخصائص الفكر الإسلامي الأصلية كما سيظهر بعد حين ،ولكنها تبين العناية المستمرة من قبل المسلمين بهذا العلم ،والإنضاج المطرد لشكله ومحتواه تمشيا في ذلك مع واقع العلوم الإسلامية في تناميها وتوسعها وتفرعها .
وإذا ما تجاوزنا ما أثر عن أبي يوسف يعقوب الكندي ( ت 252 هـ / 868 م ) من محاولة متواضعة لتصنيف العلوم [7] ، فإننا نجد الفارابي ينهض بعمل تصنيفي رائد في نطاق الفكر الإسلامي حتى ليعتبر عمله ذاك أقرب إلي الفطرة منه إلي التدرج الطبيعي المتنامي إذا ما نظرنا إليه في نطاق ذلك الفكر ، وإذا ما وجدنا لهذه الطفرة تفسيرا في تأثر الفارابي في تصنيفه بالحصيلة التصنيفية الموروثة عن أرسطو ،والتي بلغ عمرها ما ينيف عن الألف عام ، فإننا نجد في نفس الآن تصنيفات أخرى متأثرة بالموروث الأرسطي ، وهي متأخرة زمنيا على الفارابي ، ولكنها من حيث قيمتها التصنيفية تنقص كثيرا عن تصنيف الفارابي ، وهو ما يصح في حق كل من تصنيف ابن سينا وإخوان صفا .
وإذا ما انتقلنا إلي ابن النديم فإننا نجد بداية المحاولة التصنيفية النابعة من واقع الفكر الإسلامي في غير تأثر يذكر بثقافات أخرى . ثم تنمو هذه المحاولة نموا طبيعيا متدرجا في النضج عند ابن حزم والأبيوري لتبلغ مستوى رفيعا عند ابن خلدون ابن خلدون حيث تظهر في تصنيفه خصائص الفكر الإسلامي في التصنيف واضحة المعالم .
ثم يأتي طاش كبرى زاده ليكون تصنيفه تتويجا مستوفيا للفكر التصنيفي الإسلامي ،بل خلاصة عميقة الدلالة للتراث العلمي الإسلامي وقد أخذ وضع الاستقرار وكف عن النمو أو كاد ، فجاء« مفتاح السعادة » يسجل في نسق تصنيفي منهجي العلوم الموجودة في دائرة الثقافة الإسلامية بأوسع وأشمل ما عرف في الفكر الإسلامي من تصنيف . وكل من جاء بعد ابن خلدون وطاش كبرى زاده من مصنفين إنما هم مقتبسون منهما سائرون على خطاهما في الأكثر .
2- 2- غاية تصنيف العلوم :
حملت أغلب هذه المؤلفات في مقدماتها تعريفا بعلم تصنيف العلوم أو علم تقاسيم العلوم كما يسمى أحيانا ، فوضحت طبيعته كما وضحت غايته بما يبين الإطار العام الذي يندرج فيه هذا العلم ، وهو ما قصده الفارابي في فاتحة كتابه حينما قال : « قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما ، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها ،وأجزاء كل ما له منها أجزاء ، وجمل ما في كل واحد من أجزائه » [8] . وهذا المعني هو نفسه الذي عبر عنه طاش كبرى زاده في تعريفه لعلم التصنيف إذ يقول : « هو علم باحث عن التدرج من أعم الموضوعات إلي أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم » [9] .
ومن البين أن هذين التعريفين صيغا بما يدل على أن هذا العلم بني بحيث يكون إحصاء منهجيا للمعارف بغاية التسهيل في استيعابها ،وهو ما يفسر انبناء التعريفين على معني التجزئة في العلوم وإدراج الأخص في الأعم . وهو معني ذو غاية تعليمية واضحة عبر عنها الفارابي بدقة في بيانه لمنافع كتابه « إحصاء العلوم » إذ يقول : « وينتفع بما في هذا الكتاب لأن الإنسان إذا أراد أن يتعلم علما من هذه العلوم وينظر فيه علم على ماذا يقدم ،وفي ماذا ينظر ،وأي شيء سيفيد بنظره ، وما غناء ذلك ، وأي فضيلة تنال به ، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا عن مي وغرور . وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم ، فيعلم أيها أفضل ،وأيها أنفع ، وأيها أتقن وأوثق وأقوى ، وأيها أوهن وأوهي » [10] ، وهذا المعني ذاته هو الذي أشار إليه طاش كبرى زاده في قوله : « إن الفنون كثيرة ، وتحصيل كلها بل جلها يسيرة، مع أن مدة العمر قصيرة ، وتحصيل آلات التحصيل عسيرة ،فكيف الطريق إلي الخلاص من هذا المضيق ؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسما ورسما وموضوعيا ونفعا وفيما اخترعت من التفصيل في طريق التحصيل » [11] .
ويتبين مما تقدم أن هذا العلم استحدثه المسلمون في إطار منهجي معرفي تربي ، وليس لاستحداثه في هذا الإطار من قبل مسلمين وفي مجال ثقافي إسلامي من غاية سوى أن يكون عاملا على بناء فكر إسلامي متقوم بحقيقة العقيدة الإسلامية الشاملة كما شرحتها العلوم الكثيرة التي هي مادة التصنيف في علم تصنيف العلوم ، وليس هذا بمتناقض مع تكوين الفكر على خصائص منهجية ثقافية في المعرفة بوجه عام بل هو تدعيم لذلك التكوين مع توجيهه الوجهة التي تبرز فيها صفات فكرية ثقافية متأتية بالداعي العقائدي الإسلامي ،وكفيلة في نفس الوقت بأن تمكن من استيعاب الحقيقة الإسلامية التي جاءت العلوم لشرحها .
وإذا كنا لا نظفر في مقدمات التآليف التصنيفية موضوع دراستنا ببيانات مباشرة في هذا المعني الذي قررناه آنفا ، فإننا نحسب أن سببه قيام ذلك المعني في الأذهان على وجه يقارب البداهة مما يجعله أصبح تكوين الفكر على أساس استيعاب الحقيقة الدينية محل جدل بين قابل مؤيد وبين رافض منكر . ويكفي في بيان ذلك أن نرجع إلي ما قاله الإسلاميون على اختلاف وجهاتهم في بيان حقيقة العلم بصفة عامة – وليس تصنيف العلوم إلا جزءا منه – وفي غايته وثمرته ، فإننا حينئذ نجد أن العلم ليس إلا طريقا لتحصيل الحقيقة الدينية والسعادة بها تفكرا وتطبيقا ، وهو ما عناه الفارابي ، بقوله : إن العلم كنز مدفون يفوز من سهل الله طريقه إليه [12] .
وإذا كان الأمر على ما بينا في استحداث هذا العلم في البيئة الثقافية الإسلامية م حيث الغاية التي استحدث لأجلها . وما تقومت به بنيته هيكلا وصفات من خصائص وميزات تبلغ إلي ذلك الهدف ، فما هو واقع الفكر التصنيفي الإسلامي في مسعاه إلي أن يشكل ذاته على البنية المطلوبة الكفيلة بتحقيق الغاية المرسومة ؟ وما هي الأساليب التي اتخذها ، والاتجاهات التي اتجهها في سبيل ذلك ؟
إن المتأمل في التصانيف التي قدمنا ذكرها من جهة هيكلها وخصائصها التصنيفية ، ومن جهة بنيتها الداخلية ، وعلاقتها بواقع العلوم في البيئة الثقافية الإسلامية تبينا في كل ذلك لنسبتها مما ينبغي أن تحقق من غاية في تكوين فكر إسلامي قادر على استيعاب الحقيقة الدينية الإسلامية في مختلف مظاهرها ، إن المتأمل في تلك التصانيف يلاحظ بسهولة وجهتين مختلفتين في التصنيف ، تتمايزان في الهيكلة العامة ، كما تتمايزان في الخصائص التصنيفية والبنية الداخلية ، وهو ما ينتهي باختلاف بينهما في النسبة من الغاية التي رامت كل التصانيف تحقيقها : أما الوجهة الأولي ، فهي وجهة يظهر بوضوح التأثر بالتصنيف الأرسطي للعلوم ، ولذلك فإننا سنسميها الوجهة التقليدية . وأما الثانية فهي وجهة حاولت أن تشتق أصولا للتصنيف من خصائص البيئة الثقافية الإسلامية المتأتية بالداعي العقائدي الإسلامي ، ولذلك فإننا سنسميها بالوجهة التأصيلية ، وسنحاول فيما يلي أن نتبين واقع وخصائص كل من الوجهتين من خلال تحليل نماذج من التصانيف نقدر أنها أكثر من غيرها للوجهة التي تنتمي إليها .
II- II- الوجهة التقليدية في تصنيف العلوم :
لا نجد صعوبة في تعيين المنصفات التي تندرج ضمن هذه الوجهة ، إذ أن نظرة متأنية على هيكل التصنيف تحدد ما إذا كان له صلة بتصنيف أرسطو أو هو متحرر منه .
ومن الناحية التاريخية فإن هذه الوجهة التقليدية كانت أسبق ظهورا من الوجهة التأصيلية ، كما أنها كانت مواكبة لظهور النزعة الفلسفية اليونانية في الفكر الإسلامي التي كانت بدايتها على يد الكندي ، ثم تدعمت بالفارابي وابن سينا من بعده .
ولما كانت هذه النزعة تقليدية فإننا نلاحظ في المؤلفات التي سنعرضها بعد حين أن التصنيف فيها كان على درجة من النضج تبين أنه يشبه أن يكون مرحلة متلونة بلون جديد إلا أن هيكلها يعتبر امتدادا لهيكل قديم . ويمكن أن نتبين هذا المعني من عرض موجز لبعض المؤلفات في تصنيف العلوم في هذه الوجهة.
1- 1- وقاع التصنيف في الوجهة التقليدية :
نرشح في عرض واقع التصنيف في هذه الوجهة ثلاثة من التصانيف نراها كفيلة بأن تعطينا صورة كاملة لهيكل التصنيف وخصائصه ، وقد راعينا في هذا الترشيح شمول ونضج هذه التصانيف ، كما راعينا أيضا تمثيلها لمختلف المنازع في التأثر والتقليد ، كما راعينا أيضا ما ورد فيها من بيانات وتعاليق تنظيرية من شأنها أن تساعدنا في البحث حينما نأتي إلي تقويم هذه الوجهة بعد عرض واقعها . وهذه الآثار الثلاثة هي : إحصاء العلوم للفارابي ، ورسائل إخوان الصفا ، وأقسام العقلية لا بن سينا .
( أ ) تصنيف العلوم عند الفارابي [13] : ألف الفارابي كتابا مفردا في تصنيف العلوم سماه « إحصاء العلوم » . وقد بين الفارابي نفسه في مقدمة كتابه الهيكل التصنيفي للعلوم كما بسطه وجزأه في أثناء الكتاب حيث قال :
« قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما ، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها ، وأجزاء كل ما له منها أجزاء ، وجمل ما في كل واحد من أجزائه ونجعله في خمسة فصول :
ـ الأول في علم اللسان وأجزائه .
ـ والثاني في علم المنطق وأجزائه .
ـ والثالث في علوم التعاليم : وهي العدد والهندسة وعلم المناظر ، وعلم النجوم التعليم ، وعلم الموسيقي ، وعلم الأثقال ، وعلم الحيل .
ـ والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه ، وفي العلم الإلهي وأجزائه .
ـ والخامس في العلم المدني وأجزائه ، وفي علم الفقه وعلم الكلام » [14] .
وفي نطاق هذا التقسيم يعرف الفارابي العلم الطبيعي بقوله : « العلم الطبيعي ينظر في الأجسام الطبيعية ، وفي الأعراض التي قوامها في هذه الأجسام ويعرف الأشياء التي عنها والتي بها ، والتي لها توجد هذه الأجسام والأعراض التي قوامها فيها » [15] .
ويقول في العلم المدني : « إنه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية ، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها الأفعال والسنن . وعن الغايات التي لأجلها تفعل » [16] .
ويعرف علم الفقه بأنه : « الصناعة التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده عن الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير ،وأن يتحرى تصحيح ذلك على غرض واضع الشريعة بالملة التي شرعها في الأمة التي لها شرع » [17] .
أما علم الكلام فهو : « صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خلفها بالأقاويل » [18] .
(ب) تصنيف العلم عند إخوان الصفا [19] : من خلال التوزيع الذي وزع به إخوان الصفا رسائلهم الاثنتين والخمسين على العلوم ، ومن خلال ما تناولته بعض تلك الرسائل مباشرة من تصنيف للعلوم وخاصة « رسالة الصنائع العلمية » نتبين صورة متكاملة العلوم عندهم ، وتتمثل هذه الصورة فيما يلي :
تنقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام رئيسية ، ويشتمل كل قسم على أجزاء وفروع على النحو التالي :
أولا : العلوم الرياضية أو علم الآداب وقد وضع أكثرها لطلب المعاش : ويشتمل على علم القراءة والكتابة ، وعلم النحو واللغة ، وعلم الشعر والعروض ،وعلم الحساب والمعاملات ، وعلم الزجر والأول ، وعلم العزائم والكيمياء والحيل ، وعلم الحرف والصنائع ، وعلم الحرث والنسل ، وعلم السير والأخبار .
ثانيا : العلوم الشرعية الوضعية ، وقد وضعت لطب النفوس وطب الآخرة . وتشتمل على علم التنزيل ، وعلم التأويل ،وعلم الروايات والأخبار ، وعلم الفقه والسنن والأحكام ، وعلم المواعظ وعلم تأويل المنامات .
ثالثا : العلوم الفلسفية الحقيقية : وتشتمل على أربعة أنواع :
ـ الرياضيات : وهي علم العدد والهندسة والنجوم والموسيقي .
ـ المنطقيات : وهي علوم صناعة الشعر ، والخطب والجدل ، والبرهان ، المغالطة .
ـ الطبيعيات :وهي علوم المبادئ الجسمانية ، والسماء والعالم والكون والفساد ، وحوادث الجو ، والمعادن والنبات والطب والبيطرة .
ـ الإلهيات : وهي خمسة أنواع : معرفة الباري ،وعلم الروحانيات ،على السياسة النبوية ، والسياسة الملوكية ، والسياسة العامة ، والسياسة الخاصة، والسياسة الذاتية [20] .
( جـ ) تصنيف العلوم عند ابن سينا [21] : أورد ابن سينا تقسيما للعلوم في العديد من مؤلفاته ، إلا أن أو في تصنيف له وأوضحه هو ذلك الذي أفرد له رسالة سماها « رسالة في أقسام العلوم العقلية » ولذلك فإننا سنعتمدها في توضيح تصنيف العلوم عنده .
قسم ابن سينا علوم الحكمة إلي قسمين رئيسيين : كل قسم منها يتفرع إلي فروع وأجزاء .
الأول : علوم نظرية مجردة ، وغايتها حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان ، وإنما يكون المقصود منها حصول رأي فقط مثل : علم التوحيد ، وعلم الهيأة ، وتنقسم هذه العلوم إلي ثلاثة أقسام :
ـ العلم الأسفل ، ويسمى العلم الطبيعي .
ـ العلم الأوسط ، ويسمى العلم الرياضي .
ـ والعلم الأعلى ، ويسمى العلم الإلهي .
ولكل علم من هذه العلوم أقسام أصلية . وأقسام فرعية ، ومما يندرج في العلم لأعلى ( العلم الإلهي ) :
- - النظر في معرفة المعاني العامة لجيمع الموجودات .
- - النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق .
- - النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده .
- - النظر في إثبات الجواهر الروحانية وهي الملائكة .
- - النظر في تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية.
- - معرفة كيفية نزول الوحي .
- - علم المعاد ، وهو الذي يبحث في أحوال البعث من السعادة والشقاوة الروحانيتين اللتين تعرفان بالعقل ،والبدنيتين اللتين تعرفان بالشرع .
الثاني : علوم عملية : والمقصود منها ليس حصول رأي فقط ، بل حصول رأي لأجل عمل ،وهي ثلاثة أقسام ك
- - علم الأخلاق : وهو الذي يعرف به الإنسان كيف تكون أخلاقه وأفعاله ، ويشتمل عليه كتاب أرسطو طاليس في الأخلاق .
- - علم تدبير المنزل : ويشتمل عليه كتاب « أرونس » في تدبير المنزل .
- - علم السياسة المدنية : ويشتمل عليه أفلاطون وأرسطو في السياسة ، ويلحق به ما يتعلق بالنبوة والشريعة . وهو ما يعرف به وجود النبوة وحاجة نوع الإنسان في وجوده وبقائه إلي الشريعة . وتعرف به بعض الحكمة في الحدود الكلية المشتركة في الصنائع ، والتي تخص شريعة شريعة بحسب قوم قوم وزمان زمان . ويعرف به الفرق بين النبوة الإلهية وبين الدعاوى الباطلة كلها [22] .
2- 2- خصائص الوجهة التقليدية :
إن هذه المؤلفات عرف أصحابها بتأثرهم الثقافي بالفلسفة اليونانية .
أما الفارابي وابن سينا فهما متأثران بالفلسفة الأرسطية . وأما إخوان الصفا فبأمشاج من الفلسفة الأفلاطونية . وهذا التأثر بالثقافة الفلسفية اليونانية كان ضمنه تأثر في تصنيف العلوم كان سائدا في الفكر اليوناني ومناطق نفوذه من تصنيف يعود إلي التصنيف الأرسطي .
وإذا كانت هذه التصانيف الثلاثة تختلف فيما بينها في نسبة التقليد فيها ، وفي مقدار ما تميزت به من عنصر الجدة ، فإننا نجدها تشترك في بعض الخصائص المشتقة في أغلبها من تأثرها بالتصنيف اليوناني مع اختلاف فيما بينها في درجة تحقق تلك الخصائص فيها ، وهو ما سنبينه فيما يلي :
( أ ) محاكاة الهيكلية الأرسطية : إذا تأملنا في الهيكل العام الذي أقيمت عليه التصانيف الآنفة الذكر ألفيناها كلها أخذت من الهيكلية الأرسطية في التصنيف ،مع تفاوت بينها في ذلك الأخذ بين استفادة ما وقع إدراجه ضمن هيكلة تبدو جديدة ، وبين محاكاته برمته .
فابن سينا يكاد في تصنيفه يقلد تماما أرسطو العلوم إلي نظرية وعملية ، وتقسيم النظرية إلي إلهية ورياضية وطبيعية ، وتقسيم العلمية إلي الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة .
ورغم أن الفارابي بني هيكل تصنيفه على خمسة أقسام فإننا إذا تجاوزنا القسمين الأولين ( علم اللسان وعلم المنطق ) باعتبار هما لا يدخلان في تصميم هيكل العلوم لأنهما من علوم الآلة ، فإن الأقسام الثلاثة الباقية تتوزع فيما بينها العلم والإلهيات ، والعلم العملي حيث خصص له القسم الخامس . وبهذا يكون الفارابي كأنما وزع القسم النظري عند أرسطو إلي قسمين هما الثالث والرابع في تصنيفه .
أما إخوان الصفا فكأنما فعلوا عكس ما فعله الفارابي ، حيث خصصوا القسم الأول والثاني للعلوم العملية في فصل بين علوم الآداب وعلوم الشريعة ، وخصصوا الثالث للعلوم النظرية فيما يشبه تماما العلوم النظرية عند أرسطو مع زيادة المنطقيات إذ جعلها أرسطو خارج الهيكل لأنه من علوم الآلة .
لقد اجتمعت هذه التصانيف في هيكلها على مبدأ الفصل بين العلوم النظرية والعلوم العملية ، وجعل النظرية تدور على الإلهيات والرياضيات والطبيعيات العملية تدور على الأخلاق والسياسة المدنية والمنزلية ،وهو ما يجعل هيكلها العام يحاكي الهيكلية الأرسطية .
إن العلوم الإسلامية العديدة التي نشأت بخاصة الدعوة الإسلامية لم يكن لها مدخل في تعديل ذي بال في الهيكلية التي اعتمدتها هذه التصانيف ، بل كان مصير ما أخذ بعين الاعتبار من هذه العلوم أن أدرج ضمن الهيكل الجاهز مسبقا ،فأصبح علم الفقه وعلم الكلام عند الفارابي مضمومين إلي العلم المدني في قسم العلوم العملية . وعند إخوان الصفا خصص قسم من قسمي العلوم العملية لبعض العلوم الإسلامية المستجدة مثل علم التأويل وعلم الروايات وعلم الفقه والسنن ، وعلم المواعظ . أما ابن سينا فقد تجاهل العلوم الإسلامية تماما ولم يدرجها ضمن تصنيفه .
( ب ) صيغة التجريد : تبدو هذه التصانيف مصطبغة بصيغة التجريد سواء على مستوى المنطلق المعرفي الذي صدرت عنه ، أو على مستوى البنية التي انتهت إليها ، والمادة التي أقيمت عليها تلك البنية .
فمن حيث المنطلق يبدو واضحا ‹أن هذه التصانيف لم تصدر عن إحصاء عملي لما هو واقع من العلوم بالفعل في العهد الذي أنجزت فيه ، بل تشبه أن تكون صدرت عن تصور ذهني مجرد لما يمكن أن تكون عليه المعرفة البشرية . لقد وضع الإطار الهيكلي للمعرفة ألوا بناء على تصور للوجود : موجودات لا تعلق لها بالأجسام ، وموجودات لها تعلق بالأجسام ، وأجسام طبيعة ، وإنسان له حياة اجتماعية ، ثم أدرجت في ذلك الهيكل أصناف العلوم بحسب مظاهر الوجود .
ولا نعني بما تقدم أن العلوم المدرجة في هذه التصانيف هي العلوم باعتبار إمكانها فحسب ، إذ وقع الإدراج لعلوم واقعة بالفعل ، ولكن نعني أن هذا التصور الذهني لهيكل العلوم السابق على العلوم والواقعة نفسها كان سببا في منهج انتقائي نتج عن إدراج لبعض العلوم التي تناسب الهيكل القبلي ، وإسقاط للكثير مما لا يناسبه من تلك العلوم الناشئة في الثقافة الإسلامية اللاحقة بالنسبة لذلك الهيكل الأرسطي النزعة .
ورغم أن الفارابي أشعر بأنه سيقوم في كتابه بإحصاء العلوم كما تفيده ترجمة كتابه « إحصاء العلوم » ، وكما وعد به في المقدمة حينما قال : « قصدنا في هذا الكتاب أن نحصى العلوم المشهورة علما علما » [23] . إلا أنه في واقع تصنيه أورد العلوم في مورد العموم من حيث تشترك فيها سائر الأمم مقتصرا على ذكر أجناس العلوم دون أن يوردها بأعيانها كما هي واقعة في عهده . في حديثه عن علم اللسان مثلا لم يذكر العلوم المندرجة فيه من نحو وصرف ولغة ، بل عمم القول في هذا العلم ، وجعل منطلقه « إن علم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى ، علم الألفاظ المفردة . وعلم الألفاظ المركبة ، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة ، وقوانين الألفاظ عندما تركب ، وقوانين تصحيح الكتابة ، وقوانين تصحيح القراءة ، وقوانين الأشعار » [24] . ثم جعل يتحدث عن كل علم بمثل هذا التعميم . وكذلك في علم الفقه فإنه تحدث كعلم عام في الأمم دون أن يخص بالبيان الفقه الإسلامي بأجزائه وفروعه .
على هذا النسق الذي سار عليه الفارابي سار أيضا إخوان الصفا ، فقد قدموا للحديث على أصناف العلوم بقولهم : « أعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس : فمنا الرياضية ، ومنها الشرعية الوضعية . ومنا الفلسفية الحقيقية » [25] وهو ما يوحي بأن التصنيف ينطلق من منطلق تجريدي لا من إحصاء واقعي ، أما ابن سينا فقد كان في هذا الإسلامية الواقعة على عهده و لو في المعرفة الإنسانية العامة .
إن الانتقائية في إدراج لعلوم المؤدية إلى إهمال الكثير من العلوم الإسلامية التي فرضها المنطلق النظري لهذه التصانيف أفضت إلى قصورها عن أن تكون متناولة للعلوم الواقعة مبينة لواقعيتها في نشوئها ومادتها وأغراضها و تفاصيل فروعها و أجزائها وصلاتها ببعضها . ولو وقع الانطلاق من واقع المعرفة الإنسانية في البيئة التي على عهدهم مع التوسع إلى غيرها لأدى إلى أن تفرض تلك العلوم الواقعة هيكلاً قابلاً لأن يتسع لها جميعاً . فيفرض حينئذ الواقع منطقه في الاستقراء، وهو المنطق الإسلامي الأصيل بديلاً للمنطق الصوري القياسي القائم على التجريد ، وهو منطق اليونان .
( جـ ) صبغة التفريق : إن المتتبع لوضع العلوم في هذه التصانيف الثلاثة من حيث صلتها ببعضها ، وعلاقتها الداخلية فيما بينها يقف على شيء من التنافر و الافتراق بين هذه العلوم حتى لتبدو أحياناً كأنها الشتات الذي لا تربطه رابطة جلية ، وتظهر كأنها المعارف المتحاذية التي ليس بينها حركة يمتد فيها بعضها إلى بعض ، ويأخذ فيها بعضها من بعض .
ولعل أبرز مظهر لهذه الصبغة ذلك الفصل القاطع الذي ورد في هذه التصانيف بين ما هو نظري وبين ما هو عملي ، وهو ما صوره ابن سينا بجلاء حينما جعل المقصود مت العلم النظري حصول رأي فقط ، ومثل لذلك بعلم التوحيد ، وجعل المقصود من العلم العملي حصول رأي لأجل عمل ، وهو بهذا يكون قد فرق بين علوم شديدة الصلة ببعضها حتى لا يتصور بينها افتراق ؛ إذ العلوم العملية في المفهوم الإسلامي ليست إلا وجهاً تطبيقياً للعلوم النظرية على نحو ما يتضح من صلة علم الفقه بعلم التوحيد ، فهو ليس إلا امتداداً له في مستوى التطبيق .
وقد فرق إخوان الصفا في العلوم العملية بين نوع وضع لطلب المعاش ، ونوع وضع لطلب الآخرة ، وهي تفرقة يأباها واقع العلوم الإسلامية . فعلم الفقه مثلاً وقد وضعوه في العلوم التي تطلب بها الآخرة ، هو علم وضع لتنظيم الحياة الدنيا ابتداءً ، وعلى ذلك الأساس تطلب به الآخرة. وعلم اللغة و النحو وقد وضع في العلوم التي يطلب بها المعاش إنما وضع في الحقيقة في واقع الثقافة الإسلامية ليمكن من فهم القرآن وتحري مقاصده حتى تكون تلك المقاصد سبباً للمعاش و للمعاد في آن واحد . أما الفارابي فرغم تفرقته بين العلوم النظرية التي خصص لها الفصلين الثالث والرابع ، وبين العلوم العملية التي خصص لها الفصل الخامس ، فإنه كان أكثر إدراكا للتواصل بين العلوم وللحركة الداخلية بينها ، ويعتبر إدراجه لعلم الكلام ضمن العلوم العملية أبرز شاهد على ذلك ، فهو يدل على وعي بالغاية العملية لعلم الكلام . ويبدو ذلك الوعي جليا في تعريفه لهذا العلم حينما جعله يتجاوز نصرة الآراء العقائدية المجردة ليمتد إلي نصرة الأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف ما نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف ما خالفها بالأقاويل » [26] . وهذا تعريف فيه من البعد العملي لعلم الكلام ما لم نجده عند غيره من الإسلاميين ،فأين منه ما ذهب إليه ابن سينا من أن علم التوحيد يقصد منه تحصيل رأي فقط كما تقدم ذكره ؟
ومن مظاهر هذه الصبغة التفريقية ما يلاحظ من هوة بين العلوم الناشئة في البيئة الإسلامية ابتداء ، وبين العلوم المأخوذة من الثقافات الأخرى ،فقد بنيت هذه التصانيف على أساس هذه الأخيرة ، ثم أدرجت فيها بعض العلوم الإسلامية النشأة على وجه لم يخل من التكلف ، ودونما إدراك لما آلت إليه جملة كبيرة من علوم الأوائل لما دخلت إلي دائرة الثقافة الإسلامية من وضع جديد أصبحت فيه متواصلة شديدة التواصل مع العلوم الإسلامية على نحو ما نراه من التقاء بين الفقه والحساب نشأ منه علم الفرائض ، وعلى نحو ما وقع من الالتقاء بين علم الهيئة وبني الفقه لتحديد مواقيت العبادات خاصة . إن ذلك الحوار الواسع الذي قام بين العلوم الإسلامية النشأة وبين العلوم المقتبسة ، والذي أسفر عن تواصل بين النوعين وحركة أخذ وعطاء بينهما [27] لا نجد له صدي واضحا في هذه التقاسيم . ومن الغريب أن يكون هؤلاء المصنفون جامعين في ذواتهم بين العلوم في نوعيها ، فقد كان الفارابي مثلا قاضيا وفيلسوفا في نفس الآن ، فكيف لم تتفاعل العلوم في تصانيفهم كما انعقدت عليها أذهانهم ؟
ويبدو أن هذه الصبغة التفريقية بين العلوم ناشئة في أساسها من أن النظر في العلوم بقصد تصنيفها لم يكن من داخل دائرة الثقافة الإسلامية ، حيث تبدو هذه العلوم في واقعها خادمة لهدف واحد هو تأكيد الحقيقة الدينية سواء ما كان منها ناشئا بالخاصية الإسلامية كالفقه والتفسير والحديث وغيرها ، وما كان منها مقتبسا من الثقافات الأخرى ، فانتظمت كلها على نسق من التواصل والتلاقي لتحقيق الهدف المشترك بينها . ولكن هؤلاء المصنفين نظروا إلي العلوم من خارج دائرة الثقافة الإسلامية تأثرا بالثقافة المصنفين نظروا إلي العلوم من خارج دائرة الثقافة الإسلامية تأثرا بالثقافة اليونانية والإشراقية مما أدى إلي اضطراب في إدراج العلوم ، وتردد في إثباتها في التصنيف بين ما هو موجود في الثقافات الأخرى بحسب واقعه في تلك الثقافات ووضعه في المأثور من تصانيفها ، وبين ما هو واقع من العلوم الإسلامية بالفعل ، وكانت نتيجة هذه الازدواجية تصوير العلوم على هيئة يبدو فيه التباعد والتنافر بينها .
ومن المؤكد أن من أسباب هذه الصبغة أيضا ما أشرنا إليه سابقا من أن هذه التصانيف يشبه أن تكون منطلقة من تصور للإمكان العقلي للعلوم لا مما هو واقع منها فعلا وذلك ما أدى إلي القصور عن تصوير نشأة العلوم الواقعة وتطورها إذ تبين النشأة والتطور عن الصلة الشديدة بين العلوم ، فهي ليست في أغلبها إلا ناشئة بعضها من بعض عبر التوسع المعرفي في البيئة الإسلامية . وهو ما يبدو واضحا أشد الوضوح في انطلاق العلوم الإسلامية من النظر في القرآن الكريم والحديث الشريف ، ثم نشأتها بعد ذلك بعضها من بعض في حركة التطور العلمي التي اجتذبت أيضا في مراحل مختلفة العلوم الناشئة في ثقافات أخرى من طب ومنطق وهيئة وغيرها ، فانتظمت هذه العلوم المقتبسة في نسق العلوم الإسلامية النشأة.
أما المنطلق الإمكاني الذي انطلقت منه هذه التصانيف فإنه جعل العلوم تندرج فيها متحاذية متجاوزة غير مندرج بعضها في بعض ولا متصل بعضها ببعض ، خضوعا في ذلك للتقنين العقلي الجاف الذي يعتمد الانطلاق من موضوع العلم نفسه كما ذكره ابن سينا حينما جعل أساس التقسيم أن الأمور المبحوث فيها إما أن تكون المادة من حيث ذاتها أو من حيث عوارضها ، أو تكون لا علاقة لها بالمادة أصلا ، وينشأ من البحث على هذا الأساس العلم الطبيعي والعلم الرياضي والعلم الإلهي [28] . إن هذا الإنطلاق من مواضيع العلوم في التصنيف لا من حركة نشوئها الواقعية أدى إلي وضع من التشتت والافتراق بينها ، وحجب واقع التواصل والتلاقي الذي كانت عليه في البيئة الإسلامية .
( د ) صبغة التعميم : قد عمد أصحاب هذه التصانيف إلي محاولة وضع تصنيف للمعرفة الإنسانية العامة ، فجاء الحديث عن العلوم في غالبه منوطا بأجناس العلوم في عمومها مما تشترك فيه الأقوام . لا بأعيانها مما تظهر فيه خصائص كل أمة ، وقد عبر عن هذا المعني إخوان الصفا حينما قالوا في مقدمة تصنيفهم : « نريد أن نذكر أجناس العلوم ، وأنواع تلك الأجناس ليكون دليلا لطالبي العلم إلي أغراضهم » [29] .
وإذا كان هذا الغرض التعميمي في تصنيف المعرفة البشرية يفيد في تمثل منطق العلوم عامة ، وفلسفة المعرفة البشرية في علاقة الإدراك بالموضوع المدرك ، وفي ترتب الإدراكات فيما بينها ، فإنه أدى في موضوع الحال إلي خلل واضح في وصف العلوم الإسلامية وترتيبها وملاحظة خصائصها .
فزيادة على أن العلوم الإسلامية كانت غائبة في معظمها باعتبار أعيانها في هذه التصانيف وخاصة في تصنيف ابن سينا ، فإنه وقع قصور في إدراك الخاصية الإسلامية في نشأة العلوم المنشأة ، وفي اقتباس العلوم المقتبسة ، فذكرت العلوم على وجه العموم خلوا من تلك الخصائص ، منبتة عن نسقها المعرفي في البيئة الثقافية الإسلامية .
ولعل من أهم الخصائص التي أهمل شأنها في هذه التصانيف خاصية الالتزام بخدمة الحقيقة الدينية في العلوم المنشأة والمقتبسة على حد سواء ، في حين لم ينشئ المسلمون علما ، ولم يقتبسوا علما إلا لغرض خدمة حقيقة دينية عقدية أو شرعية بصفة مباشرة أو غير مباشرة .
فالفارابي نجده يفرق بين العلم المدني وبين علم الفقه ، وإذا كان يسوق علم الفقه على أنه علم يخدم حقائق الشريعة ، فإنه يسوق العلم المدني في سياق خرج عن هذا المعني ، ويجعل مسائل هذا العلم ( وهي السياسة الملكية ) تجري على مقتضى ما يراه العقل بعيدا عن تعاليم الشرع ، والحال أن هذه المسائل مندرجة في الثقافة الإسلامية في صلب علم الفقه فيما يعرف بالسياسة الشرعية ، فليس إذا من مبرر للفصل بين العلم المدني وعلم الفقه بحسب واقع العلوم الإسلامية إلا أن يكون الاقتناع بأن الحكم وشؤونه لا مدخل للشرع فيه بالبيان ،وإنما هو جار على مقتضى العقل ،وذلك خلل واضح في فهم حقيقة الإسلام وما اتصف به من شمول البيان لكل مناحي التصرف الإنساني .
أما ابن سينا فإنه كان أكثر وضوحا في سوق عاما ، وإغفال العلوم الإسلامية في غايتها الملتزمة حتى إنه يجعل مرجع التحديد لما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان في أخلاقه فرعا من فروع العلم العملي اشتمل عليه كتاب أسطو في الأخلاق . ويجعل مرجع التحديد لما ينبغي أن تكون عليه حياته في تدبير منزله فرعا آخر اشتمل عليه كتاب أرونس في تدبير المنزل دون التفات في كل ذلك إلي أي علم من العلوم الإسلامية التي تضبط التحديدات الشرعية لحياة الإنسان في هذين المجالين .
وقد سلك إخوان الصفا نفس المسلك حينما أثبتوا في القسم الأول علوما رياضية هي علوم الآداب ، ومن ضمنها علم البيع والشراء والتجارات ،وأثبتوا في القسم الثاني العلوم الشرعية ومن بينها علم الفقه ،وفي هذا إيذان بأن البيع والشراء والتجارات منها ما يكون على مقتضى الشرع ومنها ما يكون على مقتضى العقل .
إن هذا التعميم في إيراد العلوم عند هؤلاء المصنفين لم يكن على سبيل الوصف و التقرير للعلوم الإنسانية عموماً من حيث إنها علوم تحدد مسالك حياة الإنسان بحسب ما رأته الأقوام الذين نشأت فيهم بل كان تعميماً تقديرياً اقتضى كما عبر عنه ابن سينا بوضوح أن تكون بعض العلوم اليونانية مصدراً لما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان حتى في البيئة الإسلامية التي نشأت فيها علوم شرعية ملتزمة بإخضاع الحياة الإنسانية لحقيقة الدين في المجال السلوكي ، وفي هذا قصور بين عن إدراك البيئة المعرفية الإسلامية الملتزمة بتأكيد الحقيقة الدينية كما بدا في سائر ما نشأ فيها وما اقتبس من علوم .
3 – دور الوجهة التقليدية في بناء الفكر الإسلامي :
إذا ما عدنا إلى هذه الوجهة التقليدية الإسلامية في تصنيف العلوم لنتبين ما قامت به من دور في بناء الفكر الإسلامي ، وما قصرت عنه في ذلك ، فإننا نلفيها قامت بدور لا ينكر أثره تمثل أساسا في إدخال الفكر التصنيفي في دائرة الثقافة الإسلامية كمنهج لتنظيم المعرفة في نسق منطقي تترتب فيه العلوم على نحو من الترتيب قدر أنه يوفي بغرض التحصيل الأقوم للعلم . وبالإضافة إلي هذه الإفادة على المستوى المنهجي الفلسفي فإن هذه الوجهة أفادت أيضا في نقل تجربة اليونان في التصنيف وهي التجربة التي تقوم في مبدئها وبصرف النظر عن محتواها عن منطق عقلي يفضي لا محالة إلي مران الذهن على تبين مسالك المعرفة التي تقوم على القواعد العقلية دون مسالك الإشراق ، وفي ذلك كله لا محالة دفع للفكر الإسلامي إلي أن تتكون لديه ملكة التصنيف كمنهج لترتيب المعرفة ، ولهذا الفكر بعد ذلك أن يصرف ذلك المنهج فيما يناسب البيئة الثقافية الإسلامية الخاصة .
إلا أننا إذا نظرنا إلي هذه الوجهة من ناحية أخرى مقارنة بين ما اتصفت به من خصائص التجريد والتفريق والتعميم ، وبين ما يتطلبه وضع الثقافة الإسلامية من نمط الفكر يستجيب لغرض الحقيقة الدينية التي كانت محورا يحرك الحياة الإسلامية كلها ، ألفيناها قصرت عن الإيفاء بما هو مطلوب من أغراض .
إن البيئة الثقافية الإسلامية نشأت العلوم العديدة ، وأدخلت إلي دائرتها اقتباسا العلوم الكثيرة ، وكان ذلك بداعي خدمة الحقيقة الدينية في مختلف مظاهرها ، ولذلك كانت تلك العلوم كلها مستقرة في مجال الثقافة الإسلامية على وضع من التناسق والتواصل بينها . وعلى وضع من اندراج بعضها في بعض ، وامتداد بعضها إلي بعض بحيث تؤدي في كل وضع من تلك الأوضاع إلي تأكيد الحقيقة الدينية التي من أجلها وضعت .
والفكر الإسلامي لكي يجد سبيله الصحيح في رحلته عبر تلك العلوم إلي تمثل الحقيقة الدينية – وتلك هي غاية العمل كما مر بيانه – يحتاج إلي منهج تصنيفي لتلك العلوم يقوم على محاكاة واقعها في التواصل والتناسق والالتزام فيما أنشئ انشاء وفيما اقتبس من المعرفة الإنسانية العامة ، وذلك ما لم تستطع هذه الوجهة التقليدية أن توفي به لجنوحها إلي التفريق والتجريد والتعميم في منهجية التصنيف ، ولعل ذلك يرجع فيما يرجع إلي أن تلك الوجهة تمثل المرحلة الأولى في التصنيف لدى المسلمين ، حيث لم تكن على عهدها قد اكتملت العلوم الإسلامية ووضحت صورة مستقرها ،بل كانت لا زالت في طور التوالد والتكامل والتنامي ، فربما كان التقليد خطوة لازمة نحو التأصيل ،فهل استطاعت وجهة التأصيل أن توفي بالغرض المطلوب ؟
III- الوجهة التأصيلية في تصنيف العلوم :
كانت هذه الوجهة متأخرة في الزمن بالنسبة لسابقتها ؛ إذ لا نجد لها ظهورا إلا في أواخر القرن الرابع ، وإنه لمما يلفت الانتباه ألا يكون للمتكلمين محاولة في هذا الصدد ،وهم الذين مثلوا الظهور المبكر للنزعة الفلسفية العقدية في البيئة الإسلامية ، وذلك منذ ظهر المعتزلة أوائل القرن الثاني ، فهم بذلك المرشحون لأن يكونوا روادا للنزعة التأصيلية في تصنيف العلوم باعتبار الطبيعة العقلية الفلسفية للتصنيف . ولعل تخلف المتكلمين عن القيام بهذا الدور يعود إلي أن التصنيف لم يكن يمس محورا عقديا بحيث يمثل تحديا المواجهة التصحيحية وهو ما ندب المتكلمون أنفسهم للاضطلاع به .
وسنعتمد في إدراج المؤلفات ضمن هذه الوجهة مدى ما تكون عليه هذه المؤلفات من تحرر من التصنيف اليوناني للعلوم ،ومن محاولة ذاتية في التصنيف تقوم على استجلاء خصائص العلوم في واقع البيئة الثقافية الإسلامية لتشتق منها أسسا للتصنيف تعود في طبيعتها إلي الأصول العقدية التي كانت البيئة الثقافية الإسلامية امتدادا لها وبعدا من أبعادها .
بهذا المقياس تندرج ضمن هذه الوجهة التأصيلية جملة من التصانيف التي أوردناها في اللائحة المتقدمة ، وأخرى أقل منها شأنا لم نوردها [30] .
وتختلف هذه التصانيف في درجة نضجها وتأصيلها واستيعابها ، وعلى وجه العموم فإن مرور الزمن أتى عليها بالإنضاج ومزيد من الشمول والاستيعاب .
وفيما يلي نورد عرضا لواقع التصنيف في هذه الوجهة ثم نبين خصائصها التأصيلية :
1- 1- واقع التصنيف في الوجهة التأصيلية :
نرشح فيما يلي أربعة من التصانيف المندرجة من هذه الوجهة نقدر أنها تمثل الخصائص العامة لوجهة التأصيل ، مع مراعاة للتطور الزمني أيضا ، وهي الفهرست لابن نديم ، ورسالة ابن حزم ،ومقدمة ابن خلدون ،ومفتاح السعادة لطاش كبرى زادة .
(أ ) تصنيف العلوم عند ابن النديم [31] : لم يكن كتاب الفهرست لابن النديم كتابا متمحضا لتصنيف العلوم ،بل هو كتاب يؤرخ للمعرفة المنتشرة في المجتمع الإسلامي متمثلة في العلوم والمذاهب ، وفي العلماء والمؤلفات ، إلا أن الهيكل الذي بني عليه ابن النديم كتباه والملاحظات المتعددة المبثوثة فيه بالمعرفة من حيث تصنيفها ترشح هذا الكتاب لأن يكون وثيقة مهمة في تصور البناء المعرفي للعلوم ، ويمكن أن نتبين هذه الأهمية فيما وصف به ابن النديم كتابه حينما قال : « هذا فهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم . الموجود منها بلغة العرب وقلمها في أصناف العلوم ،وأخبار مصنفيها ، وطبقات مؤلفيها وأنسابهم … منذ ابتداء كل علم اخترع إلي عصرنا هذا » [32] .
بني الفهرست على عشر مقالات ، كل مقالة اختص بعلم أساسي من العلوم : شرحا لنشأته ، أو ترجمته واقتباسه ، وبيانا لأهم ما ألف فيه ؛ وقد رتبت هذه المقالات على النحو التالي :
ـ المقالة الأولي : في لغات الأمم وكتب الشرائع ، والقرآن وعلومه .
ـ المقالة الثانية : في النحو والنحويين .
ـ المقالة الثالثة : في الأخب