حسن
المقصد في عمل المولد
للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي
بسم الله
الرحمن الرحيم
حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على مصطفاه، وعلى آله ومن والاه، في
مبدأ الأمر ومنتهاه .
ورضي الله تعالى عن أشياخنا في الله، ورحم من سبقنا من إخواننا
بالإيمان إليه، ووفق أحياءنا إلى ما يحبه ويرضاه .
أمَّا بعد :
فهذا كتاب الإمام السيوطي (حسن المقصد في عمل المولد)، بين فيه
الإمام مشروعية المولد، ورد على من يقول ببدعية الاحتفال
بالمولد. ونحن ننشره في مواجهة ذلك الخلط العجيب في بعض
المفاهيم، مع التعصب الأعمى، ورمي المسلمين بالبدعة والجهل.
وكان الإمام السيوطي رحمه الله قد كتب هذا الكتاب رداً على
كتاب الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور
بالفاكهاني من متأخري المالكية الذي سماه (المورد في الكلام
على عمل المولد)، وادعى فيه أنَّ عمل المولد بدعة مذمومة، وجاء
بعضهم فاستخلص كتاب الفاكهاني من كتاب السيوطي هذا، وصار ينشره
هاهنا وهاهنا على شبكة الانترنت، من غير إشارة أو بيان إلى
ردود السيوطي على ما ورد في رسالة الفاكهاني.
هذا، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما
ينفعنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعــــد: فقد وقع السؤال عن عمل المولد
النبوي في شهر ربيع الأول، ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود
أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أو لا؟.
الجـــــواب:
عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما
تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى
الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط
يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة
التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله
عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
وأول من أحدث فعل ذلك صاحب اربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى
بن زين الدين علي بن بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء
الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح
قاسيون.
قال ابن كثير في تاريخه:
كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به
احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه
الله وأكرم مثواه.
قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب ابن دحية مجلدا في المولد
النبوي سماه (التنوير في مولد البشير النذير) فأجازه على ذلك
بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر
للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة.
وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمن:
حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عد في
ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس
ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى.
قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع
عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر
ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاث مائة
ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة،
فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يستفك
من الفرنج في كل سنة أسارى بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على
الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، هذا
كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت
الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي
خمسة دراهم، قالت: فعاتبته في ذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة
وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير
والمسكين.
وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي
الخطاب ابن دحية:
كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب
فدخل الشام والعراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها
المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له
كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه
فأجازه بألف دينار.
قال: وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين
وستمائة. انتهى.
وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي
اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل
المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه (المورد في الكلام
على عمل المولد)، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا؛
قال رحمه الله:
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا
بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين
حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر
سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين، أحمده على ما من
به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل
المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا
عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم
الدين.
أما بعـد: فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي
يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه (المولد) هل له أصل
في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟، وقصدوا الجواب عن ذلك
مبيناً، والإيضاح عنه معينا، فقلت وبالله التوفيق:
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن
أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار
المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها
الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة
قلنا: إما أن يكون واجبا أو
مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، وليس بواجب إجماعا، ولا
مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه،
وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون
المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن
عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس
مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما،
وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين
ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل
الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام، وهذا الذي وصفناه بأنه
بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة
الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين
الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم
الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف،
وقد قال العلماء: أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف، لا سيما إن
انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من
الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء
الفاتنات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني
والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك
النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك
والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر
المعتاد غافلات عن قوله تعالى(إن ربك لبالمرصاد)، وهذا الذي لا
يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان،
وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام
والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات
المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون، (بدأ الإسلام غريبا
وسيعود كما بدا).
ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدة * وصار أهل الجهل في رتبة
جازوا عن الحق فما للذي * ساروا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى * والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت * نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس
بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله
عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس
الفرح فيه بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول، ومن
الله تعالى نرجو حسن القبول.
هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه
المذكور.
وأقـــول:
أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة،
فيقال عليه: نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له
إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا
أصلاً ثانياً، وسيأتي ذكرها بعد هذا.
وقوله: بل هو بدعة أحدثها
البطالون... إلى قوله: ولا العلماء المتدينون يقال عليه: قد
تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى،
وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن
دحية، وصنف له من أجله كتاباً، فهؤلاء علماء متدينون رضوه
وأقروه ولم ينكروه.
وقوله: ولا مندوبا لأن حقيقة
المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه: إن الطلب في المندوب تارة
يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه
القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.
وقوله: ولا جائز أن يكون مباحا
لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين: كلام غير
مسلم، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون
أيضا: مباحة ومندوبة وواجبة.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات:
البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله
صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في
القواعد:
البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة
ومباحة.
قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا
دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي
محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح
فمباحة.
وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى
أن قال:
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الربط والمدارس،
وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: التراويح، والكلام
في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها: جمع المحافل للاستدلال في
المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي
عن الشافعي قال:
المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا،
فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه
محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: (نعمت البدعة
هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
هذا آخر كلام الشافعي.
فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين: ولا جائز أن يكون مباحا...
إلى قوله: وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره؛ لأن
هذا القسم مما أحدث، وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر
ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من
الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فإن إطعام الطعام الخالي
عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة
ابن عبد السلام.
وقوله: والثاني ...إلى آخره، هو
كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه
الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار
شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة
الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك ذم أصل
الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور
يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فهل
يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا، بل
نقول: أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من
هذه الأمور قبيح شنيع، وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعار
المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.
يتبع ....