انتهت الثورة العرابية بوقوع مصر فريسة الاستعمار البريطاني عام (1300هـ =
1882م)، ورغم ذلك لم يكن للاحتلال أي وضع قانوني؛ إذ كانت مصر ولاية
عثمانية تتمتع باستقلال داخلي، وتخضع لحكم أسرة محمد علي باشا، واضطر هذا
الأمر بريطانيا إلى أن تعلن عن أن وضعها في مصر مؤقت، وسوف ينتهي بإعادة
النظام وتثبيت سلطة خديوي مصر.
أما الشعب المصري فقد عاش بعد هزيمة العرابيين فترة من الخمول والإعياء
وتضاؤل الروح الوطنية؛ فخيم على البلاد جو من الخضوع للإنجليز، وعمَّ اليأس
والقنوط في نفوس كثير من الناس.
وظن البعض أن الحركة الوطنية ماتت في نفوس المصريين؛ فتنكَّر كثيرون –خاصة
من الأعيان- للحركة الوطنية، واختفت الصحافة الوطنية، وعاش المصريون فترة
من عدم التوازن بينهم وبين واقعهم المرير.
وبدأ هذا الوضع في الاختفاء التدريجي مع نمو روح المقاومة حيث ظهرت جريدة
"العروة الوثقى" التي أصدرها الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والإمام "محمد
عبده".وقد تشكلت جمعية سرية من الوطنيين عُرِفَت باسم "جمعية الانتقام"،
وظهرت شخصية "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية، الذي أشعل بخطبه
ومقالاته الوطنية النفوس، وكذلك شخصية "لطيف سليم"، الذي بثَّ الوعي الوطني
في نفوس كثير من المثقفين.
وهكذا لم يكد المصريون يلتقطون أنفاسهم من صدمة الاحتلال حتى بدءوا في
المطالبة بالاستقلال بزعامة مصطفى كامل، بعدما مهد له الطريق زعماء وطنيون.
مصطفى كامل
ولد مصطفى في (1 رجب 1291هـ = 14 من أغسطس 1874م)، وكان أبوه "علي محمد" من
ضباط الجيش المصري، وقد رُزِقَ بابنه مصطفى وهو في الستين من عمره، وعُرِف
عن الابن النابه حبُّه للنضال والحرية منذ صغره؛ وهو الأمر الذي كان مفتاح
شخصيته وصاحبه على مدى 34 عامًا، هي عمره القصير.
والمعروف عنه أنه تلقى تعليمه الابتدائي في ثلاث مدارس، أما التعليم
الثانوي فقد التحق بالمدرسة الخديوية، أفضل مدارس مصر آنذاك، والوحيدة
أيضًا، ولم يترك مدرسة من المدارس إلا بعد صدام لم يمتلك فيه من السلاح إلا
ثقته بنفسه وإيمانه بحقه.
وفي المدرسة الخديوية أسس جماعة أدبية وطنية كان يخطب من خلالها في زملائه،
وحصل على الثانوية وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم التحق بمدرسة الحقوق
سنة (1309هـ = 1891م)، التي كانت تعد مدرسة الكتابة والخطابة في عصره،
فأتقن اللغة الفرنسية، والتحق بجمعيتين وطنيتين، وأصبح يتنقل بين عدد من
الجمعيات؛ وهو ما أدى إلى صقل وطنيته وقدراته الخطابية.
وقد استطاع أن يتعرف على عدد من الشخصيات الوطنية والأدبية، منهم: "إسماعيل
صبري" الشاعر الكبير ووكيل وزارة العدل، والشاعر الكبير "خليل مطران"،
و"بشارة تكلا" مؤسس جريدة "الأهرام"، الذي نشر له بعض مقالاته في جريدته،
ثم نشر مقالات في جريدة "المؤيد".
وفي سنة (1311هـ = 1893م) ترك مصطفى كامل مصر ليلتحق بمدرسة الحقوق
الفرنسية؛ ليكمل بقية سنوات دراسته، ثم التحق بعد عام بكلية حقوق "طولوز"،
واستطاع أن يحصل منها على شهادة الحقوق، ووضع في تلك الفترة مسرحية "فتح
الأندلس" التي تعتبر أول مسرحية مصرية، وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه في
سماء الصحافة، واستطاع أن يتعرف على بعض رجال الثقافة والفكر في فرنسا،
وازدادت شهرته مع هجوم الصحافة البريطانية عليه.
وسافر مصطفى كامل إلى برلين في نطاق حملته السياسية والدعائية ضد الاحتلال
البريطاني، وأصبح اسمه من الأسماء المصرية اللامعة في أوربا، وتعرَّف على
الصحفية الفرنسية الشهيرة "جولييت آدم"، التي فتحت صفحات مجلتها "لانوفيل
ريفو" ليكتب فيها، وقدمته لكبار الشخصيات الفرنسية؛ فألقى بعض المحاضرات في
عدد من المحافل الفرنسية، وزار الدولة العثمانية وعددًا من الدول
الأوربية.
وفي عام (1316هـ = 1898م) ظهر أول كتاب سياسي له بعنوان "كتاب المسألة
الشرقية"، وهو من الكتب الهامة في تاريخ السياسة المصرية. وفي عام (1318هـ =
1900م) أصدر جريدة اللواء اليومية، واهتم بالتعليم، وجعله مقرونًا
بالتربية، وكان يقول: "إني أعتقد أن التعليم بلا تربية عديم الفائدة".
عباس الثاني والحزب الوطني
تولَّى الخديوي عباس الثاني حكم مصر في (1310هـ = 1892م) وكان عمره 17
عاما، وكان مصطفى كامل يكبره بعام واحد، وقد أراد عباس أن يستقل بالسلطة عن
السيطرة الفعلية في البلاد، وهي الإنجليز؛ فبدأ عام (1313هـ = 1895م) في
تأليف لجنة سرية للاتصال بالوطنيين المصريين من أجل الدعاية لقضية استقلال
مصر، وفي فرنسا بصفة خاصة، وقد عُرفت باسم "جمعية أحباء الوطن السرية".
والتقى مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وعدد من الوطنيين بمنزل محمد فريد، وتم
تأليف "جمعية الحزب الوطني" كجمعية سرية، رئيسها الخديوي عباس، وسافر أحمد
لطفي السيد إلى أوربا، والتقى ببعض المصريين هناك، وبعد عودته كتب تقريرا
عن رحلته، قرر فيه أن مصر لا يمكن أن تتحرر إلا بمجهود أبنائها، وأن
المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس الخديوي الحركة.
ويرى البعض في ذلك أزمة خطيرة صاحبت الحزب الوطني منذ بداياته الأولى؛ إذ
إن نشاطه السياسي والدعائي بدأ تحت ولاية الخديوي عباس ورعايته المادية
والمعنوية، والتي تأثرت بعوامل الشد والجذب بين الخديوي والإنجليز؛ فانعكست
على علاقة الخديوي بالحزب الوطني، والتي انتقلت من الرعاية والصداقة إلى
قطع الصلات بالحزب، بعد الفشل في ترويضه، ثم مطاردة قادته، وإغلاق صحفهم،
وتعليق أنشطتهم، واتهامهم بمحاولات اغتيال.
واتخذ أعضاء جمعية الحزب الوطني أسماء مستعارة لهم، فكان الاسم المستعار
للخديوي: "الشيخ"، أما الاسم المستعار لمصطفى كامل فهو: "أبو الفدا".
الخديوي ومصطفى كامل
كان مصطفى كامل لسان حال الجمعية؛ فسافر إلى بعض الدول للدعاية للقضية
المصرية واستقلال مصر، غير أنه أدرك حقيقة هامة، وهي أن أسلوب الدعاية
للقضية المصرية في أوربا لا يكفي لحدوث الاستقلال، وأن العبء الأكبر يجب أن
يقع على عاتق المصريين.
أما الخديوي عباس؛ فقد أدرك أن مناصرته العلنية للحركة الوطنية ضد الإنجليز
أدت إلى تقليص نفوذه أمام سلطة ونفوذ المعتمد البريطاني في مصر اللورد
كرومر؛ فبدأ في فتح صفحات من التقارب مع الإنجليز، جاء بعضها على حساب
الحركة الوطنية؛ حيث استدعى مصطفى كامل من أوربا حتى تتوقف حملاته الدعائية
ضد الإنجليز، ولكن مصطفى كامل رفض؛ فبدأت العلاقات بينهما تأخذ طابعًا غير
مستقر، تحكمه مواقف الخديوي ومصالحه.
وقد اتخذ الخديوي سياسة الوفاق الظاهري مع الإنجليز والمقاومة السرية ضدهم،
ولكن هذه السياسة لم تدم طويلاً ليأس الخديوي من أي تعضيد يأتيه من أوربا،
خاصة من فرنسا التي شكَّلت سياستها مع مصر بما يتواءم مع مصالحها، وتحلَّى
ذلك في الاتفاق الودي بفرنسا وبريطانيا سنة (1322هـ = 1904م)؛ حيث اتفق
الطرفان على أن تطلق فرنسا يد بريطانيا في وادي النيل، وأن تطلق بريطانيا
يد فرنسا في المغرب؛ فكان هذا الاتفاق ضربة شديدة للحركة الوطنية، فبدأت
تبتعد عن الخديوي بعد أن كانت تتخذ منه أداة لصمودها وقوتها.
وحسم مصطفى كامل أمره وكتب رسالة إلى الخديوي في (شعبان 1322هـ = أكتوبر
1904م) قال فيها: "رفعت إلى مقامكم السامي أن الحالة السياسية الحاضرة تقضي
عليَّ أن أكون بعيدًا عن فخامتك، وأن أتحمل وحدي مسؤولية الخطة التي
اتبعتها نحو الاحتلال والمحتلين".
على أن مصطفى كامل لم يكفّ عن توجيه النقد للخديوي كلما أخطأ، ومن ذلك:
نقده لوقوف الخديوي تحت العلم الإنجليزي، واستعراض جيش الاحتلال في ميدان
عابدين، وتصريح الخديوي عباس عندما تولى "جورست" مندوبًا ساميًا في مصر
بدلاً من "كرومر"، والذي قال فيه: "إن الاحتلال البريطاني أفضل من أي
احتلال آخر"؛ فكتب مصطفى مقالاً في اللواء عام (1325هـ = 1907م) قال فيه:
"إن كل مصري صادق لا يقبل أن يكون حكم مصر بيد سمو الخديوي بمفرده، أو بيد
المعتمد البريطاني، أو بيد الاثنين معًا".
عامان وحدثان
كان مصطفى كامل كثير الأسفار، وعانى كثيرًا من الأزمات والشدائد؛ وهو ما
كان له أكبر الأثر في ضعف قواه وتردي صحته؛ فاشتد به المرض عام (1323هـ =
1905م)، ولم يمض عام على هذا التاريخ حتى وقعت حادثة "دنشواي" الشهيرة،
التي أعدم فيها الإنجليز عددًا من الفلاحين المصريين أمام أعين ذويهم، بعد
محاكمة صورية برئاسة "بطرس غالى" باشا رئيس الوزراء؛ فكانت حادثة بشعة
ارتكبها الإنجليز، أججت مشاعر الوطنية والإحساس بالظلم في نفوس المصريين؛
فقطع مصطفى كامل علاجه في باريس، وسافر إلى لندن، وكتب مجموعة من المقالات
العنيفة ضد الاحتلال، والتقى هناك بالسير "كامبل باترمان" رئيس الوزراء
البريطاني، الذي عرض عليه تشكيل الوزارة، غير أنه رفض هذا العرض.
أما الحدث الثاني فكان في (16 رمضان 1325هـ = 22 أكتوبر 1907م) بالإسكندرية
بعد عودته إلى مصر، فقد عاد إلى مصر وهو في حالة شديدة من المرض، وألقى
خطبة من أجمل وأطول خطبه، أطلق عليها "خطبة الوداع"، وقد أعلن فيها تأسيس
الحزب الوطني الذي تألف برنامجه السياسي من عدة مواد، أهمها: المطالبة
باستقلال مصر، كما أقرته معاهدة لندن (1256هـ = 1840م)، وإيجاد دستور يكفل
الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها، ونشر التعليم، وبث الشعور
الوطني. غير أن الجلاء والدستور كانا أهم مطلبين للحزب.
ولم يلبث مصطفى كامل أن تُوفِّي في (6 محرم 1326هـ = 10 فبراير 1908م)، أي بعد حوالي أربعة أشهر من إعلانه عن تأسيس الحزب الوطني.
الحزب الوطني بعد مصطفى كامل
تركت وفاة مصطفى كامل فراغا كبيرا داخل الحزب الوطني والحركة الوطنية
المصرية، فالرجل رغم قصر سنوات عمره فإنه بدأ العمل السياسي قبل سن
العشرين، أي أنه أمضى أكثر من ستة عشر عاما في خضم العمل الوطني وقيادته؛
لذلك جاءت وفاته هزة عنيفة للوطنيين ولحزبه الوليد.
ومن ناحيته حاول الخديوي عباس احتواء هذا الحزب، ومنع انتخاب "محمد فريد"
رئيسا للحزب؛ لأن فريد لم يكن رجلاً سهل الانقياد؛ فعمل الخديوي على تقريب
بعض زعماء الحزب منه وأملى إرشاداته عليهم. لكن محاولات الخديوي فشلت،
وتولى محمد فريد رئاسة الحزب.
وقد اتجه فريد بنشاط الحزب إلى المطالبة بالجلاء والدستور، بالإضافة إلى
تشجيع الحركة التعاونية، وفتح المدارس التي أطلق عليها "مدارس الشعب"،
وتولى التدريس فيها أعضاء الحزب الوطني، وكانت مدارس ليلية، واهتم الحزب
بتأسيس النقابات، فأنشئت في بولاق سنة (1327هـ = 1909م) أول نقابة للعمال
بمصر، وهي نقابة عمال الصنائع اليدوية، ثم سرت فكرة تأسيس النقابات في
عواصم الأقاليم.
وطوَّر محمد فريد طريقة الحزب في الكفاح الوطني؛ فاتبع أسلوب المظاهرات
للمطالبة بالدستور، ومنذ ذلك الوقت بدأ يظهر دور الطلبة في الحياة السياسية
بمصر. كذلك أرسل محمد فريد خطابات تهديد إلى الخديوي وكبار رجال القصر،
وتم تأسيس جمعيات للطلاب المصريين في الخارج للمطالبة بالاستقلال.
وقدم الحزب عرائض للخديوي تطالب بمجلس نيابي جمع فيها (75) ألف توقيع، إلا
أن هذه الجهود لم تثمر عن تحقيق الاستقلال أو الدستور؛ حيث جاءت في وقت
ظهرت فيه سياسة الوفاق بين الخديوي والإنجليز، وبالتالي صار الحزب الوطني
وقادته هدفًا للاحتلال والخديوي معًا.
وقد اتجه بعض عناصر الحزب إلى تشكيل جمعيات، والقيام ببعض الاغتيالات
السياسية، فقام أحد رجال الحزب الوطني بأول اغتيال سياسي في تاريخ مصر
الحديثة؛ إذ اغتال "بطرس غالي" رئيس الوزراء عندما أقدم على مد امتياز قناة
السويس.
الصراع داخل الوطني
وانقسم الحزب الوطني إلى أجنحة متصارعة؛ فكان هناك الخلاف بين محمد فريد
وعلي فهمي كامل شقيق مصطفى كامل؛ حيث إن علي فهمي لم يكن مستريحًا لسياسة
محمد فريد المتشددة من الخديوي، كذلك رأى أنه أحق برئاسة الحزب من محمد
فريد، ظنًّا منه أن رئاسة الحزب بالوراثة؛ لذلك قام بحركات انشقاق، ساعده
فيها الخديوي الذي اتخذ موقفًا متشددًا من الحزب الوطني؛ فألغى جريدتي
اللواء الفرنسية والإنجليزية، ثم أغلق "اللواء" نفسها نهائيًا سنة (1331هـ =
1912) بعد (12) عامًا من إنشائها؛ بهدف إضعاف الحزب والسيطرة عليه.
ولما وجد محمد فريد سياسة التضييق على حزبه من قِبَل الخديوي والإنجليز،
اتخذ سياسة متشددة، ولم يبال بغضب الخديوي، إلا أن هذه السياسة أغضبت
الخديوي عباس؛ فاتهم محمد فريد بتدبير محاولة لاغتياله، وقام باعتقاله سنة
(1331هـ = 1912م)، وحوكم محمد فريد محاكمات كثيرة، وكلما خرج من السجن عاد
إليه، وضيق عليه أيّما تضييق.
قرر محمد فريد قرر نقل سياسة الجهاد إلى الخارج، وغادر مصر، وبذلك انعزلت
قيادة الحزب عن الجماهير، فكان "عبد العزيز جاويش" -أحد القيادات الكبيرة
في الحزب- في "إستانبول"، ومحمد فريد في "جنيف"، وأخذ يتنقل بين العواصم
الأوربية، وتبعهما عدد من القيادات الأخرى، وبذلك فَقَدَ الحزب قيادات لها
قيمة كبيرة؛ فبدأ يعاني من التفكك والصراعات بين أجنحته، بالإضافة إلى عدم
وجود موارد مالية تسمح لبعض قياداته في الخارج بالتفرغ للقيام بحرب دعائية
ضد الاحتلال.
ومع قيام الحرب العالمية الأولى سنة (1332هـ = 1914م) بدأ الدور التاريخي
للحزب الوطني في الاضمحلال؛ حيث ربط بعض قيادات الحزب مصيرهم السياسي
بالدولة العثمانية وألمانيا، فلمَّا هزمت هاتان الدولتان في الحرب أصيبت
هذه القيادات بشلل تام، سبقه موت "محمد فريد" سنة (1335هـ = 1916م) خارج
مصر.
وكانت نهاية الحرب العالمية الأولى تتزامن مع نهاية الحزب الوطني
جماهيريًّا، إلا أنه لم يختف من الوجود، ولكن تبدد الجزء الأكبر من
جاذبيته، فكان قادة الحزب الوطني في الخارج يبددون قواهم في مشاجرات
وصراعات حول قيادة الحزب، أما المصريون في الداخل فكانوا يفتحون صفحة وطنية
جديدة من الجهاد والكفاح الوطني بزعامة "سعد زغلول" وحزب الوفد.
استطاع الوفد بعد ثورة 1919م أن يستوعب قطاعات جماهيرية كبيرة من الشعب
المصري، بل من قيادات الحزب الوطني؛ فاتخذ الحزب الوطني –الذي أصبح حزب
أقلية- سياسة معارضة لأساليب الكفاح الوفدي، وأعلن شعاره المشهور "لا
مفاوضة إلا بعد الجلاء"، وبلغ عداؤه للوفد إلى حدِّ التورط في تحالفات
حزبية ضده.
وحدث انقسام داخل الحزب الوطني سنة (1357هـ = 1938م) بسبب اشتراك زعيم
الحزب الوطني في وزارة للأحرار الدستوريين على خلاف تقاليد الحزب، الذي رفض
الاشتراك في الحكم إلا بعد الجلاء.
واستمر الانقسام في الحزب، رغم ظهور بعض الطفرات في نشاطه في عدد من
السنوات، وانتهى الأمر إلى إلغاء الحزب الوطني مع بقية الأحزاب بعد قيام
ثورة يوليو 1952م.
1882م)، ورغم ذلك لم يكن للاحتلال أي وضع قانوني؛ إذ كانت مصر ولاية
عثمانية تتمتع باستقلال داخلي، وتخضع لحكم أسرة محمد علي باشا، واضطر هذا
الأمر بريطانيا إلى أن تعلن عن أن وضعها في مصر مؤقت، وسوف ينتهي بإعادة
النظام وتثبيت سلطة خديوي مصر.
أما الشعب المصري فقد عاش بعد هزيمة العرابيين فترة من الخمول والإعياء
وتضاؤل الروح الوطنية؛ فخيم على البلاد جو من الخضوع للإنجليز، وعمَّ اليأس
والقنوط في نفوس كثير من الناس.
وظن البعض أن الحركة الوطنية ماتت في نفوس المصريين؛ فتنكَّر كثيرون –خاصة
من الأعيان- للحركة الوطنية، واختفت الصحافة الوطنية، وعاش المصريون فترة
من عدم التوازن بينهم وبين واقعهم المرير.
وبدأ هذا الوضع في الاختفاء التدريجي مع نمو روح المقاومة حيث ظهرت جريدة
"العروة الوثقى" التي أصدرها الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والإمام "محمد
عبده".وقد تشكلت جمعية سرية من الوطنيين عُرِفَت باسم "جمعية الانتقام"،
وظهرت شخصية "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية، الذي أشعل بخطبه
ومقالاته الوطنية النفوس، وكذلك شخصية "لطيف سليم"، الذي بثَّ الوعي الوطني
في نفوس كثير من المثقفين.
وهكذا لم يكد المصريون يلتقطون أنفاسهم من صدمة الاحتلال حتى بدءوا في
المطالبة بالاستقلال بزعامة مصطفى كامل، بعدما مهد له الطريق زعماء وطنيون.
مصطفى كامل
ولد مصطفى في (1 رجب 1291هـ = 14 من أغسطس 1874م)، وكان أبوه "علي محمد" من
ضباط الجيش المصري، وقد رُزِقَ بابنه مصطفى وهو في الستين من عمره، وعُرِف
عن الابن النابه حبُّه للنضال والحرية منذ صغره؛ وهو الأمر الذي كان مفتاح
شخصيته وصاحبه على مدى 34 عامًا، هي عمره القصير.
والمعروف عنه أنه تلقى تعليمه الابتدائي في ثلاث مدارس، أما التعليم
الثانوي فقد التحق بالمدرسة الخديوية، أفضل مدارس مصر آنذاك، والوحيدة
أيضًا، ولم يترك مدرسة من المدارس إلا بعد صدام لم يمتلك فيه من السلاح إلا
ثقته بنفسه وإيمانه بحقه.
وفي المدرسة الخديوية أسس جماعة أدبية وطنية كان يخطب من خلالها في زملائه،
وحصل على الثانوية وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم التحق بمدرسة الحقوق
سنة (1309هـ = 1891م)، التي كانت تعد مدرسة الكتابة والخطابة في عصره،
فأتقن اللغة الفرنسية، والتحق بجمعيتين وطنيتين، وأصبح يتنقل بين عدد من
الجمعيات؛ وهو ما أدى إلى صقل وطنيته وقدراته الخطابية.
وقد استطاع أن يتعرف على عدد من الشخصيات الوطنية والأدبية، منهم: "إسماعيل
صبري" الشاعر الكبير ووكيل وزارة العدل، والشاعر الكبير "خليل مطران"،
و"بشارة تكلا" مؤسس جريدة "الأهرام"، الذي نشر له بعض مقالاته في جريدته،
ثم نشر مقالات في جريدة "المؤيد".
وفي سنة (1311هـ = 1893م) ترك مصطفى كامل مصر ليلتحق بمدرسة الحقوق
الفرنسية؛ ليكمل بقية سنوات دراسته، ثم التحق بعد عام بكلية حقوق "طولوز"،
واستطاع أن يحصل منها على شهادة الحقوق، ووضع في تلك الفترة مسرحية "فتح
الأندلس" التي تعتبر أول مسرحية مصرية، وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه في
سماء الصحافة، واستطاع أن يتعرف على بعض رجال الثقافة والفكر في فرنسا،
وازدادت شهرته مع هجوم الصحافة البريطانية عليه.
وسافر مصطفى كامل إلى برلين في نطاق حملته السياسية والدعائية ضد الاحتلال
البريطاني، وأصبح اسمه من الأسماء المصرية اللامعة في أوربا، وتعرَّف على
الصحفية الفرنسية الشهيرة "جولييت آدم"، التي فتحت صفحات مجلتها "لانوفيل
ريفو" ليكتب فيها، وقدمته لكبار الشخصيات الفرنسية؛ فألقى بعض المحاضرات في
عدد من المحافل الفرنسية، وزار الدولة العثمانية وعددًا من الدول
الأوربية.
وفي عام (1316هـ = 1898م) ظهر أول كتاب سياسي له بعنوان "كتاب المسألة
الشرقية"، وهو من الكتب الهامة في تاريخ السياسة المصرية. وفي عام (1318هـ =
1900م) أصدر جريدة اللواء اليومية، واهتم بالتعليم، وجعله مقرونًا
بالتربية، وكان يقول: "إني أعتقد أن التعليم بلا تربية عديم الفائدة".
عباس الثاني والحزب الوطني
تولَّى الخديوي عباس الثاني حكم مصر في (1310هـ = 1892م) وكان عمره 17
عاما، وكان مصطفى كامل يكبره بعام واحد، وقد أراد عباس أن يستقل بالسلطة عن
السيطرة الفعلية في البلاد، وهي الإنجليز؛ فبدأ عام (1313هـ = 1895م) في
تأليف لجنة سرية للاتصال بالوطنيين المصريين من أجل الدعاية لقضية استقلال
مصر، وفي فرنسا بصفة خاصة، وقد عُرفت باسم "جمعية أحباء الوطن السرية".
والتقى مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وعدد من الوطنيين بمنزل محمد فريد، وتم
تأليف "جمعية الحزب الوطني" كجمعية سرية، رئيسها الخديوي عباس، وسافر أحمد
لطفي السيد إلى أوربا، والتقى ببعض المصريين هناك، وبعد عودته كتب تقريرا
عن رحلته، قرر فيه أن مصر لا يمكن أن تتحرر إلا بمجهود أبنائها، وأن
المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس الخديوي الحركة.
ويرى البعض في ذلك أزمة خطيرة صاحبت الحزب الوطني منذ بداياته الأولى؛ إذ
إن نشاطه السياسي والدعائي بدأ تحت ولاية الخديوي عباس ورعايته المادية
والمعنوية، والتي تأثرت بعوامل الشد والجذب بين الخديوي والإنجليز؛ فانعكست
على علاقة الخديوي بالحزب الوطني، والتي انتقلت من الرعاية والصداقة إلى
قطع الصلات بالحزب، بعد الفشل في ترويضه، ثم مطاردة قادته، وإغلاق صحفهم،
وتعليق أنشطتهم، واتهامهم بمحاولات اغتيال.
واتخذ أعضاء جمعية الحزب الوطني أسماء مستعارة لهم، فكان الاسم المستعار
للخديوي: "الشيخ"، أما الاسم المستعار لمصطفى كامل فهو: "أبو الفدا".
الخديوي ومصطفى كامل
كان مصطفى كامل لسان حال الجمعية؛ فسافر إلى بعض الدول للدعاية للقضية
المصرية واستقلال مصر، غير أنه أدرك حقيقة هامة، وهي أن أسلوب الدعاية
للقضية المصرية في أوربا لا يكفي لحدوث الاستقلال، وأن العبء الأكبر يجب أن
يقع على عاتق المصريين.
أما الخديوي عباس؛ فقد أدرك أن مناصرته العلنية للحركة الوطنية ضد الإنجليز
أدت إلى تقليص نفوذه أمام سلطة ونفوذ المعتمد البريطاني في مصر اللورد
كرومر؛ فبدأ في فتح صفحات من التقارب مع الإنجليز، جاء بعضها على حساب
الحركة الوطنية؛ حيث استدعى مصطفى كامل من أوربا حتى تتوقف حملاته الدعائية
ضد الإنجليز، ولكن مصطفى كامل رفض؛ فبدأت العلاقات بينهما تأخذ طابعًا غير
مستقر، تحكمه مواقف الخديوي ومصالحه.
وقد اتخذ الخديوي سياسة الوفاق الظاهري مع الإنجليز والمقاومة السرية ضدهم،
ولكن هذه السياسة لم تدم طويلاً ليأس الخديوي من أي تعضيد يأتيه من أوربا،
خاصة من فرنسا التي شكَّلت سياستها مع مصر بما يتواءم مع مصالحها، وتحلَّى
ذلك في الاتفاق الودي بفرنسا وبريطانيا سنة (1322هـ = 1904م)؛ حيث اتفق
الطرفان على أن تطلق فرنسا يد بريطانيا في وادي النيل، وأن تطلق بريطانيا
يد فرنسا في المغرب؛ فكان هذا الاتفاق ضربة شديدة للحركة الوطنية، فبدأت
تبتعد عن الخديوي بعد أن كانت تتخذ منه أداة لصمودها وقوتها.
وحسم مصطفى كامل أمره وكتب رسالة إلى الخديوي في (شعبان 1322هـ = أكتوبر
1904م) قال فيها: "رفعت إلى مقامكم السامي أن الحالة السياسية الحاضرة تقضي
عليَّ أن أكون بعيدًا عن فخامتك، وأن أتحمل وحدي مسؤولية الخطة التي
اتبعتها نحو الاحتلال والمحتلين".
على أن مصطفى كامل لم يكفّ عن توجيه النقد للخديوي كلما أخطأ، ومن ذلك:
نقده لوقوف الخديوي تحت العلم الإنجليزي، واستعراض جيش الاحتلال في ميدان
عابدين، وتصريح الخديوي عباس عندما تولى "جورست" مندوبًا ساميًا في مصر
بدلاً من "كرومر"، والذي قال فيه: "إن الاحتلال البريطاني أفضل من أي
احتلال آخر"؛ فكتب مصطفى مقالاً في اللواء عام (1325هـ = 1907م) قال فيه:
"إن كل مصري صادق لا يقبل أن يكون حكم مصر بيد سمو الخديوي بمفرده، أو بيد
المعتمد البريطاني، أو بيد الاثنين معًا".
عامان وحدثان
كان مصطفى كامل كثير الأسفار، وعانى كثيرًا من الأزمات والشدائد؛ وهو ما
كان له أكبر الأثر في ضعف قواه وتردي صحته؛ فاشتد به المرض عام (1323هـ =
1905م)، ولم يمض عام على هذا التاريخ حتى وقعت حادثة "دنشواي" الشهيرة،
التي أعدم فيها الإنجليز عددًا من الفلاحين المصريين أمام أعين ذويهم، بعد
محاكمة صورية برئاسة "بطرس غالى" باشا رئيس الوزراء؛ فكانت حادثة بشعة
ارتكبها الإنجليز، أججت مشاعر الوطنية والإحساس بالظلم في نفوس المصريين؛
فقطع مصطفى كامل علاجه في باريس، وسافر إلى لندن، وكتب مجموعة من المقالات
العنيفة ضد الاحتلال، والتقى هناك بالسير "كامبل باترمان" رئيس الوزراء
البريطاني، الذي عرض عليه تشكيل الوزارة، غير أنه رفض هذا العرض.
أما الحدث الثاني فكان في (16 رمضان 1325هـ = 22 أكتوبر 1907م) بالإسكندرية
بعد عودته إلى مصر، فقد عاد إلى مصر وهو في حالة شديدة من المرض، وألقى
خطبة من أجمل وأطول خطبه، أطلق عليها "خطبة الوداع"، وقد أعلن فيها تأسيس
الحزب الوطني الذي تألف برنامجه السياسي من عدة مواد، أهمها: المطالبة
باستقلال مصر، كما أقرته معاهدة لندن (1256هـ = 1840م)، وإيجاد دستور يكفل
الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها، ونشر التعليم، وبث الشعور
الوطني. غير أن الجلاء والدستور كانا أهم مطلبين للحزب.
ولم يلبث مصطفى كامل أن تُوفِّي في (6 محرم 1326هـ = 10 فبراير 1908م)، أي بعد حوالي أربعة أشهر من إعلانه عن تأسيس الحزب الوطني.
الحزب الوطني بعد مصطفى كامل
تركت وفاة مصطفى كامل فراغا كبيرا داخل الحزب الوطني والحركة الوطنية
المصرية، فالرجل رغم قصر سنوات عمره فإنه بدأ العمل السياسي قبل سن
العشرين، أي أنه أمضى أكثر من ستة عشر عاما في خضم العمل الوطني وقيادته؛
لذلك جاءت وفاته هزة عنيفة للوطنيين ولحزبه الوليد.
ومن ناحيته حاول الخديوي عباس احتواء هذا الحزب، ومنع انتخاب "محمد فريد"
رئيسا للحزب؛ لأن فريد لم يكن رجلاً سهل الانقياد؛ فعمل الخديوي على تقريب
بعض زعماء الحزب منه وأملى إرشاداته عليهم. لكن محاولات الخديوي فشلت،
وتولى محمد فريد رئاسة الحزب.
وقد اتجه فريد بنشاط الحزب إلى المطالبة بالجلاء والدستور، بالإضافة إلى
تشجيع الحركة التعاونية، وفتح المدارس التي أطلق عليها "مدارس الشعب"،
وتولى التدريس فيها أعضاء الحزب الوطني، وكانت مدارس ليلية، واهتم الحزب
بتأسيس النقابات، فأنشئت في بولاق سنة (1327هـ = 1909م) أول نقابة للعمال
بمصر، وهي نقابة عمال الصنائع اليدوية، ثم سرت فكرة تأسيس النقابات في
عواصم الأقاليم.
وطوَّر محمد فريد طريقة الحزب في الكفاح الوطني؛ فاتبع أسلوب المظاهرات
للمطالبة بالدستور، ومنذ ذلك الوقت بدأ يظهر دور الطلبة في الحياة السياسية
بمصر. كذلك أرسل محمد فريد خطابات تهديد إلى الخديوي وكبار رجال القصر،
وتم تأسيس جمعيات للطلاب المصريين في الخارج للمطالبة بالاستقلال.
وقدم الحزب عرائض للخديوي تطالب بمجلس نيابي جمع فيها (75) ألف توقيع، إلا
أن هذه الجهود لم تثمر عن تحقيق الاستقلال أو الدستور؛ حيث جاءت في وقت
ظهرت فيه سياسة الوفاق بين الخديوي والإنجليز، وبالتالي صار الحزب الوطني
وقادته هدفًا للاحتلال والخديوي معًا.
وقد اتجه بعض عناصر الحزب إلى تشكيل جمعيات، والقيام ببعض الاغتيالات
السياسية، فقام أحد رجال الحزب الوطني بأول اغتيال سياسي في تاريخ مصر
الحديثة؛ إذ اغتال "بطرس غالي" رئيس الوزراء عندما أقدم على مد امتياز قناة
السويس.
الصراع داخل الوطني
وانقسم الحزب الوطني إلى أجنحة متصارعة؛ فكان هناك الخلاف بين محمد فريد
وعلي فهمي كامل شقيق مصطفى كامل؛ حيث إن علي فهمي لم يكن مستريحًا لسياسة
محمد فريد المتشددة من الخديوي، كذلك رأى أنه أحق برئاسة الحزب من محمد
فريد، ظنًّا منه أن رئاسة الحزب بالوراثة؛ لذلك قام بحركات انشقاق، ساعده
فيها الخديوي الذي اتخذ موقفًا متشددًا من الحزب الوطني؛ فألغى جريدتي
اللواء الفرنسية والإنجليزية، ثم أغلق "اللواء" نفسها نهائيًا سنة (1331هـ =
1912) بعد (12) عامًا من إنشائها؛ بهدف إضعاف الحزب والسيطرة عليه.
ولما وجد محمد فريد سياسة التضييق على حزبه من قِبَل الخديوي والإنجليز،
اتخذ سياسة متشددة، ولم يبال بغضب الخديوي، إلا أن هذه السياسة أغضبت
الخديوي عباس؛ فاتهم محمد فريد بتدبير محاولة لاغتياله، وقام باعتقاله سنة
(1331هـ = 1912م)، وحوكم محمد فريد محاكمات كثيرة، وكلما خرج من السجن عاد
إليه، وضيق عليه أيّما تضييق.
قرر محمد فريد قرر نقل سياسة الجهاد إلى الخارج، وغادر مصر، وبذلك انعزلت
قيادة الحزب عن الجماهير، فكان "عبد العزيز جاويش" -أحد القيادات الكبيرة
في الحزب- في "إستانبول"، ومحمد فريد في "جنيف"، وأخذ يتنقل بين العواصم
الأوربية، وتبعهما عدد من القيادات الأخرى، وبذلك فَقَدَ الحزب قيادات لها
قيمة كبيرة؛ فبدأ يعاني من التفكك والصراعات بين أجنحته، بالإضافة إلى عدم
وجود موارد مالية تسمح لبعض قياداته في الخارج بالتفرغ للقيام بحرب دعائية
ضد الاحتلال.
ومع قيام الحرب العالمية الأولى سنة (1332هـ = 1914م) بدأ الدور التاريخي
للحزب الوطني في الاضمحلال؛ حيث ربط بعض قيادات الحزب مصيرهم السياسي
بالدولة العثمانية وألمانيا، فلمَّا هزمت هاتان الدولتان في الحرب أصيبت
هذه القيادات بشلل تام، سبقه موت "محمد فريد" سنة (1335هـ = 1916م) خارج
مصر.
وكانت نهاية الحرب العالمية الأولى تتزامن مع نهاية الحزب الوطني
جماهيريًّا، إلا أنه لم يختف من الوجود، ولكن تبدد الجزء الأكبر من
جاذبيته، فكان قادة الحزب الوطني في الخارج يبددون قواهم في مشاجرات
وصراعات حول قيادة الحزب، أما المصريون في الداخل فكانوا يفتحون صفحة وطنية
جديدة من الجهاد والكفاح الوطني بزعامة "سعد زغلول" وحزب الوفد.
استطاع الوفد بعد ثورة 1919م أن يستوعب قطاعات جماهيرية كبيرة من الشعب
المصري، بل من قيادات الحزب الوطني؛ فاتخذ الحزب الوطني –الذي أصبح حزب
أقلية- سياسة معارضة لأساليب الكفاح الوفدي، وأعلن شعاره المشهور "لا
مفاوضة إلا بعد الجلاء"، وبلغ عداؤه للوفد إلى حدِّ التورط في تحالفات
حزبية ضده.
وحدث انقسام داخل الحزب الوطني سنة (1357هـ = 1938م) بسبب اشتراك زعيم
الحزب الوطني في وزارة للأحرار الدستوريين على خلاف تقاليد الحزب، الذي رفض
الاشتراك في الحكم إلا بعد الجلاء.
واستمر الانقسام في الحزب، رغم ظهور بعض الطفرات في نشاطه في عدد من
السنوات، وانتهى الأمر إلى إلغاء الحزب الوطني مع بقية الأحزاب بعد قيام
ثورة يوليو 1952م.