بحث في التفسير
(( النور والظلمات ))
لسماحة آية الله العظمى
السيد محمود الحسني
(دام ظله الشريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
{اللَّهُ وَلِي ُّالَّذِين َآمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِن َالظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ وَ الَّذِين َكَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِن َالنُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُون}َ
السؤال : كيف كان الأصل أن الذين آمنوا في ظلمات والذين كفروا في نور فيتم
إخراج كل فريق إلى الجزء المقابل . أليس المفروض أن الذين آمنوا في نور
والذين كفروا في ظلمات ، وما معنى هذه المقابلة ؟ نرجو من سماحتكم التوضيح
ولكم الأجر والثواب .
بسمه تعالى: ورد في تفسير ذلك عدة معاني ، منها :
أولاً : أنها نزلت في قوم كانوا كافرين فهداهم الله تعالى إلى الإيمان
والنور ، وفي قوم آخرين كانوا مسلمين فغواهم الشيطان والطاغوت فتركوهم في
ضلال وظلام يتيهون .
ثانياً : أنها نزلت عامة تشمل كل مؤمن وكافر والكلام هنا في أطروحتين :
(1) أن الإنسان بحسب أصل طينته وهيولانيته من سنخ الظلمات كالجسمية
والحيوانية والطبيعة التي مقتضى ذاتها أفعال أو يصدر منها أفعال توجب
الطرد والبعد عن رحمة الله ، وتتفاوت هذه الأفعال وشدة الظلمة بحسب تفاوت
الأرواح والقلوب في الكدورة والصفاء الفطريين وبحسب العقائد والأعمال .
وبناءاً على هذه الأطروحة يكون المعنى أنه تعالى يخرجهم من ظلمات الخلقة
إلى نور الهداية حتى اهتدوا وآمنوا ، وفي مقابل ذلك فإن الإنسان بالرغم من
ذلك ما دام باقياً على مفترق الطريقين وعنده الاستعداد الفطري للهداية
وتقبل الفيض والنور الإلهي ، فإنه في نور بالمقارنة مع طريق الانحراف
والضلال والظلام الفعلي الذي يدفعه ويخرجه إليه الطاغوت فيكون من الكافرين
، وبهذا يكون الطاغوت قد أخرج الكافر من النور إلى الظلمات لو سلك طريق
الطاغوت.
(2) أن الله منح الإنسان بأوصاف نفسانية كالشهوة والغضب والوهم من أجل أن
يسخرها القلب ويستعملها فيما خلقت من أجله وهو استخدامها في طاعة الله
تعالى على الوجه الشرعي الوسط العدل دون الإفراط والتفريط ، وعليه فإن
وجود تلك الصفات وعدم استخدامها في طاعة الله وطريق الهداية يعتبر ظلمة
ووبالاً على النفس الآدمية لأنها ستكون في ظلمات الطين وعتمتها بعيدة عن
الهداية ، في مصيدة وشراك إبليس والهوى ، مما يوجب العذاب والجهل والحرمان
والموت والنار والجحيم .
وبناءاً على هذه الأطروحة يكون المعنى أنه تعالى يخرجهم من ظلمات الطينة
وعتمتها واستعدادها للكفر والضلالة إلى النور والإيمان والهداية والعناية
والنصرة ، ويشهد لهذا :
قوله تعالى ((أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً)) الأنعام/122 .
وقوله تعالى ((فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ )) البقرة/64 .
وفي مقابل ذلك يقال أن الإنسان مادام لم يستخدم تلك الصفات ولم يوظّفها في
الضلال والشر والظلام فعلاً وما دام الاستعداد الفطري للهداية والخير
والنور والصلاح موجوداً فإنه في نور بالمقارنة مع سلوك طريق الظلام
والظلال فعلاً واستخدام تلك الصفات في خدمة الهوى وامتثال أمر إبليس ، فلو
إتبع الطاغوت وغوايته يكون قد خرج من النور إلى الظلمات ، في هذه الاطروحة
والاطروحة السابقة يمكن أن يُقال أن النور الذي كان فيه الكافر هو بحسب
روحه التي هي من العالم العلوي عالم النور وفيها الاستعداد الروحاني للرقي
والتكامل ، وبإفساد هذا بالكفر وإتباع الهوى يكون قد خرج من النور إلى
الظلمات ، ويشير لهذا المعنى الأخير قوله تعالى ((لَقَدْ خَلَقْنَا
الإِْنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) بحسب روحه ، ((ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ)) بإفساد الاستعداد الروحاني بالكفر ومتابعة الهوى
والطاغوت .
ثالثاً : المتبادر من الأطروحتين السابقتين أنها تخص مرحلة واحدة وهي صورة
المفترق بين الكفر والإيمان وهذه الأطروحة تكون أعم منهما حيث تعم الصورة
المذكورة والصورة المحتملة في خط الإيمان فقط والصور المحتملة في خط الكفر
فقط ، وللبيان يقال :
إن مراتب الإيمان متعددة ومتفاوتة ، فالانتقال والترقي من مرتبة أدنى إلى
مرتبة أعلى وأرقى يمثل الخروج من الظلمة إلى النور والعكس صحيح أي ان
الانتقال والتدني من مرتبة أعلى وأرقى إلى مرتبة أدنى وأقل رقياً يمثل
الخروج من النور إلى الظلمة ، ومثل هذا الكلام يقال في الكفر ومراتبه .
وفي المقام نتحدث عن الإيمان ومراتبه ومنه يعرف الكلام عن الكفر ومراتبه .
إن مراتب الإيمان متفاوتة ، فالمؤمنون على طوائف عديدة يمكن تصنيفهم إلى ثلاث طوائف :
1 : الطائفة الأولى : عوام المؤمنين ، (العوام)
وهؤلاء يخرجهم الله تعالى من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية .
2 : الطائفة الثانية : خواص المؤمنين (الخواص) .
وهؤلاء يخرجهم الله تعالى من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور
الروحانية الربانية فتطمئن قلوبهم بذكر الله تعالى ومعرفة العلوم الإلهية
، ولا يحصل الاطمئنان إلا بعد تصفية القلب عن الصفات النفسانية والجسمانية
وتحليته بالصفات الروحانية فعندما يستولي سلطان المعرفة الإلهية على نفس
المؤمن وقلبه ، تنوّرت نفسه بنور الذكر وخرجت عن ظلمة صفاتها فتبدلت
أخلاقها الذميمة بالحميدة ، فيكون إِطمئنانها مع العلوم الإلهية وذكر الله
تعالى بدل ما كان مع الدنيا ، فتستحق حينئذٍ أن يخرجها الله تعالى بخطاب
((يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)) أي
من ظلمات الصفات غير المرضية إلى نور صفة ((راضِيَةً
مَرْضِيَّةً))((فَادخُلي في عِبادي)) أي في مقام خواص عبادي .
3 : الطائفة الثالثة : خواص خواص المؤمنين ((خواص الخواص )) .
وهؤلاء يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور وجوده ، أي تبديل أوصاف البشرية
بأخلاق الربوبية فيخرجهم تعالى من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية بإفنائهم
عن وجودهم إلى نور تجلي بعض صفاته تعالى لهم ، كتجلي صفة (القديم) ,
(مثلاً) لأصحاب الكهف ليبقيهم به ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى ((
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا
عَلى قُلُوبِهِمْ )) الكهف/ 13-14
فلما تقربوا إلى الله تعالى بالمخاطرة بأرواحهم في طلب الحق والكفر
بالطاغوت ، فإن الله تعالى تقرب إليهم بمزيد العناية فزادهم تعالى هدى ،
كما في قوله تعالى ((وَزِدْناهُمْ هُدىً)) .
فلما تنورت أنفسهم بأنوار أرواحهم ، إطمئنت إلى ذكر الله وأنست به ،
واستوحشت عن صحبة أهل الدنيا وما فيها ، وأحبّوا الخلوة مع الله تعالى.
رابعاً : المقصود في الآية أن الله تعالى يعدل بالمؤمنين من النار إلى الجنة ، وأن الطاغوت يحرف بالكافرين من الجنة إلى النار .
وما يقال من أنه كيف يخرجهم الله تعالى من النار إلى الجنة وهم لم يكونوا
في النار أصلاً ، وكذا الكلام في إخراج الكافرين من الجنة وهم لم يكونوا
فيها أصلاً ؟؟
يحتمل دفعه بعدة أدلة :
(1) القرآن : إن القرآن المجيد الحق والقول الفصل ، قد استعمل هذا الأسلوب في موارد عديدة منها :
أ) قوله تعالى ((وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها)) آل عمران/103
ومعلوم أنهم لم يكونوا في النار .
ب) قوله تعالى ((لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ )) يونس/98 .
والمعلوم أنه ما كان نزل بهم عذاب أصلاً .
جـ) قوله تعالى ((إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )) يوسف/37
ومن الواضح أن يوسف (عليه السلام) لم يكن في تلك الملة أصلاً .
د) قوله تعالى ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُر)) النحل /70
والمعلوم أنهم لم يكونوا في أرذل العمر قبل ذلك أصلاً .
(2) السنة :وفي السنة الشريفة تكرر مثل هذا الاستعمال كثيراً ومنه :
1 - روي {{ أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سمع إنساناً قال : أشهد أن
لا إله إلا الله فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): على الفطرة ، فلمـا قال
(الإنسان): أشهد أن محمداً رسول الله ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) :
خرج من النار}} .
ومعلوم أن ذلك الإنسان لم يكن في النار أصلاً.
2 - روي {{ ان النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قال للصحابة:
(تتهافتون في النار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم) ، ولا يخفى أنهم
ما كانوا متهافتين في النار .
(3) العرف : وردت استعمالات كثيرة في العرف من هذا القبيل ولا يخفى أن
القرآن نزل بلغة يمكن أن يفهمها العرف السائد ، ومن الاستعمالات العرفية
(مثلاً) أن الأب إذا أنفق أمواله ، فإن الابن يقول له (قد أخرجتني من
مالك) أو يقول له (قد حرمتني من الميراث) وهذا يعني لم تجعل لي فيه شيئاً
، لا أنه كان لي منه فأخرجته مني .
(4) العقل : أن الإنسان وإن لم يكن في النار ظاهراً ولم يكن كافراً أصلاً
إلا أن نفسه في أول الفطرة ، خالية عن الكمالات العلمية والعملية ناقصة في
معنى الإنسانية ، فهو مشارك للحيوانات في الأغراض الشهوية الغضبية ، بل
أنزل رتبة وأضل سبيلاً في الدواعي النفسانية والميل إلى الدنيا والإخلاد
إلى الأرض ، فإن بقي على هذه الحالة التي هي بعينها سبب دخـول الجحيم وغضب
الجبار ، فكان على شفير جهنم ، أو هي عينها دخول الجحيم وغضب الجبار (على
قول) وإذا تنورت ذاته بالإيمان اليقيني والمعارف الإيمانية والعمل
بمقتضاها ، فقد حصل له ما هو سبب دخول الجنان ومجاورة الرحمن ، (وعلى قول)
حصل له ما هو عينه دخول الجنان ومجاورة الرحمن .
فالعبد لو خلي ساعة من توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات مما توجبه
الشهوات ، فصار إمداد لطف الله تعالى وإفاضة نوره آناً فآناً سببا لدفع
تلك الظلمات عنه .
مع ملاحظة المشابهة بين الدفع والرفع وملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإنه يمكن
استعمال الإخراج والإبعاد أو العدول في معنى الرفع والدفع مع ملاحظة
المشابهة ، أي يمكن استعمال الإخراج ويراد به معنى العدول أو الإبعاد وفي
المقام الإبعاد عن الجنة أو الإبعاد عن النار .
خامساً : فيما يخص إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور فأن تفسيره على
أحد الاطروحات السابقة وفي هذا المقام يقال أن من تطبيقات النور بل أوضح
وأشرف وأفضل تطبيقاته هو ولاية آل بيت محمد المعصومين (صلوات الله عليهم
أجمعين) .
أما ما يخص الكافرين وإخراجهم من النور إلى الظلمات فالآية تشير إلى قومٍ
مسلمين كانوا على نور الإسلام ، فلما تَوَلّوا كل إمام جائر طاغوت خرجوا
بولايتهم للطواغيت من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر فأوجب الله (القاهر)
لهم النار مع الكافرين والمنافقين . ولا يخفى على جميع المسلمين ما ورد عن
النبي الكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) معنى أنه من لم يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية أو مات يهودياً أو نصرانياً ، فكيف حال من يعرف إمام زمانه
ويعدل عنه إلى الجائرين والطواغيت .
والحمد لله رب العالمين
(( النور والظلمات ))
لسماحة آية الله العظمى
السيد محمود الحسني
(دام ظله الشريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
{اللَّهُ وَلِي ُّالَّذِين َآمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِن َالظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ وَ الَّذِين َكَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِن َالنُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُون}َ
السؤال : كيف كان الأصل أن الذين آمنوا في ظلمات والذين كفروا في نور فيتم
إخراج كل فريق إلى الجزء المقابل . أليس المفروض أن الذين آمنوا في نور
والذين كفروا في ظلمات ، وما معنى هذه المقابلة ؟ نرجو من سماحتكم التوضيح
ولكم الأجر والثواب .
بسمه تعالى: ورد في تفسير ذلك عدة معاني ، منها :
أولاً : أنها نزلت في قوم كانوا كافرين فهداهم الله تعالى إلى الإيمان
والنور ، وفي قوم آخرين كانوا مسلمين فغواهم الشيطان والطاغوت فتركوهم في
ضلال وظلام يتيهون .
ثانياً : أنها نزلت عامة تشمل كل مؤمن وكافر والكلام هنا في أطروحتين :
(1) أن الإنسان بحسب أصل طينته وهيولانيته من سنخ الظلمات كالجسمية
والحيوانية والطبيعة التي مقتضى ذاتها أفعال أو يصدر منها أفعال توجب
الطرد والبعد عن رحمة الله ، وتتفاوت هذه الأفعال وشدة الظلمة بحسب تفاوت
الأرواح والقلوب في الكدورة والصفاء الفطريين وبحسب العقائد والأعمال .
وبناءاً على هذه الأطروحة يكون المعنى أنه تعالى يخرجهم من ظلمات الخلقة
إلى نور الهداية حتى اهتدوا وآمنوا ، وفي مقابل ذلك فإن الإنسان بالرغم من
ذلك ما دام باقياً على مفترق الطريقين وعنده الاستعداد الفطري للهداية
وتقبل الفيض والنور الإلهي ، فإنه في نور بالمقارنة مع طريق الانحراف
والضلال والظلام الفعلي الذي يدفعه ويخرجه إليه الطاغوت فيكون من الكافرين
، وبهذا يكون الطاغوت قد أخرج الكافر من النور إلى الظلمات لو سلك طريق
الطاغوت.
(2) أن الله منح الإنسان بأوصاف نفسانية كالشهوة والغضب والوهم من أجل أن
يسخرها القلب ويستعملها فيما خلقت من أجله وهو استخدامها في طاعة الله
تعالى على الوجه الشرعي الوسط العدل دون الإفراط والتفريط ، وعليه فإن
وجود تلك الصفات وعدم استخدامها في طاعة الله وطريق الهداية يعتبر ظلمة
ووبالاً على النفس الآدمية لأنها ستكون في ظلمات الطين وعتمتها بعيدة عن
الهداية ، في مصيدة وشراك إبليس والهوى ، مما يوجب العذاب والجهل والحرمان
والموت والنار والجحيم .
وبناءاً على هذه الأطروحة يكون المعنى أنه تعالى يخرجهم من ظلمات الطينة
وعتمتها واستعدادها للكفر والضلالة إلى النور والإيمان والهداية والعناية
والنصرة ، ويشهد لهذا :
قوله تعالى ((أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً)) الأنعام/122 .
وقوله تعالى ((فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ )) البقرة/64 .
وفي مقابل ذلك يقال أن الإنسان مادام لم يستخدم تلك الصفات ولم يوظّفها في
الضلال والشر والظلام فعلاً وما دام الاستعداد الفطري للهداية والخير
والنور والصلاح موجوداً فإنه في نور بالمقارنة مع سلوك طريق الظلام
والظلال فعلاً واستخدام تلك الصفات في خدمة الهوى وامتثال أمر إبليس ، فلو
إتبع الطاغوت وغوايته يكون قد خرج من النور إلى الظلمات ، في هذه الاطروحة
والاطروحة السابقة يمكن أن يُقال أن النور الذي كان فيه الكافر هو بحسب
روحه التي هي من العالم العلوي عالم النور وفيها الاستعداد الروحاني للرقي
والتكامل ، وبإفساد هذا بالكفر وإتباع الهوى يكون قد خرج من النور إلى
الظلمات ، ويشير لهذا المعنى الأخير قوله تعالى ((لَقَدْ خَلَقْنَا
الإِْنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) بحسب روحه ، ((ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ)) بإفساد الاستعداد الروحاني بالكفر ومتابعة الهوى
والطاغوت .
ثالثاً : المتبادر من الأطروحتين السابقتين أنها تخص مرحلة واحدة وهي صورة
المفترق بين الكفر والإيمان وهذه الأطروحة تكون أعم منهما حيث تعم الصورة
المذكورة والصورة المحتملة في خط الإيمان فقط والصور المحتملة في خط الكفر
فقط ، وللبيان يقال :
إن مراتب الإيمان متعددة ومتفاوتة ، فالانتقال والترقي من مرتبة أدنى إلى
مرتبة أعلى وأرقى يمثل الخروج من الظلمة إلى النور والعكس صحيح أي ان
الانتقال والتدني من مرتبة أعلى وأرقى إلى مرتبة أدنى وأقل رقياً يمثل
الخروج من النور إلى الظلمة ، ومثل هذا الكلام يقال في الكفر ومراتبه .
وفي المقام نتحدث عن الإيمان ومراتبه ومنه يعرف الكلام عن الكفر ومراتبه .
إن مراتب الإيمان متفاوتة ، فالمؤمنون على طوائف عديدة يمكن تصنيفهم إلى ثلاث طوائف :
1 : الطائفة الأولى : عوام المؤمنين ، (العوام)
وهؤلاء يخرجهم الله تعالى من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية .
2 : الطائفة الثانية : خواص المؤمنين (الخواص) .
وهؤلاء يخرجهم الله تعالى من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور
الروحانية الربانية فتطمئن قلوبهم بذكر الله تعالى ومعرفة العلوم الإلهية
، ولا يحصل الاطمئنان إلا بعد تصفية القلب عن الصفات النفسانية والجسمانية
وتحليته بالصفات الروحانية فعندما يستولي سلطان المعرفة الإلهية على نفس
المؤمن وقلبه ، تنوّرت نفسه بنور الذكر وخرجت عن ظلمة صفاتها فتبدلت
أخلاقها الذميمة بالحميدة ، فيكون إِطمئنانها مع العلوم الإلهية وذكر الله
تعالى بدل ما كان مع الدنيا ، فتستحق حينئذٍ أن يخرجها الله تعالى بخطاب
((يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)) أي
من ظلمات الصفات غير المرضية إلى نور صفة ((راضِيَةً
مَرْضِيَّةً))((فَادخُلي في عِبادي)) أي في مقام خواص عبادي .
3 : الطائفة الثالثة : خواص خواص المؤمنين ((خواص الخواص )) .
وهؤلاء يخرجهم من ظلمات وجودهم إلى نور وجوده ، أي تبديل أوصاف البشرية
بأخلاق الربوبية فيخرجهم تعالى من ظلمات حدوث الخلقة الروحانية بإفنائهم
عن وجودهم إلى نور تجلي بعض صفاته تعالى لهم ، كتجلي صفة (القديم) ,
(مثلاً) لأصحاب الكهف ليبقيهم به ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى ((
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا
عَلى قُلُوبِهِمْ )) الكهف/ 13-14
فلما تقربوا إلى الله تعالى بالمخاطرة بأرواحهم في طلب الحق والكفر
بالطاغوت ، فإن الله تعالى تقرب إليهم بمزيد العناية فزادهم تعالى هدى ،
كما في قوله تعالى ((وَزِدْناهُمْ هُدىً)) .
فلما تنورت أنفسهم بأنوار أرواحهم ، إطمئنت إلى ذكر الله وأنست به ،
واستوحشت عن صحبة أهل الدنيا وما فيها ، وأحبّوا الخلوة مع الله تعالى.
رابعاً : المقصود في الآية أن الله تعالى يعدل بالمؤمنين من النار إلى الجنة ، وأن الطاغوت يحرف بالكافرين من الجنة إلى النار .
وما يقال من أنه كيف يخرجهم الله تعالى من النار إلى الجنة وهم لم يكونوا
في النار أصلاً ، وكذا الكلام في إخراج الكافرين من الجنة وهم لم يكونوا
فيها أصلاً ؟؟
يحتمل دفعه بعدة أدلة :
(1) القرآن : إن القرآن المجيد الحق والقول الفصل ، قد استعمل هذا الأسلوب في موارد عديدة منها :
أ) قوله تعالى ((وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها)) آل عمران/103
ومعلوم أنهم لم يكونوا في النار .
ب) قوله تعالى ((لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ )) يونس/98 .
والمعلوم أنه ما كان نزل بهم عذاب أصلاً .
جـ) قوله تعالى ((إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )) يوسف/37
ومن الواضح أن يوسف (عليه السلام) لم يكن في تلك الملة أصلاً .
د) قوله تعالى ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُر)) النحل /70
والمعلوم أنهم لم يكونوا في أرذل العمر قبل ذلك أصلاً .
(2) السنة :وفي السنة الشريفة تكرر مثل هذا الاستعمال كثيراً ومنه :
1 - روي {{ أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سمع إنساناً قال : أشهد أن
لا إله إلا الله فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): على الفطرة ، فلمـا قال
(الإنسان): أشهد أن محمداً رسول الله ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) :
خرج من النار}} .
ومعلوم أن ذلك الإنسان لم يكن في النار أصلاً.
2 - روي {{ ان النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قال للصحابة:
(تتهافتون في النار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم) ، ولا يخفى أنهم
ما كانوا متهافتين في النار .
(3) العرف : وردت استعمالات كثيرة في العرف من هذا القبيل ولا يخفى أن
القرآن نزل بلغة يمكن أن يفهمها العرف السائد ، ومن الاستعمالات العرفية
(مثلاً) أن الأب إذا أنفق أمواله ، فإن الابن يقول له (قد أخرجتني من
مالك) أو يقول له (قد حرمتني من الميراث) وهذا يعني لم تجعل لي فيه شيئاً
، لا أنه كان لي منه فأخرجته مني .
(4) العقل : أن الإنسان وإن لم يكن في النار ظاهراً ولم يكن كافراً أصلاً
إلا أن نفسه في أول الفطرة ، خالية عن الكمالات العلمية والعملية ناقصة في
معنى الإنسانية ، فهو مشارك للحيوانات في الأغراض الشهوية الغضبية ، بل
أنزل رتبة وأضل سبيلاً في الدواعي النفسانية والميل إلى الدنيا والإخلاد
إلى الأرض ، فإن بقي على هذه الحالة التي هي بعينها سبب دخـول الجحيم وغضب
الجبار ، فكان على شفير جهنم ، أو هي عينها دخول الجحيم وغضب الجبار (على
قول) وإذا تنورت ذاته بالإيمان اليقيني والمعارف الإيمانية والعمل
بمقتضاها ، فقد حصل له ما هو سبب دخول الجنان ومجاورة الرحمن ، (وعلى قول)
حصل له ما هو عينه دخول الجنان ومجاورة الرحمن .
فالعبد لو خلي ساعة من توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات مما توجبه
الشهوات ، فصار إمداد لطف الله تعالى وإفاضة نوره آناً فآناً سببا لدفع
تلك الظلمات عنه .
مع ملاحظة المشابهة بين الدفع والرفع وملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإنه يمكن
استعمال الإخراج والإبعاد أو العدول في معنى الرفع والدفع مع ملاحظة
المشابهة ، أي يمكن استعمال الإخراج ويراد به معنى العدول أو الإبعاد وفي
المقام الإبعاد عن الجنة أو الإبعاد عن النار .
خامساً : فيما يخص إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور فأن تفسيره على
أحد الاطروحات السابقة وفي هذا المقام يقال أن من تطبيقات النور بل أوضح
وأشرف وأفضل تطبيقاته هو ولاية آل بيت محمد المعصومين (صلوات الله عليهم
أجمعين) .
أما ما يخص الكافرين وإخراجهم من النور إلى الظلمات فالآية تشير إلى قومٍ
مسلمين كانوا على نور الإسلام ، فلما تَوَلّوا كل إمام جائر طاغوت خرجوا
بولايتهم للطواغيت من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر فأوجب الله (القاهر)
لهم النار مع الكافرين والمنافقين . ولا يخفى على جميع المسلمين ما ورد عن
النبي الكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) معنى أنه من لم يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية أو مات يهودياً أو نصرانياً ، فكيف حال من يعرف إمام زمانه
ويعدل عنه إلى الجائرين والطواغيت .
والحمد لله رب العالمين