شخصية الرسول السياسية
المقدمة
نريد بالسياسة هنا: تدبير شؤون الدولة بحكمة وذكاء وحنكة.
وفي ضوء هذا المفهوم للسياسة يظهرُ لنا أن السياسة لا يتعلَّمها المرءُ في
كتاب أو في مدرسة بقدر ما تنضحُ بها فطرته، وإن كنّا لا ننكرُ دورَ العلم
في صقل الفطرة والتسامي بها.
ورسول الله (ص) قد وهبه الله تعالى من الذكاء الفطري، والحكمة الفيّاضة،
وبُعد النظر، وحسن التصرُّف في الأمور ما يقصرُ عنه كل وصف، وإن تصفح
سيرته الشريفة يُظهر لنا هذا بكل وضوح.
1_ سياسته في بناء الدولة:
أ_ دولة عقدية: الدولة المثلى هي الدولة التي لا تقتصرُ أهدافُها على
توفير الرفاهية الماديّة لشعبها، بل التي تجعلُ في طليعة أهدافها بناءَ
شعبها بناءً فكرياً سليماً، لأنه بالفكر السليم تبنى الحضارات، وترقى
العلوم، وتُحلّ جميع المشكلات، وتتقدم الأمم.
والعقيدة هي المنطلق الأساسي لكلّ فكر، فإذا ما سلِمت العقائد، وأتت
موافقة لأصول التفكير السليم أمكن بعدها بناءُ الفكر بناءً سليماً، أما
إذا فسدت العقائدُ وأتت مناقضة لأصول التفكير السليم، أصبح الفكرُ بعدها
مسرحاً للخُرافة، تجد لها فيه موطناً، وإذا سادت الخُرافة _ونعني بها:
اعتقاد ما لا يقبَلُه العقل _ تخلَّفت العلومُ وتدنَّت الأمم.
ولذلك عمل رسول الله (ص) على بناء دولةٍ عقدية، تتبنى عقيدة بنّاءة، وتعمل
_بغير إكراه _ على أن يكون شعبها مؤمناً بعقيدتها، وعلى أن تؤمن الشعوبُ
في الدول الأخرى بهذه العقيدة، لأن هذه الشعوب رغم وجودها تحت سيطرة دولٍ
أخرى _كافرة _ فإن ولاءها سيكون لدولة الرسول التي يحملون عقيدتها،
وستنحاز لدولة الرسول إذا ما نشبت الخصومةُ بين دُولهم ودولة الرسول (ص)،
وهذا ما فعله المستضعفون الذين كانوا يحملون عقيدة التوحيد ويقيمون في مكة
تحت حكم المشركين من قريش.
ب_ قيام الدولة على قواعد شعبية مؤمنة: إن أية دولةٍ لا تقوم على قاعدةٍ
شعبيةٍ واسعة تؤمن بها، وتُنفذُ بكلّ إخلاصٍ نُظُمها، وتدافع بكل تفانٍ
عنها، هي دولة لا تملك مقوّمات وجودها، ولا تسير في الطريق الذي يُحقّقُ
لها وجودها، وهي دولة لا تلبث أن تنهار عند أول صدمةٍ وإن بدت لنا من
الخارج قويةً متماسكة، وتُعتبر بدايةُ النهاية للدولة انقلابُ شعبها إلى
مجموعةٍ من المنافقين للدولة، يظهرون الإيمان بها، ويبطنونَ الكفر بها، أو
مجموعةٍ من المقهورين لا يملكونَ في قلوبهم ذرةَ ولاءٍ للدولة.
ولذلك رفض رسول الله أن يقيمَ دولته العقديّة على قواعد شعبية غير مؤمنة
بها عندما قدم إليه عتبةُ بن ربيعة، يفاوضه ويعرضُ عليه ما غلب على ظنه أن
محمداً يطمح إليه، عرض عليه المال والسيادة والملك، فقال له: "يا محمد إن
كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر _الإسلام _ مالاً، جمعنا لك من أموالنا
حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريدُ به شرفاً سوَّدناك علينا حتى لا
نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريدُ به مُلكاً ملَّكناك علينا".
ولذلك راح رسول الله (ص) يُعدُّ القواعد الشعبية المؤمنة قبل إقامة
الدولة، حتى إذا ما قامت هذه الدولةُ أخذت هذه القاعدة الشعبيّة المؤمنةُ
تدير أجهزة الدولة بكفاءةٍ وإخلاصٍ، وتدافع عنها بفدائيةٍ لا نظير لها.
ج_ مكان إقامة الدولة: لما جعل الرسولُ يبحث عن المكان الذي يقيم فيه
الدولة الإسلامية، أخذ يبحث عن مكان ذي مواصفات معيّنة، لا أيّ مكان. ومن
هذه المواصفات:
1) وجود الموارد الطبيعية التي تؤمِّنُ الكفاية الذاتية والرخاء الاقتصادي.
2) اتصافُ أهلا بالفروسية والنجدةِ، والخبرة بالحرب وتأهلهم لها.
3) الموقع الاستراتيجي.
والمكانان اللذان توجهت أنظارُ رسولِ الله إليهما لإقامةِ دولةِ الإسلام
فيهما _وهما: الطائف والمدينة المنورة _ تتوفر فيهما هذه الصفات الثلاثة.
2_ سياسته الداخلية:
يمكننا أن نلخّص سياسة الرسول الداخلية بما يلي:
أ_ سيادة الدّولة على أراضيها: لقد أعلن رسولُ الله سيادةَ الدولة
الإسلامية على أراضيها يوم أمرَ بلالاً يؤذِّن بما رآه عبدُ الله بن زيد
بن ثعلبة في نومهِ من ألفاظ الأذان، وإني مع إقراري وإيماني بأنّ الأذان
دعوةٌ للصلاة، إلاّ أني أسمعُ بأذني داخلي صوت عقلي يقول: إن للأذان معنى
آخر ومهمة أخرى غير مهمة الدعوة للصلاة، إنه إعلانٌ رسميّ صادر عن مقر
الدولة الرسمي _المسجد _ بقيام دولة الله في الأرض، وإعلان سيادتها عليها
بقيادة محمد (ص)، بعد أن تجاوزت كل العقبات التي وضعها العتاةُ الظلمة في
طريقها، وفاق تدبير الله كلّ تدبير، وفاقت قوته كل قوّة.
تأمّل إن شئت أول كلمات الأذان "الله أكبر... الله أكبر" إنها تعني أن
الله تعالى أكبر من أولئك الطغاة، وأكبرُ من صانعي العقبات، وهو الغالب
على أمره... "أشهد أن لا إله إلاّ الله" أي لا سيادة في دولة الإسلام لغير
الله، ولا حكم إلا له (إن الحُكْمُ إلاّ لله).
وأعلن رسول الله هذه السيادة حين منع أن يُتحاكمَ في أرض الإسلام لأي نظام
عام غير النظام العام للدولة الإسلامية، وقد نصت المعاهدة التي عقدها
الرسول (ص) مع اليهود على هذا، حيث جاء فيها: "... وإنه ما كانَ بينَ أهلِ
هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجار يُخافُ فسادُه فإن مردَّه إلى الله عزّ
وجلّ وإلى محمدٍ رسول الله (ص)، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة
وأبَرّه".
ب_ جمع ما أمكن من الكفاءات المخلصة في الدولة: تعيشُ الدولة وتنمو وترقى
بالكفاءات المخلصة فيها، وكلما كثرت هذه الكفاءات كلما ازدادت الدولة
رقيّاً، فإذا فرّت هذه الكفاءاتُ منها أو ندرت لسبب من الأسباب أخذت
الدولةُ بالتقهقر والتخلُّف.
ولذلك كان رسولُ الله حريصاً على استقدام كلّ الكفاءات المخلصة لتساهمَ في
بناء دولة الإسلام ورُقيّها وازدهارها، فجعل اللهُ تعالى هجرة المؤمنين
إلى المدينة المنورة _مقرّ الدولة الإسلامية _ فرضاً بقوله تعالى في سورة
النساء/97: (إن الذينَ توفّاهمُ الملائكةُ ظالمي أنفُسُهم، قالوا فيمَ
كنتم؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكنْ أرضُ الله واسعةً
فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنّمُ وساءت مصيراً).
ج_ امتصاصُ الحقد: رئيسُ الدولة العبقري هو الذي يعرفُ كيف يمتصُّ حقد
الحاقدين من شعبه، ويقتلعه من قلوبهم، ويُحلُّ مكانه الحبّ والاحترام،
وهذا ما دأب عليه رسول الله (ص).
انظر إلى تصرفه مع أبي سفيان قائد حرب قريش الذي ملأ الحقدُ قلبه على
محمد، لأنه تصوّر أن محمداً سيسلبُهُ الشرف الذي هو فيه. لقد امتصّ رسولُ
الله بتصرفه الحكيم هذا الحقدَ من قلبه، وأكّد له أن الإسلام لا يزيد
العزيز إلاّ عزاً، وذلك عندما أعلن يوم فتح مكة: أن من دَخَلَ دار أبي
سفيان فهو آمن.
وانظر إلى تصرفه مع أهل مكة حين جُمعوا له بعد فتحها، فخطبهم وأعلن عليهم
مبادىء المساواة التي جاء بها الإسلام، وأنه لا غالب أكرم من مغلوبٍ لأنه
غَلَب... ثم منحهم حريتهم حيث قال عليه الصلاة والسلام: "يا معشر قُريش إن
الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناسُ لآدم، وآدمُ
من تراب (يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُمُ شعوباً
وقبائل لتعارفوا، إنَّ أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم).
يا معشر قريش ما ترون أني فاعلٌ بكم؟
قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.
قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء".
وانظر إليه حين جمعَ من تمكنت في قلوبهم أحقادُ الجاهلية ولم يصفُ فيها
الإيمان بعدُ في الجعرَّانة وأخذ يُغدق عليهم من الأموال ما انتزعَ آخرَ
قطرةٍ من حقدٍ على الدولة الإسلامية في قلوبهم.
د_ تطييب القلوب: قد يضطر رئيسُ الدولة أن يتصرفَ تصرفاً يخرج فيه عن
المألوف، أو يخالف به سنن القياس لمصلحة عليا يراها، حتى يُظن أنه منعَ
الخيرَ عمن يظن بأن له حقاً في هذا الخير، وفي هذه الحالة لابد له من بيان
وجه المصلحة في تصرفه هذا لمن تضرّروا من هذا التصرف، ولابد من تطييب
قلوبهم، لأن كسب القلوب هو أثمن ما يحصلُ عليه رئيس الدولة، وقد كان رسولُ
الله يفعلُ هذا ويحرص عليه، فإنه عليه الصلاة والسلام ما أن يلاحظ
تذمُّراً أو عدم رضىً من شعبه لموقف من المواقف أو تصرف من التصرفات حتى
يسرع لبيانه وتطييب قلوب الشعب.
انظر تصرفه يوم دخل سعد بن عبادة _في الجعرانة _ على رسول الله فقال: يا
رسول الله إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في
هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك _ يريد أهل مكة_ وأعطيت عطايا عظاماً
في قبائل العرب، ولم يكُ في هذا الحيّ من الأنصار منها شيئاً، قال: فأين
أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلاّ من قومي، قال: فاجمع
لي قومك في هذه الحظيرة...
فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
"يا معشر الأنصار، ما قالةً بلغتني عنكم، وجدةً وجدتموها عليّ في أنفسكم،
ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألّف
بين قلوبكم؟.
قالوا: بلى يا رسول الله، واللهُ ورسولُه أمنّ وأفضل.
قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبُك يا رسول الله، للهِ ولرسوله المنُّ والفضلُ.
قال: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتُم ولصدّقتم: أتيناك مكذّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً
ليُسلموا، ووكلتُكُم إلى إسلامكم؟ ألا ترضونَ يا معشر الأنصار أن يذهبَ
الناسُ بالشاةِ والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسُ
محمدٍ بيده لولا الهجرةُ لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك النّاس شعباً
وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ
الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار".
وسمع الأنصارُ ما قال رسولُ الله، ورسموا -بسرعة البرق _ صورةً ذهنيةً لما
قاله رسول الله "قومٌ يُشرون بالإيمان، يقابلُهم قومٌ يشرون بالجمال" و
"قوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاةُ والبعير" وتوقظهم
الصورةُ من إغماءةٍ فكرية كانوا فيها، ورسول الله ماثلٌ أمامهم، ويدركون
أنهم وقعوا في خطأٍ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فتنطلق حناجرهم بالبكاء
ومآقيهم بالدموع ويصيحون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً.
فهل رأيت سياسياً في الدنيا رقي في سياسته الشعوب المرقى الذي رقاهُ رسولُ الله (ص).
ه_ الاستقرار الداخلي: كلّ دولةٍ لا يتهيأ لها الأمنُ والاستقرارُ
الداخلي تبقى في اضطراب دائم يمنعها من بناء ذاتها، ويُضعفها عن الوقوف في
وجه عدوّها. ولذلك كان رسول الله صلوات الله عليه حريصاً على هذا
الاستقرار الداخلي في دولة الإسلام، وقد توجّه رسولُ الله إلى إيجاد هذا
الاستقرار في المدينة المنورة بعد أن وطئتها قدماه، فعقد فيها معاهدةً مع
اليهود تضمنُ هذا الاستقرارَ، لأن اليهود يمكن أن يكونوا مصدر إزعاجٍ
للدولة، وقد جاء في هذه المعاهدة: "أن اليهود أمةٌ مع المؤمنين، لليهود
دينُهم، وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم، فإنه لا
يوتغ _أي: يهلك _ إلاّ نفسه وأهل بيته... الخ".
وكان رسول الله لا يرى حرجاً في تقديم بعض التنازلات السياسية غير العقدية
في سبيل إيجاد الاستقرار في الدولة، ونجد هذا في موقفه المتكرر مع رأس
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول.
فقد كان ابن سلول ذا مكانة مرموقةٍ في المدينة المنورة، فقد قدم رسول الله
المدينة وإن قومه لينظموا له الخرز ليتوّجوه عليهم عليهم، وكان له فيها
أتباع عدا هؤلاء، يضمّون جميع الحاقدين والمتآمرين والسّفلة، فكانوا
يأتمرون بأمره، وكانوا كثر، حتى أنه هب في يوم من الأيام لحمايته سبعمائة
مسلَّح منهم، ورجع يوم أحد بثلث الناس، فهو إذن ليس بالهيّن، ولذلك رأى
رسول الله (ص) أن لا يهيج ابن سلول، لأن في إهاجته إهاجةً للقلاقل، وعصفاً
بالاستقرار الداخلي في الدولة، فقد استجاب عليه الصلاة والسلام لرغبته يوم
بني قينقاع، وذلك انه عندما نزل بنو قينقاع على حكم رسول الله (ص)، قام
ابنُ سلول إلى النبيّ(ص) فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، واساء الأدب مع
رسول الله، وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظللاً، واستجاب لمطلبه، فخلى
سبيل بني قينقاع، وأجلاهم عن المدينة المنورة.
ولما مكّن الله رسوله عليه الصلاة والسلام من بني النضير، ساندهم ابن سلول
وجماعته، فعفا رسول الله عنهم وأجلاهم عن المدينة المنورة إيثاراً
للعافية، وحفاظاً على الاستقرار الداخلي في الدولة.
وبعد أن فرغ رسولُ الله من عدوّه في غزوة بني المصطلق تزاحم رجلان أحدهما
من الأنصار والآخر من المهاجرين على الماء، فاستغل ذلك ابنُ سلول وأوقد
ناراً للفتنة بين المهاجرين والأنصار فقال _وهو جالس في قومه _
أوَفَعَلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا _يريد المهاجرين _ والله ما
نحن وجلابيبُ قريشإلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكُلك، أما والله لئن
رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ... ثم أقبل على من حضره
من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم
أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غيرِ داركم.
وأخمد رسول الله نيران هذه الفتنة التي كادت أن تقسم الناس إلى كتلتين
متحاربتين، أخمدها بعبقرية نادرة، وذكاءٍ منقطع النظير، حيث أمرَ الناس
بالمسير، فمشى بهم يومهم ذلك حتى امسى، وتابع المشي بالليل حتى أصبح،
وتابع المشي في اليوم الثاني حتى الضحوة الكبرى، دون أن يمكنهم من
الاستراحة، فنسي الناسُ الفتنة، واشتغلوا بأنفسهم، ولم يعد لهم حديث إلاّ
التّعب.
قد يقول البعض: إن الحفاظ على الاستقرار الداخلي بهذا الأسلوب ضعفٌ في
الدولة، وكان على رسول الله أن يقطع رأس الأفعى، لا أن يملّس جلدها، ولكن
سياسة رسول الله مختلفة، ونظرته إلى الأمور أبعد، إنه ينظر إلى أن قطع رأس
الأفعى التي لها فراخ يولّد الكرهَ له في فراخها، وهو عليه الصلاة والسلام
يريد أن يسوسَ شعب دولته بالحب لا بالسيف، فحيثما أمكن نثر بذور الحب
امتنع استعمال السيف، وهذا ما جعل شعب دولة الإسلام متفانياً في الدفاع عن
رسول الله(ص) وعن دولته.
3_ سياسته الاقتصادية:
أ_ استنباط الثروات الطبيعية: الثروة الحقيقة هي الثروة التي تشكل زيادة
في الدخل العام للدولة، واستنباطُ المعادن من جوف الأرض، واستنبات الزّرع
بأنواعه في الأرض من هذه الثروة الحقيقية، ولذلك تبنّى رسولُ الله (ص)
سياسة التشجيع على الزراعة عندما قال: "ما من مُسلم يغرسُ غرساً أو يزرعُ
زرعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاّ كان له به صدقة".
ولما أراد رسول الله أن يُجلي يهود خيبر عن أرضهم قالوا له: دعنا نكون في
هذه الأرض نُصلحُها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم _ولم يكن لرسول الله
(ص) ولا لأصحابه غلمانٌ يكفونهم مؤنتها _ فدفعها إليهم، على أنّ لرسول
الله الشطر من كل شيء يخرج منها من ثمر أو زرع، ولهم الشطر، وعلى أن يقرهم
فيها ما شاء.
فنحن نرى ان رسول الله ما ترك أهل خيبر في أرضهم إلا لحرصه على تنشيط الزراعة واستغلال الأراضي الزراعية أحسن استغلال.
وليس هذا فحسب، بل عمل رسول الله على أن لا يبقي في دولة الإسلام أرضاً
ميتة غير مستغلة فقال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" وقال: "من أحيا أرضاً
قد عجزَ صاحبُها عنها وتركها بمهلكة فهي له".
ب_ عدم امتلاك ما تعلق به نفعٌ عام: المعروف أنّ رسول الله (ص) أقرَّ
الملكية الفردية بشروطها المعروفة، ولكنه لم يُبح امتلاك عينٍ تعلقت بها
منفعة عامة للمسلمين، كالمساجد والطرقات والمراعي والممالح ونحو ذلك، فقد
وفد أبيضُ بن حمّال إلى رسول الله فاستقطعه الملح الذي بمأرب، فقطعه له،
فلما أن ولّى قال رجلٌ من المجلس: أتدري ما قطعت له يا رسول الله؟ إنما
قطعت له الماءَ العِدَّ، قال: فانتزعه منه، لأن الملحَ مما يتعلق به نفعٌ
عام، ولا يستغني عنه أحدٌ وهو من صنع الله لا دخل لحد في صنعه.
وسأل ابيضُ بن حمال رسول الله أني يعطيه شجر الأراكِ في البراري، فأعطاه
ما بَعُدَ عن العمارة منه فلا تبلغه الإبلُ السّارحةُ إذا أرسلت في
المرعى، لأن القريب منه يتعلق به نفع عام، حيث يحتاجه الناس لتنظيف
أسنانهم.
وطلب حُريث بن حسان _وافدُ بني بكر بن وائل _ حين وفد على رسول الله أن
يخصص لبني بكر أرضاً لا يدخلها من بني تميم إلا مسافر أو مجاور، فقال رسول
الله: اكتب له يا غلام بالدهناء، فقالت لرسول الله امرأة: يا رسول الله،
إنه لم يسألك السّوية إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مُقيّد الجملِ ومرعى
الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال رسول الله: "أمسك يا غلام،
صدقتِ المسكينة، المسلمُ أخو المُسلمِ يسعهما الماءُ والشجر، ويتعاونان
على الفتان" _أي الشيطان _.
ج_ التوجيه نحو العمل: نظراً لانتشار الرقيق وكثرته في عصر رسول الله(ص)
فقد كان كثير من الأحرار يأنفون من مزاولة المهن اليدويّة، بل كانت
تسميتهم العمل اليدوي بالمهنة تعبيراً عن أنَفَتِهم منه.
ولكن رسول الله رأى أنه لا تقومُ دولةٌ ولا يُبنى اقتصادٌ إلا بالعمل
اليدوي الذي يمارسه أهل البلاد، وإن الاعتماد في الاقتصاد على أيدٍ غريبة
يعرّض الاقتصاد إلى هزات عنيفة ليست في مصلحة الدولة أن تتعرض لها، ولذلك
كان رسول الله يوجّه أصحابه المؤمنين نحو العملِ اليدوي ويقول: "من أمسى
كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له".
د_ عدالة الأسعار: وكان رسول الله يعملُ على استقرار الأسعار، ويمنعُ من
التلاعب بها عن طريق التغرير بالبائعين وشراء السلع منهم قبل تعرفهم على
السّعر الحقيقي لها، وقد نهى رسول الله (ص) عن تلقي البُيوع، أو عن طريق
الاحتكار، فقد قال (ص): "من احتكرَ طعاماً أربعين يوماً يريدُ به الغلاء
فقد برىء من الله وبرءَ اللهُ منه".
ه_ إعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً: وقد سلكت إعادة التوزيع هذه طرقاً
متعددة تهدف كلها إلى إتاحة فرصة الحصول على المال للفقراء، ففي السنوات
الأولى من الهجرة كان رسولُ الله يُرسل إلى الغزو من المهاجرين أكثر مما
يرسل من الأنصار، لعلهم يحصلون على شيء من الغنائم يُحسنون به وضعهم
الاقتصادي، بل كان عليه الصلاة والسلام يبعثُ بُعوثاً كلها من المهاجرين
كبعث عبيدة بن الحارث إلى ثنية المرة، وبعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار،
وبعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة العشيرة وغيرها من السرايا والغزوات.
وكانت الزكاة، وزكاة الفطر، وحظ الفقراء من خُمس الفيء، والصدقات،
والكفّارات تساهمُ مساهمةً فعّالة في ردمِ الفجوة الاقتصادية بين فئتين من
الناس هما: الأغنياء والفقراء، ولم يمض زمنٌ طويلٌ حتى رُدمت هذه الفجوة،
وارتفع الفقراء إلى مصاف الأغنياء حتى لم يجدوا في اليمن في زمن عمر بن
الخطاب من يَقبلُ الزكاة.
4_ سياسته الخارجية:
أ_ معرفة خصائص ومزايا الشخصيات القيادية عند العدو: كان رسول الله حريصاً
على معرفة خصائص ومزايا الشخصيات القيادية عند العدو، وكان هذا يساعدهُ
كثيراً في اختيار التصرّف الأمثل تجاه كل شخصية من هذه الشخصيات.
ففي صلح الحديبية قدم على رسول الله موفداً من العدوّ "مُكرِز بن حفص بن الأخيف" فلما رآه رسول الله مقبلاً قال: هذا رجلٌ غادر.
ثم أقبل عليه "الحُليس بن عَلقمة" فلما رآه رسول الله مقبلاً قال: إن هذا من قوم يتألّهون _أي يعظمون الله _ .
ثم أقبل عليه "سهيل بن عمرو" فلما رآه الرسول مقبلاً قال: قد أراد القوم الصُّلح حين بعثوا هذا الرجل...
وإذا عرف خصائص كل شخصية، ساسها بما يناسبها، وبما يدفعُ شرّها عن الدولة،
فهذا الحليس لمّا عرف رسول الله بأنه رجل متدين، أمر عليه الصلاة والسلام
أصحابه بأن يبعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، ولما رأى الحُليس الهدي
_الأنعام المهداة لفقراء الحرم _ يسيلُ عليه من جوانب الوادي في أعناقه
قلائدهُ، رجع إلى قريشٍ ولم يصل إلى رسول الله، إعظاماً لما رأى، وأخبرهم
بالذي رآه، وأخبرهم بأن عليهم ان يخلُّوا بين محمد وبين الكعبة.
ولما قال له زعماء المشركين: اجلس إنما أنت اعرابي لا علمَ لك، غضب وقال:
يا معشر قُريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدُّ
عن بيت الله من جاء مُعظّماً له!! والذي نفس الحليس بيده لتُخلُّن بين
محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
وهكذا استطاع رسول الله بتصرفه الحكيم _حين عرف خصائص الحليس _ أن يشقّ عصا قريش ويوقع الخُلف بينها وبين حلفائها من الأحابيش.
ب_ إقناع العدو بقوة الدولة الإسلامية: إذا استطاعت الدولة أن تُقنع
عدوّها بقوتها، بل بأنها أقوى منه، وأوقعت الرعب منها في قلبه، أمكنها أن
تحسم كثيراً من المواقف قبل الخوض فيها، ومن هنا كان يقول عليه الصلاة
والسلام: "نُصِرْتُ بالرعب" ويعمل جاهداً على إقناع عدوّه بقوته، وقد نجح
رسولُ الله في ذلك ايما نجاح، حتى وصلت هذه القناعة إلى دولة الروم، فإنها
لما جمعت له الجموع في تبوك، سار إليها رسول الله، وما أن وصل رسولُ الله
تبوكاً حتى رأى جموع الروم قد انصرفت عنها، متحاشية الصّدام معه.
وإذا كان الرعب قد دبّ في قلب الروم فما بالك بقلوب قبائل العرب، إن
قلوبها ترتعد فرقاً عندما تسمعُ بقدوم جيش المسلمين، فتفر من وجهه إذا
وجدت فرصة للفرار، وقد أحصينا من المواقف التي فرّ فيها العدو بمجرد
سماعهِ بمقدم جيش المسلمين مايلي:
غزوة السويق _ غزوة بني سُليم وغطفان في قرقرة الكُدر _غزوة غطفان بذي أمر
_ غزوة بني سُليم بالفرع من بحران _ سرية زيد بن حارثة إلى القردة من مياه
نجد _ غزوة حمراء الأسد _ غزوة بدر الأخيرة _ غزوة دومة الجندل _ غزوة بني
لحيان _ غزوة ذي قرد _ سرية عكاشة إلى الغمر _ سرية أبي عبيدة إلى ذي
القصة _ سرية زيد بن حارثة إلى الطرف _ سرية علي بن أبي طالب إلى فدك _
سرية عمر بن الخطاب إلى تربة _ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يُمن وجبار
من أرض غطفان _ سرية عُيينة بن حُصن إلى بني تميم _ سرية علقمة بن محرز
إلى الحبشة الذين نزلوا بجدة.
ولولا نجاح رسول الله في إقناع أعدائه بقوة الدولة الإسلامية لما وصل إلى
هذه النتائج المرضية، ولما وفّر على جيشه كثيراً من المعارك الحربية التي
تكلّف الكثير من المال، ويضحي فيها بكثير من الرجال.
ج_ احتواء العدو: إن سياسة الاحتواء لا يقدر عليها إلا السياسي الماهرُ
الذي أعطاه الله من ضبط النفس ومخالفة الهوى الشيء الكثير، وقد كان رسول
الله (ص) يمارسُ سياسة الاحتواء هذه على أدقّ ما يمكن أن تمارس فيه، وتظهر
لنا هذه السياسة البارعة كأحسن ما تكون في احتواء رسول الله لقائد تجمُّع
المشركين في أوطاس وحنين "مالك بن عوف"، ومالُ "مالِك" وأهله في الغنائم
عند رسول الله، فقال رسول الله لوفد هوازن _قوم مالك _ حين وفدوا عليه: ما
فعل مالك؟ قالوا: هو بالطائف مع ثقيف، فقال رسول الله: أخبروا مالكاً أنه
إن أتاني مُسلماً رددتُ عليه أهله وماله وأعطيته مائةً من الإبل. فأخبر
مالكٌ بذلك، فخرج سراً من الطائف، ووفد على رسول الله علناً إسلامه وولاءه.
د_ السلم والحرب: كان رسول الله (ص) يؤثرُ حلّ مشكلاته مع أعدائه بالطرق
السلمية، ويتحاشى الصدام المسلح وإراقة الدماء ما استطاع، وهذا ما شاهدناه
منه عليه الصلاة والسلام عندما حلّ المدينة المنورة وفيها من اليهود
الحاقدين جماعات غير قليلة، فلم يبدأهم رسول الله بالحرب، بل عقد معهم
معاهدةً سياسية جمّدت عدواتهم إلى حين.
ولكن قد يستحيل حل المشكلات بالطرق السلمية، وتكون الحربُ اللغة الوحيدة
التي يتعين على الخصوم التكلم بها، وفي هذه الحالة كان ينظر رسول الله:
فإن رأى أن بإمكان جيشه بكفاءته الحاضرة انتزاع النصر، لم يتلكّأ رسول
الله في خوض الحرب، ولكنه إن رأى أن المعركة خاسرةً، وانه لا أمل فيها
بالنصر لجأ عليه الصلاة والسلام إلى كسب المعركة بالدّهاء السياسي لا بحد
السلاح، وكثيراً ما يكون الدهاء السياسي لمن رُزِقَه أمضى وأجدى من كل
سلاح.
لقد بلغ رسول الله أن تحالفاً عسكرياً قد عُقد بين قريش في جنوب المدينة
المنورة ويهود خيبر في شمالها، الغاية منه وضع الدولة الإسلامية بين فكّي
الكماشة ثم الإطباق عليها، لإنهاء الوجود الإسلامي في يثرب، لم يكن في
مقدور رسول الله أن يكسر هذا الحلف عسكرياً، لذلك لجأ إلى الدّهاء السياسي
حين خرج مظهراً أنه يريدُ العمرة، وكان مما قاله عليه الصلاة والسلام: "لا
تدعوني قريشٌ إلى خطةٍ يسألونني فيها صلة الرّحم إلا أعطيتهم إياها..." ثم
كان صلحُ الحديبية الذي كسرَ فيه الرسول هذا التحالف.
ويوم الأحزاب تحالفت قوى الشر على رسول الله: قريش، وغطفان وبنو قُريظة.
ولم يكن آنذاك في مقدور رسول الله أن يواجه هؤلاء مجتمعين، لذلك فكّر رسول
الله بكسر هذا التحالف بالدّهاء السياسي، فبعث إلى قائدي غطفان: "عُيينة
بن حصن" و "الحارث بن عوف" وعرض عليهما ثلث ثمار المدينة المنورة إن هما
تركا قريشاً ورجعا بما معهما من الناس، ولكن هذا الاتفاق لم يلبث أن فَشِل
لعدم موافقة زعماء الأنصار عليه، مما جعل رسول الله يفكر بأسلوب سياسي آخر
استغلّ فيه مجيء نُعيم بن مسعود الأشجعي معلناً إسلامه _ونعيم ذو خبرة في
تخذيل المحاربين _ فاتفق معه على مخطط، وأمره بتنفيذه، فخرج نُعيم حتى أتى
بني قريطة _وكان لهم نديماً في الجاهلية _ فقال: يا بني قُريظة، قد عرفُتم
ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم، فقال
لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلدُ بلدُكم فيه أموالكم وأبناؤكم
ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا
لحرب محمدٍ واصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره،
فإن كان النصرُ أخذوا الغنائم، وإن كانت الهزيمة لحقوا بلادهم وخلُّوا
بينكم وبين محمد، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى
تأخذوا منهم رهائن من أشرافهم يكونون بأيديكم حتى يكونوا معهم حتى النهاية.
فقالوا: قد اشرت بالرأي.
ثم خرج من عندهم وأتى قُريشاً فقال لهم: قد عرفتُم ودّي لكم وفراقي
محمداً، وإنه قد بلغني أمرٌ، فرأيتُ حقاً علي أن أبلغكموه، نصحاً لكم،
فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما
صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا،
فهل يُرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضربَ
أعناقهم؟ ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟
الخاتمة:
فأرسل إليهم: أن نعم، وأنا أنصحُكم يا معشر قريش انه إن بعث إليكم يهود
يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج من عند قريش وأتى غطفان فقال لها مثل ما قالَ لقريش.
ولما أرسلت قريشٌ لبني قريظة موعد البدء بالقتال، أجابهم زعماءُ لبني
قريظة: لن نقاتل معكم حتى تُعطونا رهناً من رجالكم يكونوا بأيدينا ثقةً
لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحربُ أو اشتد عليكم القتال
أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا، ومحمد في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.
فأبوا أن يُعطوهم، وخذَّل الله بينهم.
ه_ المعاهدات المؤقتة: من شأن كل دولةٍ عقديّة أن تكون معاهداتها كلها
مؤقتة وليست بدائمة، لأنها لا تقرُّ بالحاكميّة لغير الله تعالى، ولذلك
رأينا رسول الله يلغي بأمر من الله جميع المعاهدات الدائمة بينه وبين
المشركين، ويعطي أصحابها مهلةً قدرها أربعة أشهر، وعليهم أن يُعلنوا بعدها
ولاءهم للدولة الإسلامية، وإلاّ فإن الدولة تكون في حلٍ من قتالهم، حيث
قال تعالى في أول سورة براءة: (براءةٌ من الله ورسولهِ إلى الذينَ عاهدتُم
من المشركين* فسيحوا في الأرضِ أربعةَ أشهرٍ، واعلموا أنكُم غيرُ معجزي
اللهِ وأن اللهَ مُخزي الكافرين).
و_ التبادل الدبلوماسي: كان رسولُ الله يقرُّ التبادل الدبلوماسي بين
الدولة الإسلامية والدول الأخرى، وقد استقبل عليه الصلاة والسلام كثيراً
من الرسل والوفود، وكان عليه الصلاة والسلام يُراعي الأعرافَ المرعية في
استقبال الرسل والوفود والحفاظ عليهم وحمايتهم، وقد صح عنه أنه قال لرسولي
مُسيلمة: "أما واللهِ لولا أنّ الرسُلَ لا تُقتل لضربتُ أعناقكما".
وأرسل رسلاً وكتباً إلى ملوك الأرض منها كتابه إلى هرقل، وكتابه إلى كسرى،
وكتابه إلى النّجاشي، وكتابه إلى المقوقِس في الإسكندرية، وكتابه إلى
المنذر بن ساوى، وكتابه إلى جيفر وعبدٍ ابني الجلندي ملكي عُمان، وكتابه
إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني.
المقدمة
نريد بالسياسة هنا: تدبير شؤون الدولة بحكمة وذكاء وحنكة.
وفي ضوء هذا المفهوم للسياسة يظهرُ لنا أن السياسة لا يتعلَّمها المرءُ في
كتاب أو في مدرسة بقدر ما تنضحُ بها فطرته، وإن كنّا لا ننكرُ دورَ العلم
في صقل الفطرة والتسامي بها.
ورسول الله (ص) قد وهبه الله تعالى من الذكاء الفطري، والحكمة الفيّاضة،
وبُعد النظر، وحسن التصرُّف في الأمور ما يقصرُ عنه كل وصف، وإن تصفح
سيرته الشريفة يُظهر لنا هذا بكل وضوح.
1_ سياسته في بناء الدولة:
أ_ دولة عقدية: الدولة المثلى هي الدولة التي لا تقتصرُ أهدافُها على
توفير الرفاهية الماديّة لشعبها، بل التي تجعلُ في طليعة أهدافها بناءَ
شعبها بناءً فكرياً سليماً، لأنه بالفكر السليم تبنى الحضارات، وترقى
العلوم، وتُحلّ جميع المشكلات، وتتقدم الأمم.
والعقيدة هي المنطلق الأساسي لكلّ فكر، فإذا ما سلِمت العقائد، وأتت
موافقة لأصول التفكير السليم أمكن بعدها بناءُ الفكر بناءً سليماً، أما
إذا فسدت العقائدُ وأتت مناقضة لأصول التفكير السليم، أصبح الفكرُ بعدها
مسرحاً للخُرافة، تجد لها فيه موطناً، وإذا سادت الخُرافة _ونعني بها:
اعتقاد ما لا يقبَلُه العقل _ تخلَّفت العلومُ وتدنَّت الأمم.
ولذلك عمل رسول الله (ص) على بناء دولةٍ عقدية، تتبنى عقيدة بنّاءة، وتعمل
_بغير إكراه _ على أن يكون شعبها مؤمناً بعقيدتها، وعلى أن تؤمن الشعوبُ
في الدول الأخرى بهذه العقيدة، لأن هذه الشعوب رغم وجودها تحت سيطرة دولٍ
أخرى _كافرة _ فإن ولاءها سيكون لدولة الرسول التي يحملون عقيدتها،
وستنحاز لدولة الرسول إذا ما نشبت الخصومةُ بين دُولهم ودولة الرسول (ص)،
وهذا ما فعله المستضعفون الذين كانوا يحملون عقيدة التوحيد ويقيمون في مكة
تحت حكم المشركين من قريش.
ب_ قيام الدولة على قواعد شعبية مؤمنة: إن أية دولةٍ لا تقوم على قاعدةٍ
شعبيةٍ واسعة تؤمن بها، وتُنفذُ بكلّ إخلاصٍ نُظُمها، وتدافع بكل تفانٍ
عنها، هي دولة لا تملك مقوّمات وجودها، ولا تسير في الطريق الذي يُحقّقُ
لها وجودها، وهي دولة لا تلبث أن تنهار عند أول صدمةٍ وإن بدت لنا من
الخارج قويةً متماسكة، وتُعتبر بدايةُ النهاية للدولة انقلابُ شعبها إلى
مجموعةٍ من المنافقين للدولة، يظهرون الإيمان بها، ويبطنونَ الكفر بها، أو
مجموعةٍ من المقهورين لا يملكونَ في قلوبهم ذرةَ ولاءٍ للدولة.
ولذلك رفض رسول الله أن يقيمَ دولته العقديّة على قواعد شعبية غير مؤمنة
بها عندما قدم إليه عتبةُ بن ربيعة، يفاوضه ويعرضُ عليه ما غلب على ظنه أن
محمداً يطمح إليه، عرض عليه المال والسيادة والملك، فقال له: "يا محمد إن
كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر _الإسلام _ مالاً، جمعنا لك من أموالنا
حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريدُ به شرفاً سوَّدناك علينا حتى لا
نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريدُ به مُلكاً ملَّكناك علينا".
ولذلك راح رسول الله (ص) يُعدُّ القواعد الشعبية المؤمنة قبل إقامة
الدولة، حتى إذا ما قامت هذه الدولةُ أخذت هذه القاعدة الشعبيّة المؤمنةُ
تدير أجهزة الدولة بكفاءةٍ وإخلاصٍ، وتدافع عنها بفدائيةٍ لا نظير لها.
ج_ مكان إقامة الدولة: لما جعل الرسولُ يبحث عن المكان الذي يقيم فيه
الدولة الإسلامية، أخذ يبحث عن مكان ذي مواصفات معيّنة، لا أيّ مكان. ومن
هذه المواصفات:
1) وجود الموارد الطبيعية التي تؤمِّنُ الكفاية الذاتية والرخاء الاقتصادي.
2) اتصافُ أهلا بالفروسية والنجدةِ، والخبرة بالحرب وتأهلهم لها.
3) الموقع الاستراتيجي.
والمكانان اللذان توجهت أنظارُ رسولِ الله إليهما لإقامةِ دولةِ الإسلام
فيهما _وهما: الطائف والمدينة المنورة _ تتوفر فيهما هذه الصفات الثلاثة.
2_ سياسته الداخلية:
يمكننا أن نلخّص سياسة الرسول الداخلية بما يلي:
أ_ سيادة الدّولة على أراضيها: لقد أعلن رسولُ الله سيادةَ الدولة
الإسلامية على أراضيها يوم أمرَ بلالاً يؤذِّن بما رآه عبدُ الله بن زيد
بن ثعلبة في نومهِ من ألفاظ الأذان، وإني مع إقراري وإيماني بأنّ الأذان
دعوةٌ للصلاة، إلاّ أني أسمعُ بأذني داخلي صوت عقلي يقول: إن للأذان معنى
آخر ومهمة أخرى غير مهمة الدعوة للصلاة، إنه إعلانٌ رسميّ صادر عن مقر
الدولة الرسمي _المسجد _ بقيام دولة الله في الأرض، وإعلان سيادتها عليها
بقيادة محمد (ص)، بعد أن تجاوزت كل العقبات التي وضعها العتاةُ الظلمة في
طريقها، وفاق تدبير الله كلّ تدبير، وفاقت قوته كل قوّة.
تأمّل إن شئت أول كلمات الأذان "الله أكبر... الله أكبر" إنها تعني أن
الله تعالى أكبر من أولئك الطغاة، وأكبرُ من صانعي العقبات، وهو الغالب
على أمره... "أشهد أن لا إله إلاّ الله" أي لا سيادة في دولة الإسلام لغير
الله، ولا حكم إلا له (إن الحُكْمُ إلاّ لله).
وأعلن رسول الله هذه السيادة حين منع أن يُتحاكمَ في أرض الإسلام لأي نظام
عام غير النظام العام للدولة الإسلامية، وقد نصت المعاهدة التي عقدها
الرسول (ص) مع اليهود على هذا، حيث جاء فيها: "... وإنه ما كانَ بينَ أهلِ
هذه الصحيفة من حدثٍ أو اشتجار يُخافُ فسادُه فإن مردَّه إلى الله عزّ
وجلّ وإلى محمدٍ رسول الله (ص)، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة
وأبَرّه".
ب_ جمع ما أمكن من الكفاءات المخلصة في الدولة: تعيشُ الدولة وتنمو وترقى
بالكفاءات المخلصة فيها، وكلما كثرت هذه الكفاءات كلما ازدادت الدولة
رقيّاً، فإذا فرّت هذه الكفاءاتُ منها أو ندرت لسبب من الأسباب أخذت
الدولةُ بالتقهقر والتخلُّف.
ولذلك كان رسولُ الله حريصاً على استقدام كلّ الكفاءات المخلصة لتساهمَ في
بناء دولة الإسلام ورُقيّها وازدهارها، فجعل اللهُ تعالى هجرة المؤمنين
إلى المدينة المنورة _مقرّ الدولة الإسلامية _ فرضاً بقوله تعالى في سورة
النساء/97: (إن الذينَ توفّاهمُ الملائكةُ ظالمي أنفُسُهم، قالوا فيمَ
كنتم؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكنْ أرضُ الله واسعةً
فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنّمُ وساءت مصيراً).
ج_ امتصاصُ الحقد: رئيسُ الدولة العبقري هو الذي يعرفُ كيف يمتصُّ حقد
الحاقدين من شعبه، ويقتلعه من قلوبهم، ويُحلُّ مكانه الحبّ والاحترام،
وهذا ما دأب عليه رسول الله (ص).
انظر إلى تصرفه مع أبي سفيان قائد حرب قريش الذي ملأ الحقدُ قلبه على
محمد، لأنه تصوّر أن محمداً سيسلبُهُ الشرف الذي هو فيه. لقد امتصّ رسولُ
الله بتصرفه الحكيم هذا الحقدَ من قلبه، وأكّد له أن الإسلام لا يزيد
العزيز إلاّ عزاً، وذلك عندما أعلن يوم فتح مكة: أن من دَخَلَ دار أبي
سفيان فهو آمن.
وانظر إلى تصرفه مع أهل مكة حين جُمعوا له بعد فتحها، فخطبهم وأعلن عليهم
مبادىء المساواة التي جاء بها الإسلام، وأنه لا غالب أكرم من مغلوبٍ لأنه
غَلَب... ثم منحهم حريتهم حيث قال عليه الصلاة والسلام: "يا معشر قُريش إن
الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناسُ لآدم، وآدمُ
من تراب (يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُمُ شعوباً
وقبائل لتعارفوا، إنَّ أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم).
يا معشر قريش ما ترون أني فاعلٌ بكم؟
قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.
قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء".
وانظر إليه حين جمعَ من تمكنت في قلوبهم أحقادُ الجاهلية ولم يصفُ فيها
الإيمان بعدُ في الجعرَّانة وأخذ يُغدق عليهم من الأموال ما انتزعَ آخرَ
قطرةٍ من حقدٍ على الدولة الإسلامية في قلوبهم.
د_ تطييب القلوب: قد يضطر رئيسُ الدولة أن يتصرفَ تصرفاً يخرج فيه عن
المألوف، أو يخالف به سنن القياس لمصلحة عليا يراها، حتى يُظن أنه منعَ
الخيرَ عمن يظن بأن له حقاً في هذا الخير، وفي هذه الحالة لابد له من بيان
وجه المصلحة في تصرفه هذا لمن تضرّروا من هذا التصرف، ولابد من تطييب
قلوبهم، لأن كسب القلوب هو أثمن ما يحصلُ عليه رئيس الدولة، وقد كان رسولُ
الله يفعلُ هذا ويحرص عليه، فإنه عليه الصلاة والسلام ما أن يلاحظ
تذمُّراً أو عدم رضىً من شعبه لموقف من المواقف أو تصرف من التصرفات حتى
يسرع لبيانه وتطييب قلوب الشعب.
انظر تصرفه يوم دخل سعد بن عبادة _في الجعرانة _ على رسول الله فقال: يا
رسول الله إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في
هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك _ يريد أهل مكة_ وأعطيت عطايا عظاماً
في قبائل العرب، ولم يكُ في هذا الحيّ من الأنصار منها شيئاً، قال: فأين
أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلاّ من قومي، قال: فاجمع
لي قومك في هذه الحظيرة...
فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
"يا معشر الأنصار، ما قالةً بلغتني عنكم، وجدةً وجدتموها عليّ في أنفسكم،
ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألّف
بين قلوبكم؟.
قالوا: بلى يا رسول الله، واللهُ ورسولُه أمنّ وأفضل.
قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟
قالوا: بماذا نجيبُك يا رسول الله، للهِ ولرسوله المنُّ والفضلُ.
قال: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتُم ولصدّقتم: أتيناك مكذّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك.
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً
ليُسلموا، ووكلتُكُم إلى إسلامكم؟ ألا ترضونَ يا معشر الأنصار أن يذهبَ
الناسُ بالشاةِ والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسُ
محمدٍ بيده لولا الهجرةُ لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك النّاس شعباً
وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ
الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار".
وسمع الأنصارُ ما قال رسولُ الله، ورسموا -بسرعة البرق _ صورةً ذهنيةً لما
قاله رسول الله "قومٌ يُشرون بالإيمان، يقابلُهم قومٌ يشرون بالجمال" و
"قوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاةُ والبعير" وتوقظهم
الصورةُ من إغماءةٍ فكرية كانوا فيها، ورسول الله ماثلٌ أمامهم، ويدركون
أنهم وقعوا في خطأٍ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فتنطلق حناجرهم بالبكاء
ومآقيهم بالدموع ويصيحون: رضينا برسول الله قسماً وحظّاً.
فهل رأيت سياسياً في الدنيا رقي في سياسته الشعوب المرقى الذي رقاهُ رسولُ الله (ص).
ه_ الاستقرار الداخلي: كلّ دولةٍ لا يتهيأ لها الأمنُ والاستقرارُ
الداخلي تبقى في اضطراب دائم يمنعها من بناء ذاتها، ويُضعفها عن الوقوف في
وجه عدوّها. ولذلك كان رسول الله صلوات الله عليه حريصاً على هذا
الاستقرار الداخلي في دولة الإسلام، وقد توجّه رسولُ الله إلى إيجاد هذا
الاستقرار في المدينة المنورة بعد أن وطئتها قدماه، فعقد فيها معاهدةً مع
اليهود تضمنُ هذا الاستقرارَ، لأن اليهود يمكن أن يكونوا مصدر إزعاجٍ
للدولة، وقد جاء في هذه المعاهدة: "أن اليهود أمةٌ مع المؤمنين، لليهود
دينُهم، وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظلم وأثم، فإنه لا
يوتغ _أي: يهلك _ إلاّ نفسه وأهل بيته... الخ".
وكان رسول الله لا يرى حرجاً في تقديم بعض التنازلات السياسية غير العقدية
في سبيل إيجاد الاستقرار في الدولة، ونجد هذا في موقفه المتكرر مع رأس
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول.
فقد كان ابن سلول ذا مكانة مرموقةٍ في المدينة المنورة، فقد قدم رسول الله
المدينة وإن قومه لينظموا له الخرز ليتوّجوه عليهم عليهم، وكان له فيها
أتباع عدا هؤلاء، يضمّون جميع الحاقدين والمتآمرين والسّفلة، فكانوا
يأتمرون بأمره، وكانوا كثر، حتى أنه هب في يوم من الأيام لحمايته سبعمائة
مسلَّح منهم، ورجع يوم أحد بثلث الناس، فهو إذن ليس بالهيّن، ولذلك رأى
رسول الله (ص) أن لا يهيج ابن سلول، لأن في إهاجته إهاجةً للقلاقل، وعصفاً
بالاستقرار الداخلي في الدولة، فقد استجاب عليه الصلاة والسلام لرغبته يوم
بني قينقاع، وذلك انه عندما نزل بنو قينقاع على حكم رسول الله (ص)، قام
ابنُ سلول إلى النبيّ(ص) فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، واساء الأدب مع
رسول الله، وغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظللاً، واستجاب لمطلبه، فخلى
سبيل بني قينقاع، وأجلاهم عن المدينة المنورة.
ولما مكّن الله رسوله عليه الصلاة والسلام من بني النضير، ساندهم ابن سلول
وجماعته، فعفا رسول الله عنهم وأجلاهم عن المدينة المنورة إيثاراً
للعافية، وحفاظاً على الاستقرار الداخلي في الدولة.
وبعد أن فرغ رسولُ الله من عدوّه في غزوة بني المصطلق تزاحم رجلان أحدهما
من الأنصار والآخر من المهاجرين على الماء، فاستغل ذلك ابنُ سلول وأوقد
ناراً للفتنة بين المهاجرين والأنصار فقال _وهو جالس في قومه _
أوَفَعَلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا _يريد المهاجرين _ والله ما
نحن وجلابيبُ قريشإلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكُلك، أما والله لئن
رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ... ثم أقبل على من حضره
من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم
أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غيرِ داركم.
وأخمد رسول الله نيران هذه الفتنة التي كادت أن تقسم الناس إلى كتلتين
متحاربتين، أخمدها بعبقرية نادرة، وذكاءٍ منقطع النظير، حيث أمرَ الناس
بالمسير، فمشى بهم يومهم ذلك حتى امسى، وتابع المشي بالليل حتى أصبح،
وتابع المشي في اليوم الثاني حتى الضحوة الكبرى، دون أن يمكنهم من
الاستراحة، فنسي الناسُ الفتنة، واشتغلوا بأنفسهم، ولم يعد لهم حديث إلاّ
التّعب.
قد يقول البعض: إن الحفاظ على الاستقرار الداخلي بهذا الأسلوب ضعفٌ في
الدولة، وكان على رسول الله أن يقطع رأس الأفعى، لا أن يملّس جلدها، ولكن
سياسة رسول الله مختلفة، ونظرته إلى الأمور أبعد، إنه ينظر إلى أن قطع رأس
الأفعى التي لها فراخ يولّد الكرهَ له في فراخها، وهو عليه الصلاة والسلام
يريد أن يسوسَ شعب دولته بالحب لا بالسيف، فحيثما أمكن نثر بذور الحب
امتنع استعمال السيف، وهذا ما جعل شعب دولة الإسلام متفانياً في الدفاع عن
رسول الله(ص) وعن دولته.
3_ سياسته الاقتصادية:
أ_ استنباط الثروات الطبيعية: الثروة الحقيقة هي الثروة التي تشكل زيادة
في الدخل العام للدولة، واستنباطُ المعادن من جوف الأرض، واستنبات الزّرع
بأنواعه في الأرض من هذه الثروة الحقيقية، ولذلك تبنّى رسولُ الله (ص)
سياسة التشجيع على الزراعة عندما قال: "ما من مُسلم يغرسُ غرساً أو يزرعُ
زرعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاّ كان له به صدقة".
ولما أراد رسول الله أن يُجلي يهود خيبر عن أرضهم قالوا له: دعنا نكون في
هذه الأرض نُصلحُها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم _ولم يكن لرسول الله
(ص) ولا لأصحابه غلمانٌ يكفونهم مؤنتها _ فدفعها إليهم، على أنّ لرسول
الله الشطر من كل شيء يخرج منها من ثمر أو زرع، ولهم الشطر، وعلى أن يقرهم
فيها ما شاء.
فنحن نرى ان رسول الله ما ترك أهل خيبر في أرضهم إلا لحرصه على تنشيط الزراعة واستغلال الأراضي الزراعية أحسن استغلال.
وليس هذا فحسب، بل عمل رسول الله على أن لا يبقي في دولة الإسلام أرضاً
ميتة غير مستغلة فقال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" وقال: "من أحيا أرضاً
قد عجزَ صاحبُها عنها وتركها بمهلكة فهي له".
ب_ عدم امتلاك ما تعلق به نفعٌ عام: المعروف أنّ رسول الله (ص) أقرَّ
الملكية الفردية بشروطها المعروفة، ولكنه لم يُبح امتلاك عينٍ تعلقت بها
منفعة عامة للمسلمين، كالمساجد والطرقات والمراعي والممالح ونحو ذلك، فقد
وفد أبيضُ بن حمّال إلى رسول الله فاستقطعه الملح الذي بمأرب، فقطعه له،
فلما أن ولّى قال رجلٌ من المجلس: أتدري ما قطعت له يا رسول الله؟ إنما
قطعت له الماءَ العِدَّ، قال: فانتزعه منه، لأن الملحَ مما يتعلق به نفعٌ
عام، ولا يستغني عنه أحدٌ وهو من صنع الله لا دخل لحد في صنعه.
وسأل ابيضُ بن حمال رسول الله أني يعطيه شجر الأراكِ في البراري، فأعطاه
ما بَعُدَ عن العمارة منه فلا تبلغه الإبلُ السّارحةُ إذا أرسلت في
المرعى، لأن القريب منه يتعلق به نفع عام، حيث يحتاجه الناس لتنظيف
أسنانهم.
وطلب حُريث بن حسان _وافدُ بني بكر بن وائل _ حين وفد على رسول الله أن
يخصص لبني بكر أرضاً لا يدخلها من بني تميم إلا مسافر أو مجاور، فقال رسول
الله: اكتب له يا غلام بالدهناء، فقالت لرسول الله امرأة: يا رسول الله،
إنه لم يسألك السّوية إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مُقيّد الجملِ ومرعى
الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال رسول الله: "أمسك يا غلام،
صدقتِ المسكينة، المسلمُ أخو المُسلمِ يسعهما الماءُ والشجر، ويتعاونان
على الفتان" _أي الشيطان _.
ج_ التوجيه نحو العمل: نظراً لانتشار الرقيق وكثرته في عصر رسول الله(ص)
فقد كان كثير من الأحرار يأنفون من مزاولة المهن اليدويّة، بل كانت
تسميتهم العمل اليدوي بالمهنة تعبيراً عن أنَفَتِهم منه.
ولكن رسول الله رأى أنه لا تقومُ دولةٌ ولا يُبنى اقتصادٌ إلا بالعمل
اليدوي الذي يمارسه أهل البلاد، وإن الاعتماد في الاقتصاد على أيدٍ غريبة
يعرّض الاقتصاد إلى هزات عنيفة ليست في مصلحة الدولة أن تتعرض لها، ولذلك
كان رسول الله يوجّه أصحابه المؤمنين نحو العملِ اليدوي ويقول: "من أمسى
كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له".
د_ عدالة الأسعار: وكان رسول الله يعملُ على استقرار الأسعار، ويمنعُ من
التلاعب بها عن طريق التغرير بالبائعين وشراء السلع منهم قبل تعرفهم على
السّعر الحقيقي لها، وقد نهى رسول الله (ص) عن تلقي البُيوع، أو عن طريق
الاحتكار، فقد قال (ص): "من احتكرَ طعاماً أربعين يوماً يريدُ به الغلاء
فقد برىء من الله وبرءَ اللهُ منه".
ه_ إعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً: وقد سلكت إعادة التوزيع هذه طرقاً
متعددة تهدف كلها إلى إتاحة فرصة الحصول على المال للفقراء، ففي السنوات
الأولى من الهجرة كان رسولُ الله يُرسل إلى الغزو من المهاجرين أكثر مما
يرسل من الأنصار، لعلهم يحصلون على شيء من الغنائم يُحسنون به وضعهم
الاقتصادي، بل كان عليه الصلاة والسلام يبعثُ بُعوثاً كلها من المهاجرين
كبعث عبيدة بن الحارث إلى ثنية المرة، وبعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار،
وبعث عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة العشيرة وغيرها من السرايا والغزوات.
وكانت الزكاة، وزكاة الفطر، وحظ الفقراء من خُمس الفيء، والصدقات،
والكفّارات تساهمُ مساهمةً فعّالة في ردمِ الفجوة الاقتصادية بين فئتين من
الناس هما: الأغنياء والفقراء، ولم يمض زمنٌ طويلٌ حتى رُدمت هذه الفجوة،
وارتفع الفقراء إلى مصاف الأغنياء حتى لم يجدوا في اليمن في زمن عمر بن
الخطاب من يَقبلُ الزكاة.
4_ سياسته الخارجية:
أ_ معرفة خصائص ومزايا الشخصيات القيادية عند العدو: كان رسول الله حريصاً
على معرفة خصائص ومزايا الشخصيات القيادية عند العدو، وكان هذا يساعدهُ
كثيراً في اختيار التصرّف الأمثل تجاه كل شخصية من هذه الشخصيات.
ففي صلح الحديبية قدم على رسول الله موفداً من العدوّ "مُكرِز بن حفص بن الأخيف" فلما رآه رسول الله مقبلاً قال: هذا رجلٌ غادر.
ثم أقبل عليه "الحُليس بن عَلقمة" فلما رآه رسول الله مقبلاً قال: إن هذا من قوم يتألّهون _أي يعظمون الله _ .
ثم أقبل عليه "سهيل بن عمرو" فلما رآه الرسول مقبلاً قال: قد أراد القوم الصُّلح حين بعثوا هذا الرجل...
وإذا عرف خصائص كل شخصية، ساسها بما يناسبها، وبما يدفعُ شرّها عن الدولة،
فهذا الحليس لمّا عرف رسول الله بأنه رجل متدين، أمر عليه الصلاة والسلام
أصحابه بأن يبعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، ولما رأى الحُليس الهدي
_الأنعام المهداة لفقراء الحرم _ يسيلُ عليه من جوانب الوادي في أعناقه
قلائدهُ، رجع إلى قريشٍ ولم يصل إلى رسول الله، إعظاماً لما رأى، وأخبرهم
بالذي رآه، وأخبرهم بأن عليهم ان يخلُّوا بين محمد وبين الكعبة.
ولما قال له زعماء المشركين: اجلس إنما أنت اعرابي لا علمَ لك، غضب وقال:
يا معشر قُريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدُّ
عن بيت الله من جاء مُعظّماً له!! والذي نفس الحليس بيده لتُخلُّن بين
محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
وهكذا استطاع رسول الله بتصرفه الحكيم _حين عرف خصائص الحليس _ أن يشقّ عصا قريش ويوقع الخُلف بينها وبين حلفائها من الأحابيش.
ب_ إقناع العدو بقوة الدولة الإسلامية: إذا استطاعت الدولة أن تُقنع
عدوّها بقوتها، بل بأنها أقوى منه، وأوقعت الرعب منها في قلبه، أمكنها أن
تحسم كثيراً من المواقف قبل الخوض فيها، ومن هنا كان يقول عليه الصلاة
والسلام: "نُصِرْتُ بالرعب" ويعمل جاهداً على إقناع عدوّه بقوته، وقد نجح
رسولُ الله في ذلك ايما نجاح، حتى وصلت هذه القناعة إلى دولة الروم، فإنها
لما جمعت له الجموع في تبوك، سار إليها رسول الله، وما أن وصل رسولُ الله
تبوكاً حتى رأى جموع الروم قد انصرفت عنها، متحاشية الصّدام معه.
وإذا كان الرعب قد دبّ في قلب الروم فما بالك بقلوب قبائل العرب، إن
قلوبها ترتعد فرقاً عندما تسمعُ بقدوم جيش المسلمين، فتفر من وجهه إذا
وجدت فرصة للفرار، وقد أحصينا من المواقف التي فرّ فيها العدو بمجرد
سماعهِ بمقدم جيش المسلمين مايلي:
غزوة السويق _ غزوة بني سُليم وغطفان في قرقرة الكُدر _غزوة غطفان بذي أمر
_ غزوة بني سُليم بالفرع من بحران _ سرية زيد بن حارثة إلى القردة من مياه
نجد _ غزوة حمراء الأسد _ غزوة بدر الأخيرة _ غزوة دومة الجندل _ غزوة بني
لحيان _ غزوة ذي قرد _ سرية عكاشة إلى الغمر _ سرية أبي عبيدة إلى ذي
القصة _ سرية زيد بن حارثة إلى الطرف _ سرية علي بن أبي طالب إلى فدك _
سرية عمر بن الخطاب إلى تربة _ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يُمن وجبار
من أرض غطفان _ سرية عُيينة بن حُصن إلى بني تميم _ سرية علقمة بن محرز
إلى الحبشة الذين نزلوا بجدة.
ولولا نجاح رسول الله في إقناع أعدائه بقوة الدولة الإسلامية لما وصل إلى
هذه النتائج المرضية، ولما وفّر على جيشه كثيراً من المعارك الحربية التي
تكلّف الكثير من المال، ويضحي فيها بكثير من الرجال.
ج_ احتواء العدو: إن سياسة الاحتواء لا يقدر عليها إلا السياسي الماهرُ
الذي أعطاه الله من ضبط النفس ومخالفة الهوى الشيء الكثير، وقد كان رسول
الله (ص) يمارسُ سياسة الاحتواء هذه على أدقّ ما يمكن أن تمارس فيه، وتظهر
لنا هذه السياسة البارعة كأحسن ما تكون في احتواء رسول الله لقائد تجمُّع
المشركين في أوطاس وحنين "مالك بن عوف"، ومالُ "مالِك" وأهله في الغنائم
عند رسول الله، فقال رسول الله لوفد هوازن _قوم مالك _ حين وفدوا عليه: ما
فعل مالك؟ قالوا: هو بالطائف مع ثقيف، فقال رسول الله: أخبروا مالكاً أنه
إن أتاني مُسلماً رددتُ عليه أهله وماله وأعطيته مائةً من الإبل. فأخبر
مالكٌ بذلك، فخرج سراً من الطائف، ووفد على رسول الله علناً إسلامه وولاءه.
د_ السلم والحرب: كان رسول الله (ص) يؤثرُ حلّ مشكلاته مع أعدائه بالطرق
السلمية، ويتحاشى الصدام المسلح وإراقة الدماء ما استطاع، وهذا ما شاهدناه
منه عليه الصلاة والسلام عندما حلّ المدينة المنورة وفيها من اليهود
الحاقدين جماعات غير قليلة، فلم يبدأهم رسول الله بالحرب، بل عقد معهم
معاهدةً سياسية جمّدت عدواتهم إلى حين.
ولكن قد يستحيل حل المشكلات بالطرق السلمية، وتكون الحربُ اللغة الوحيدة
التي يتعين على الخصوم التكلم بها، وفي هذه الحالة كان ينظر رسول الله:
فإن رأى أن بإمكان جيشه بكفاءته الحاضرة انتزاع النصر، لم يتلكّأ رسول
الله في خوض الحرب، ولكنه إن رأى أن المعركة خاسرةً، وانه لا أمل فيها
بالنصر لجأ عليه الصلاة والسلام إلى كسب المعركة بالدّهاء السياسي لا بحد
السلاح، وكثيراً ما يكون الدهاء السياسي لمن رُزِقَه أمضى وأجدى من كل
سلاح.
لقد بلغ رسول الله أن تحالفاً عسكرياً قد عُقد بين قريش في جنوب المدينة
المنورة ويهود خيبر في شمالها، الغاية منه وضع الدولة الإسلامية بين فكّي
الكماشة ثم الإطباق عليها، لإنهاء الوجود الإسلامي في يثرب، لم يكن في
مقدور رسول الله أن يكسر هذا الحلف عسكرياً، لذلك لجأ إلى الدّهاء السياسي
حين خرج مظهراً أنه يريدُ العمرة، وكان مما قاله عليه الصلاة والسلام: "لا
تدعوني قريشٌ إلى خطةٍ يسألونني فيها صلة الرّحم إلا أعطيتهم إياها..." ثم
كان صلحُ الحديبية الذي كسرَ فيه الرسول هذا التحالف.
ويوم الأحزاب تحالفت قوى الشر على رسول الله: قريش، وغطفان وبنو قُريظة.
ولم يكن آنذاك في مقدور رسول الله أن يواجه هؤلاء مجتمعين، لذلك فكّر رسول
الله بكسر هذا التحالف بالدّهاء السياسي، فبعث إلى قائدي غطفان: "عُيينة
بن حصن" و "الحارث بن عوف" وعرض عليهما ثلث ثمار المدينة المنورة إن هما
تركا قريشاً ورجعا بما معهما من الناس، ولكن هذا الاتفاق لم يلبث أن فَشِل
لعدم موافقة زعماء الأنصار عليه، مما جعل رسول الله يفكر بأسلوب سياسي آخر
استغلّ فيه مجيء نُعيم بن مسعود الأشجعي معلناً إسلامه _ونعيم ذو خبرة في
تخذيل المحاربين _ فاتفق معه على مخطط، وأمره بتنفيذه، فخرج نُعيم حتى أتى
بني قريطة _وكان لهم نديماً في الجاهلية _ فقال: يا بني قُريظة، قد عرفُتم
ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم، فقال
لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلدُ بلدُكم فيه أموالكم وأبناؤكم
ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا
لحرب محمدٍ واصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره،
فإن كان النصرُ أخذوا الغنائم، وإن كانت الهزيمة لحقوا بلادهم وخلُّوا
بينكم وبين محمد، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى
تأخذوا منهم رهائن من أشرافهم يكونون بأيديكم حتى يكونوا معهم حتى النهاية.
فقالوا: قد اشرت بالرأي.
ثم خرج من عندهم وأتى قُريشاً فقال لهم: قد عرفتُم ودّي لكم وفراقي
محمداً، وإنه قد بلغني أمرٌ، فرأيتُ حقاً علي أن أبلغكموه، نصحاً لكم،
فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما
صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا،
فهل يُرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضربَ
أعناقهم؟ ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟
الخاتمة:
فأرسل إليهم: أن نعم، وأنا أنصحُكم يا معشر قريش انه إن بعث إليكم يهود
يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثم خرج من عند قريش وأتى غطفان فقال لها مثل ما قالَ لقريش.
ولما أرسلت قريشٌ لبني قريظة موعد البدء بالقتال، أجابهم زعماءُ لبني
قريظة: لن نقاتل معكم حتى تُعطونا رهناً من رجالكم يكونوا بأيدينا ثقةً
لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن ضرستكم الحربُ أو اشتد عليكم القتال
أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا، ومحمد في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.
فأبوا أن يُعطوهم، وخذَّل الله بينهم.
ه_ المعاهدات المؤقتة: من شأن كل دولةٍ عقديّة أن تكون معاهداتها كلها
مؤقتة وليست بدائمة، لأنها لا تقرُّ بالحاكميّة لغير الله تعالى، ولذلك
رأينا رسول الله يلغي بأمر من الله جميع المعاهدات الدائمة بينه وبين
المشركين، ويعطي أصحابها مهلةً قدرها أربعة أشهر، وعليهم أن يُعلنوا بعدها
ولاءهم للدولة الإسلامية، وإلاّ فإن الدولة تكون في حلٍ من قتالهم، حيث
قال تعالى في أول سورة براءة: (براءةٌ من الله ورسولهِ إلى الذينَ عاهدتُم
من المشركين* فسيحوا في الأرضِ أربعةَ أشهرٍ، واعلموا أنكُم غيرُ معجزي
اللهِ وأن اللهَ مُخزي الكافرين).
و_ التبادل الدبلوماسي: كان رسولُ الله يقرُّ التبادل الدبلوماسي بين
الدولة الإسلامية والدول الأخرى، وقد استقبل عليه الصلاة والسلام كثيراً
من الرسل والوفود، وكان عليه الصلاة والسلام يُراعي الأعرافَ المرعية في
استقبال الرسل والوفود والحفاظ عليهم وحمايتهم، وقد صح عنه أنه قال لرسولي
مُسيلمة: "أما واللهِ لولا أنّ الرسُلَ لا تُقتل لضربتُ أعناقكما".
وأرسل رسلاً وكتباً إلى ملوك الأرض منها كتابه إلى هرقل، وكتابه إلى كسرى،
وكتابه إلى النّجاشي، وكتابه إلى المقوقِس في الإسكندرية، وكتابه إلى
المنذر بن ساوى، وكتابه إلى جيفر وعبدٍ ابني الجلندي ملكي عُمان، وكتابه
إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني.