الحلال والحرام في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلال والحرام في الإسلام
موضوع الحلال والحرام ، هو قوام الإسلام ، ودليل الإيمان ، وميزان الصدق
عند الواحد الديان ، فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل إلا على مقتضى الأمر
والنهي ، ولا التزام بأمر آمر ، ولا نهي ناهٍ إلا عن حب ، والحب دون اتباع
كذب ونفاق ، ومن هنا كانت خطورة موضوع الحلال والحرام في الإسلام ، الذي هو
شريعة خاتمة ، لبناء حضارة أمة ، هي خير أمةٍ أخرجت للناس ، لقد كانت جميع
الرسالات السابقة تدريباً للبشرية على تقبل تلك الشريعة الخاتمة ،
وتمهيداً لاكتمال الوعي في تلك الأمة المختارة ، فما من أمة عدلت عن تشريع
الله إلا أخذت بالدمار والهلاك ، وما من فرد ، أهمل الأمر والنهي ، إلا
اختل قوامه ، واضطرب حاله ، قال تعالى :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاسْلامَ دِينًا
الشريعة رحمة كلها ، عدل كلها ، مصلحة كلها ، حكمة كلها ، إنها تعليمات الصانع الخبير ، " ولا ينبئك مثل خبير " .
لقد أراد الإسلام بناء شخصية المسلم ، متميزةً عن الشخصيات الأخرى ، من
خلال الحلال والحرام ، وقد اتجه الإسلام بأهله إلى بناء مجتمع الجسد الواحد
، والأخوة الإسلامية الصادقة التي تنتهي إلى الأخوة الإنسانية ، على هدى
الحلال والحرام ، لقد احترم الإسلام الإنسان ، وأعلى قدره حينما نظر إلى
الاقتصاد من خلال الإنسان كرامةً وكفايةً وأمناً ، لا من خلال قهره
واستغلاله ، فكان الحلال والحرام صوناً لكرامة الإنسان ، فشرائع الإسلام
صالحةٌ لاستيعاب كل المعاملات والقضايا العصرية ، لتضعها في مكانها من
الحلال والحرام .
الحلال والحرام يتصل بأعمال القلوب ، كما يتصل بأعمال الجوارح ، والصحابة
الكرام على جلالة قدرهم ، وعمق إيمانهم ، وقربهم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم كانوا أحرص الناس على رعاية أعمال القلوب ، حرصهم على رعاية
أعمال الجوارح ، إن الإنسان لا يتحرك في أعماله سواءً أكانت فعلاً أو تركاً
، حركةً آليةً بلا دافع قلبي ، يدفعه إلى العمل ، وإلا كان جماداً لا روح
فيه ، هذا الدافع القلبي هو الإرادة والنية ، وقد يدخله كثير من ألوان
الخداع النفسي ، حتى يتحول عمل الطاعة إلى إثم ، ويتحول ترك الحرام إلى
حرام .
إن أعمال القلوب دقيقة المأخذ ، تتقارب فيها حدود الحلال والحرام تقارباً
لا يمكن التمييز بينها ، إلا بعد تأملٍ دقيق ، على هدى من علم شامل ، وفقه
عميق ، كالنفاق المحرم ، والمباهاة المباحة ، كيف نميز بينهما ؟ .. وكالخوف
من الله ، واليأس من رحمته .. كيف نفرق بينهما ؟ .. وكرجاء رحمته ،
والغِرة به ، كإضمار ما يجب ستره ، بنية الدعوة إلى العمل بالقدوة ، ونية
الإعجاب بالعمل والرغبة في ثناء الناس ، كيف نفرق بينهما ؟ .. وكالعجب
والكبر ، والمهابة والوقار ..
إن الأعمال تحتاج إلى شروط صحةٍ من زاوية الأحكام الفقهية التي تتعلق
بالجوارح ، وهذه الشروط موجودة في كتب الفقه ، وتحتاج أعمال الإنسان إلى
شروط صحةٍ أخرى من زاوية قبوله عند الله ، وهذه تتعلق بمعرفة النفس
وأحوالها مع ربها .
فالعمل مطلقاً ، والعمل الصالح بخاصة لا يُقبل عند الله إلا إذا كان خالصاً
وصواباً ؛ خالصاً ما ابتُغي به وجه الله ، وهذا من عمل القلب ، وصواباً ما
وافق السنة ، وهذا من عمل الجوارح ، وكل منهما شرط لازم غير كاف .
القاعدة الأولى : الأصل في الأشياء الإباحة .
إن أول مبدأ قرره الإسلام ، أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو
الحلُّ والإباحة ، ولا حرام إلا ما ورد فيه نص صحيح وصريح بتحريمه ، من
الله في كتابه ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، فإذا لم يكن
النص صحيحاً ، أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة ، بقي الأمر على أصل
الإباحة ، قال تعالى :
وما كان الله سبحانه وتعالى ، ليخلق هذه الأشياء ، ويسخرها للإنسان ،
ويمنََّ عليه بها ، ثم يحرمه منها ، بتحريمها عليه ، كيف وقد خلقها ،
وسخرها له ، وأنعم بها عليه ، والذي حرمه جل جلاله ، جزئيات منها بسبب
وحكمة بالغة ، ومن هنا ضاقت دائرة المحرَّمات في شريعة الإسلام ضيقاً
شديداً ، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً .
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو
، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً .. وتلا قوله
تعالى : " وما كان ربك نسياً " .
[ الحديث حسن أخرجه الحاكم ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار والطبراني في الكبير وأشار إلى حسنه0 ]
إن أصل الإباحة تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة ، ففي
الأشياء والأفعال ، الأصل أنها مباحة ، ولا يُحرم شيئاً منها إلا بنص ، وفي
العبادات الأصل هو الحظر ، ولا تُشَّرع عبادة إلا بنصٍ .
القاعدة الثانية : التحليل والتحريم ؛ من حق الله تعالى وحده .
التحليل والتحريم ، من حق الله تعالى وحده ، وليس من حق أحدٍ من خلقه ،
أياً كانت درجته في دين الله ، أو دنيا الناس ، فمن فعل ذلك من بني البشر ،
فقد تجاوز حدّه ، واعتدى على حق الربوبية في التشريع للخلق ، ومن رضي
بعمله هذا واتبعه فقد جعله شريكاً لله ، وعُدَّ اتباعه هذا شركاً ، قال
تعالى :
*
وكان السلف الصالح ، لا يصف شيئاً بأنه حرام ، مالم يكن في كتاب الله ، أو
في سنة رسوله ، بيناً بلا تفسير ، وكانوا لا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم
تحريمه بالضرورة قطعاً يقيناً ، وكان أحمد ابن حنبل يقول حين يُسأل : "
أكرهه ، لا يُعجبني ، لا أحبه ، لا أستحسنه " .
القاعدة الثالثة : تحليل الحرام ، وتحريم الحلال من أكبر الكبائر .
تحليل الحرام ، وتحريم الحلال يقترن بالشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام ،
فيما يرويه عن ربه : " إني خلقت عبادي حُنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين ،
فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرَتهم أن يشركوا بي ما
لم أنزل به سلطاناً "
[ أخرجه مسلم في صحيحه 8 - 151 ، وأحمد في مسنده 4-162 من حديث عياض بن صحار المجاشعي]
، وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم نزعة التنطع والتشدد ، من دون موجب ، وذمها ، وأخبر بهلاك أصحابها ، فقال عليه الصلاة والسلام :
" ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون
[ أخرجه مسلم في صحيحه ( 6 /58 ) ورواه أبو داود (3992 ) وأحمد (3473) واللفظ لأبي داود وهو صحيح ]
والتحريم يستطيعه كل إنسان ، حتى الجاهل ، لكن العلماء المتمكنين العاملين
بعلمهم ، المخلصين في عملهم ، هم الذين يبينون للناس ما هو حلال وما هو
حرام ، بالدليل والتعليل ، فالتبليغ مهمة الأنبياء والرسل ، والتبيين مهمة
العلماء من بعدهم .
القاعدة الرابعة : الحلال طيب ، والحرام خبيث .
من حق الله تعالى ، لكونه خالقاً ومربياً ومسيراً ، ومنعماً على خلقه بنعمة
الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، من حقه أن يُحل لهم ،
وأن يُحرّم عليهم ما يشاء ، كما له أن يتعبدهم بالتكاليف والشعائر بما يشاء
، فهو حق ربوبيته لهم ، ومقتضى عبوديتهم له ؛ ولكنه تعالى ، رحمة منه
بعباده ، جعل التحليل والتحريم ، لأسباب معقولة ، راجعةٍ لمصلحة البشر
أنفسهم ، فلم يحل سبحانه إلا طيباً ، ولم يحرم إلا خبيثاً ، قال تعالى :
يُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ
والطيبات هي الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة المتوازنة، ويستحسنها
مجموع الناس ، ذوي الفطر السليمة ، استحساناً غير ناشئ عن أثر العادة ،
فالعلاقة بين الحلال ونتائجه علاقة علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة ، والعلاقة
بين الحرام ونتائجة علاقة عليمة ، أي علاقة سبب بنتيجة .
القاعدة الخامسة : في الحلال ما يُغني عن الحرام .
من محاسن الشريعة الإسلامية ، أنها لم تُحرم شيئاً إلا عوضت خيراً منه ،
مما يسد مسده ، ويغني عنه ، فالله تعالى ، لم يضيق على عباده من جانب ، إلا
وسَّع عليهم من جانب آخر ، من جنسه ، فإنه سبحانه وتعالى ، لا يُريد
بعباده عنتاً ، ولا إرهاقاً ، بل يُريد بهم اليُسرَ والخير والهداية
والرحمة ، قال أحد العلماء : حرم الله عباده ، الاستقسام بالأزلام ، وعوضهم
عنه دعاء الاستخارة ، حرم عليهم الربا ، وعوضهم التجارة الرابحة ، حرم
عليهم القمار ، وأعاضهم عنه المسابقة في الدين ، حرم عليهم الحرير ،
وأعاضهم عنه الملابس الفاخرة ، حرم عليهم الزنا ، وأعاضهم عنه الزواج
الحلال ، حرم عليهم شرب المسكرات ، وأعاضهم عنها بالأشربة اللذيذة ، حرم
عليهم الخبائث من المطعومات ، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات .
ليس في الدين حرمان ، كما يتوهم الجهلة ، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان ،
جعل لها قناةً نظيفةً تتحرك من خلالها ، وكل حاجة ، ألجأ الله إليها عباده
، جعل لهم ، أكثر من سبب لتحقيقها ، فالحلال يُغني عن الحرام ، أيما غناء .
القاعدة السادسة : ما أدى إلى حرام فهو حرام .
ومن المبادئ التي قررها الإسلام ، أنه إذا حرَّم شيئاً حرم ما يُفضي إليه
من وسائل ، وسد الذرائع الموصلة إليه ، فإذا حرَّم الزنا ، حرم كل مقدماته
ودواعيه ، من تبرج جاهلي ، وخلوة آثمة ، واختلاط عابث ، وصور فاضحة ، وأدب
مكشوف ، وغناء فاحش فما أدى إلى حرام فهو حرام .
وقرر أيضاً أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده ، بل تتسع
الدائرة لتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي ، كل يناله من الإثم على
قدر مشاركته ، ففي الخمر لعن معها عشرة شاربها ، وعاصرها وحاملها ،
والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها 000
القاعدة السابعة : التحايل على الحرام حرام .
وكما حرَّم الإسلام ، كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة ، حرم أيضاً
التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية ، والحيل الشيطانية ، ومن الحيل
الآثمة تسمية الشيء الحرام بغير اسمه ، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته ، ولا
ريب أنه لا عبرةَ بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ، ولا بتغيير الصورة إذا
بقيت الحقيقة ، فمن باع سلعةً ديناً لستة أشهر بمئة ، ثم اشتراها نقداً
بثمانين ، وادعى أن هذا بيع وشراء ، نجيبه : بأنه لا عبرة لصورة البيع
والشراء ، إنه أقرض ثمانين ليستردها مئة ، وهذا هو الربا بعينه .
القاعدة الثامنة : النية الحسنة ، لا تبرر الحرام .
الإسلام يقدر الباعث الكريم ، والقصد الشريف ، والنية الطيبة ، في تشريعاته ، وتوجيهاته كلها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
" إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل مرئ ما نوى " .
[وراه البخاري برقم 1 ، وأبو داود برق1882، وابن ماجه برقم 4217]
وبالنية الطيبة ، تصبح المباحات والعادات ، طاعات وعبادات ، فمن تناول
غذاءه بنية حفظ الحياة ، وتقوية الجسد على طاعة الله ، وأداء واجبه نحو ربه
وأمته ، كان طعامه وشرابه عبادة وقربة ، قال عليه الصلاة والسلام : " 000
وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له
فيها أجر ؟ قال : أليس إن وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ فكذلك إن وضعها في
حلال كان له أجر "
[هو جزء من حديث طويل أوله : ذهب أهل الدثور بالأجور000 أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد ]
وهكذا كل عمل مباح ، يقوم به المؤمن ، يدخل فيه عنصر النية ، فتحيله إلى عبادة .
أما الحرام فشيء آخر .. الحرام هو حرام ، مهما حسنت نية فاعله ، وشرف قصده ،
ومهما كان هدفه نبيلاً ، لا يرضى الإسلام أبداً أن يُتخذ الحرام وسيلةً
إلى غاية محمودة ، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية ، وطهر الوسيلة معاً ،
ولا تقر شريعة الإسلام بحال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، أو مبدأ الوصول إلى
الحق بالخوض في كثير من الباطل ، بل توجب شريعة الإسلام ، الوصول إلى الحق
عن طريق الحق وحده ، فمن جمع مالاً من ربا ، أو سحت ، أو لهوٍ حرام ،
ليبني مسجداً ، أو يُقيم مشروعاً خيرياً ، لم يشفع له نبل قصده ، لأن
الحرام في الإسلام ، لا تؤثر فيه المقاصد والنيات ، فالله طيب ولا يقبل إلا
طيباً .
القاعدة التاسعة : اتقاء الشبهات أولى .
من رحمة الله تعالى بالناس ، أنه لم يذرهم في ظلمة من أمر الحلال والحرام ، لقد بيَّن الحلال ، وفصل الحرام ، قال تعالى :
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله ، وأما الحرام البين فلا رخصة في اتباعه
، وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين ، هي منطقة الشبهات ، التي
يلتبس بها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس ، لا على جميعهم ، إما لاشتباهٍ
في الأدلة عليه ، أو لاشتباه في تطبيق النص على الواقعة ، وقد جعل الإسلام
من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات ، حتى لا يجرّه الوقوع فيها إلى
مواقعة الحرام الصرف ، قال عليه الصلاة والسلام :
" الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يدري كثير من
الناس ، أمن الحلال هي أم من الحرام ، فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه ،
فقد سلم ، ومن واقع شيئاً منها يوشك أن يُواقع الحرام " .
[رواه البخاري برقم 50 ، ومسلم برقم 2996 ، والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي ]
يتبع ....."
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلال والحرام في الإسلام
موضوع الحلال والحرام ، هو قوام الإسلام ، ودليل الإيمان ، وميزان الصدق
عند الواحد الديان ، فلا إيمان بلا عمل ، ولا عمل إلا على مقتضى الأمر
والنهي ، ولا التزام بأمر آمر ، ولا نهي ناهٍ إلا عن حب ، والحب دون اتباع
كذب ونفاق ، ومن هنا كانت خطورة موضوع الحلال والحرام في الإسلام ، الذي هو
شريعة خاتمة ، لبناء حضارة أمة ، هي خير أمةٍ أخرجت للناس ، لقد كانت جميع
الرسالات السابقة تدريباً للبشرية على تقبل تلك الشريعة الخاتمة ،
وتمهيداً لاكتمال الوعي في تلك الأمة المختارة ، فما من أمة عدلت عن تشريع
الله إلا أخذت بالدمار والهلاك ، وما من فرد ، أهمل الأمر والنهي ، إلا
اختل قوامه ، واضطرب حاله ، قال تعالى :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاسْلامَ دِينًا
الشريعة رحمة كلها ، عدل كلها ، مصلحة كلها ، حكمة كلها ، إنها تعليمات الصانع الخبير ، " ولا ينبئك مثل خبير " .
لقد أراد الإسلام بناء شخصية المسلم ، متميزةً عن الشخصيات الأخرى ، من
خلال الحلال والحرام ، وقد اتجه الإسلام بأهله إلى بناء مجتمع الجسد الواحد
، والأخوة الإسلامية الصادقة التي تنتهي إلى الأخوة الإنسانية ، على هدى
الحلال والحرام ، لقد احترم الإسلام الإنسان ، وأعلى قدره حينما نظر إلى
الاقتصاد من خلال الإنسان كرامةً وكفايةً وأمناً ، لا من خلال قهره
واستغلاله ، فكان الحلال والحرام صوناً لكرامة الإنسان ، فشرائع الإسلام
صالحةٌ لاستيعاب كل المعاملات والقضايا العصرية ، لتضعها في مكانها من
الحلال والحرام .
الحلال والحرام يتصل بأعمال القلوب ، كما يتصل بأعمال الجوارح ، والصحابة
الكرام على جلالة قدرهم ، وعمق إيمانهم ، وقربهم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم كانوا أحرص الناس على رعاية أعمال القلوب ، حرصهم على رعاية
أعمال الجوارح ، إن الإنسان لا يتحرك في أعماله سواءً أكانت فعلاً أو تركاً
، حركةً آليةً بلا دافع قلبي ، يدفعه إلى العمل ، وإلا كان جماداً لا روح
فيه ، هذا الدافع القلبي هو الإرادة والنية ، وقد يدخله كثير من ألوان
الخداع النفسي ، حتى يتحول عمل الطاعة إلى إثم ، ويتحول ترك الحرام إلى
حرام .
إن أعمال القلوب دقيقة المأخذ ، تتقارب فيها حدود الحلال والحرام تقارباً
لا يمكن التمييز بينها ، إلا بعد تأملٍ دقيق ، على هدى من علم شامل ، وفقه
عميق ، كالنفاق المحرم ، والمباهاة المباحة ، كيف نميز بينهما ؟ .. وكالخوف
من الله ، واليأس من رحمته .. كيف نفرق بينهما ؟ .. وكرجاء رحمته ،
والغِرة به ، كإضمار ما يجب ستره ، بنية الدعوة إلى العمل بالقدوة ، ونية
الإعجاب بالعمل والرغبة في ثناء الناس ، كيف نفرق بينهما ؟ .. وكالعجب
والكبر ، والمهابة والوقار ..
إن الأعمال تحتاج إلى شروط صحةٍ من زاوية الأحكام الفقهية التي تتعلق
بالجوارح ، وهذه الشروط موجودة في كتب الفقه ، وتحتاج أعمال الإنسان إلى
شروط صحةٍ أخرى من زاوية قبوله عند الله ، وهذه تتعلق بمعرفة النفس
وأحوالها مع ربها .
فالعمل مطلقاً ، والعمل الصالح بخاصة لا يُقبل عند الله إلا إذا كان خالصاً
وصواباً ؛ خالصاً ما ابتُغي به وجه الله ، وهذا من عمل القلب ، وصواباً ما
وافق السنة ، وهذا من عمل الجوارح ، وكل منهما شرط لازم غير كاف .
القاعدة الأولى : الأصل في الأشياء الإباحة .
إن أول مبدأ قرره الإسلام ، أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع هو
الحلُّ والإباحة ، ولا حرام إلا ما ورد فيه نص صحيح وصريح بتحريمه ، من
الله في كتابه ، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، فإذا لم يكن
النص صحيحاً ، أو لم يكن صريحاً في الدلالة على الحرمة ، بقي الأمر على أصل
الإباحة ، قال تعالى :
وما كان الله سبحانه وتعالى ، ليخلق هذه الأشياء ، ويسخرها للإنسان ،
ويمنََّ عليه بها ، ثم يحرمه منها ، بتحريمها عليه ، كيف وقد خلقها ،
وسخرها له ، وأنعم بها عليه ، والذي حرمه جل جلاله ، جزئيات منها بسبب
وحكمة بالغة ، ومن هنا ضاقت دائرة المحرَّمات في شريعة الإسلام ضيقاً
شديداً ، واتسعت دائرة الحلال اتساعاً بالغاً .
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو
، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً .. وتلا قوله
تعالى : " وما كان ربك نسياً " .
[ الحديث حسن أخرجه الحاكم ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى البزار والطبراني في الكبير وأشار إلى حسنه0 ]
إن أصل الإباحة تشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة ، ففي
الأشياء والأفعال ، الأصل أنها مباحة ، ولا يُحرم شيئاً منها إلا بنص ، وفي
العبادات الأصل هو الحظر ، ولا تُشَّرع عبادة إلا بنصٍ .
القاعدة الثانية : التحليل والتحريم ؛ من حق الله تعالى وحده .
التحليل والتحريم ، من حق الله تعالى وحده ، وليس من حق أحدٍ من خلقه ،
أياً كانت درجته في دين الله ، أو دنيا الناس ، فمن فعل ذلك من بني البشر ،
فقد تجاوز حدّه ، واعتدى على حق الربوبية في التشريع للخلق ، ومن رضي
بعمله هذا واتبعه فقد جعله شريكاً لله ، وعُدَّ اتباعه هذا شركاً ، قال
تعالى :
*
وكان السلف الصالح ، لا يصف شيئاً بأنه حرام ، مالم يكن في كتاب الله ، أو
في سنة رسوله ، بيناً بلا تفسير ، وكانوا لا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم
تحريمه بالضرورة قطعاً يقيناً ، وكان أحمد ابن حنبل يقول حين يُسأل : "
أكرهه ، لا يُعجبني ، لا أحبه ، لا أستحسنه " .
القاعدة الثالثة : تحليل الحرام ، وتحريم الحلال من أكبر الكبائر .
تحليل الحرام ، وتحريم الحلال يقترن بالشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام ،
فيما يرويه عن ربه : " إني خلقت عبادي حُنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين ،
فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرَتهم أن يشركوا بي ما
لم أنزل به سلطاناً "
[ أخرجه مسلم في صحيحه 8 - 151 ، وأحمد في مسنده 4-162 من حديث عياض بن صحار المجاشعي]
، وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلم نزعة التنطع والتشدد ، من دون موجب ، وذمها ، وأخبر بهلاك أصحابها ، فقال عليه الصلاة والسلام :
" ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون
[ أخرجه مسلم في صحيحه ( 6 /58 ) ورواه أبو داود (3992 ) وأحمد (3473) واللفظ لأبي داود وهو صحيح ]
والتحريم يستطيعه كل إنسان ، حتى الجاهل ، لكن العلماء المتمكنين العاملين
بعلمهم ، المخلصين في عملهم ، هم الذين يبينون للناس ما هو حلال وما هو
حرام ، بالدليل والتعليل ، فالتبليغ مهمة الأنبياء والرسل ، والتبيين مهمة
العلماء من بعدهم .
القاعدة الرابعة : الحلال طيب ، والحرام خبيث .
من حق الله تعالى ، لكونه خالقاً ومربياً ومسيراً ، ومنعماً على خلقه بنعمة
الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، من حقه أن يُحل لهم ،
وأن يُحرّم عليهم ما يشاء ، كما له أن يتعبدهم بالتكاليف والشعائر بما يشاء
، فهو حق ربوبيته لهم ، ومقتضى عبوديتهم له ؛ ولكنه تعالى ، رحمة منه
بعباده ، جعل التحليل والتحريم ، لأسباب معقولة ، راجعةٍ لمصلحة البشر
أنفسهم ، فلم يحل سبحانه إلا طيباً ، ولم يحرم إلا خبيثاً ، قال تعالى :
يُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ
والطيبات هي الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة المتوازنة، ويستحسنها
مجموع الناس ، ذوي الفطر السليمة ، استحساناً غير ناشئ عن أثر العادة ،
فالعلاقة بين الحلال ونتائجه علاقة علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة ، والعلاقة
بين الحرام ونتائجة علاقة عليمة ، أي علاقة سبب بنتيجة .
القاعدة الخامسة : في الحلال ما يُغني عن الحرام .
من محاسن الشريعة الإسلامية ، أنها لم تُحرم شيئاً إلا عوضت خيراً منه ،
مما يسد مسده ، ويغني عنه ، فالله تعالى ، لم يضيق على عباده من جانب ، إلا
وسَّع عليهم من جانب آخر ، من جنسه ، فإنه سبحانه وتعالى ، لا يُريد
بعباده عنتاً ، ولا إرهاقاً ، بل يُريد بهم اليُسرَ والخير والهداية
والرحمة ، قال أحد العلماء : حرم الله عباده ، الاستقسام بالأزلام ، وعوضهم
عنه دعاء الاستخارة ، حرم عليهم الربا ، وعوضهم التجارة الرابحة ، حرم
عليهم القمار ، وأعاضهم عنه المسابقة في الدين ، حرم عليهم الحرير ،
وأعاضهم عنه الملابس الفاخرة ، حرم عليهم الزنا ، وأعاضهم عنه الزواج
الحلال ، حرم عليهم شرب المسكرات ، وأعاضهم عنها بالأشربة اللذيذة ، حرم
عليهم الخبائث من المطعومات ، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات .
ليس في الدين حرمان ، كما يتوهم الجهلة ، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان ،
جعل لها قناةً نظيفةً تتحرك من خلالها ، وكل حاجة ، ألجأ الله إليها عباده
، جعل لهم ، أكثر من سبب لتحقيقها ، فالحلال يُغني عن الحرام ، أيما غناء .
القاعدة السادسة : ما أدى إلى حرام فهو حرام .
ومن المبادئ التي قررها الإسلام ، أنه إذا حرَّم شيئاً حرم ما يُفضي إليه
من وسائل ، وسد الذرائع الموصلة إليه ، فإذا حرَّم الزنا ، حرم كل مقدماته
ودواعيه ، من تبرج جاهلي ، وخلوة آثمة ، واختلاط عابث ، وصور فاضحة ، وأدب
مكشوف ، وغناء فاحش فما أدى إلى حرام فهو حرام .
وقرر أيضاً أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده ، بل تتسع
الدائرة لتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي ، كل يناله من الإثم على
قدر مشاركته ، ففي الخمر لعن معها عشرة شاربها ، وعاصرها وحاملها ،
والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها 000
القاعدة السابعة : التحايل على الحرام حرام .
وكما حرَّم الإسلام ، كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة ، حرم أيضاً
التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية ، والحيل الشيطانية ، ومن الحيل
الآثمة تسمية الشيء الحرام بغير اسمه ، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته ، ولا
ريب أنه لا عبرةَ بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ، ولا بتغيير الصورة إذا
بقيت الحقيقة ، فمن باع سلعةً ديناً لستة أشهر بمئة ، ثم اشتراها نقداً
بثمانين ، وادعى أن هذا بيع وشراء ، نجيبه : بأنه لا عبرة لصورة البيع
والشراء ، إنه أقرض ثمانين ليستردها مئة ، وهذا هو الربا بعينه .
القاعدة الثامنة : النية الحسنة ، لا تبرر الحرام .
الإسلام يقدر الباعث الكريم ، والقصد الشريف ، والنية الطيبة ، في تشريعاته ، وتوجيهاته كلها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
" إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل مرئ ما نوى " .
[وراه البخاري برقم 1 ، وأبو داود برق1882، وابن ماجه برقم 4217]
وبالنية الطيبة ، تصبح المباحات والعادات ، طاعات وعبادات ، فمن تناول
غذاءه بنية حفظ الحياة ، وتقوية الجسد على طاعة الله ، وأداء واجبه نحو ربه
وأمته ، كان طعامه وشرابه عبادة وقربة ، قال عليه الصلاة والسلام : " 000
وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له
فيها أجر ؟ قال : أليس إن وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ فكذلك إن وضعها في
حلال كان له أجر "
[هو جزء من حديث طويل أوله : ذهب أهل الدثور بالأجور000 أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد ]
وهكذا كل عمل مباح ، يقوم به المؤمن ، يدخل فيه عنصر النية ، فتحيله إلى عبادة .
أما الحرام فشيء آخر .. الحرام هو حرام ، مهما حسنت نية فاعله ، وشرف قصده ،
ومهما كان هدفه نبيلاً ، لا يرضى الإسلام أبداً أن يُتخذ الحرام وسيلةً
إلى غاية محمودة ، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية ، وطهر الوسيلة معاً ،
ولا تقر شريعة الإسلام بحال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ، أو مبدأ الوصول إلى
الحق بالخوض في كثير من الباطل ، بل توجب شريعة الإسلام ، الوصول إلى الحق
عن طريق الحق وحده ، فمن جمع مالاً من ربا ، أو سحت ، أو لهوٍ حرام ،
ليبني مسجداً ، أو يُقيم مشروعاً خيرياً ، لم يشفع له نبل قصده ، لأن
الحرام في الإسلام ، لا تؤثر فيه المقاصد والنيات ، فالله طيب ولا يقبل إلا
طيباً .
القاعدة التاسعة : اتقاء الشبهات أولى .
من رحمة الله تعالى بالناس ، أنه لم يذرهم في ظلمة من أمر الحلال والحرام ، لقد بيَّن الحلال ، وفصل الحرام ، قال تعالى :
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله ، وأما الحرام البين فلا رخصة في اتباعه
، وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين ، هي منطقة الشبهات ، التي
يلتبس بها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس ، لا على جميعهم ، إما لاشتباهٍ
في الأدلة عليه ، أو لاشتباه في تطبيق النص على الواقعة ، وقد جعل الإسلام
من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات ، حتى لا يجرّه الوقوع فيها إلى
مواقعة الحرام الصرف ، قال عليه الصلاة والسلام :
" الحلال بيِّن والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يدري كثير من
الناس ، أمن الحلال هي أم من الحرام ، فمن تركها استبراءً لدينه وعرضه ،
فقد سلم ، ومن واقع شيئاً منها يوشك أن يُواقع الحرام " .
[رواه البخاري برقم 50 ، ومسلم برقم 2996 ، والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي ]
يتبع ....."