الفقه والتجديد
الفقه والتجديد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد: فهذا بحث عن الفقه والتجديد، حاولت فيه أن أشير إلى معالم هذا
الموضوع باعتباره من أهم الموضوعات التي تشغل بال الفقيه المسلم في هذا
العصر، ولقد انقسم الناس حيال هذا الموضوع إلى طرفين ووسط، قسم رأى البقاء
على القديم، واستراب من كل جديد وتجديد، وقسم فتح الباب على مصراعيه لكل
تجديد حتى وإن كان في الثوابت والأصول، وقسم رزقه الله أصابة الوسط فأصاب
الحق وقبل التجديد بالضوابط الشرعية، وسدَّ الباب على التفريط والإفراط.
وأنا أعلم أن الكتابات في هذا المجال كثيرة، ولكن أحببت أن أسهم في إيضاح
المعالم البارزة لهذه القضية التي ربما تتناثر أجزاؤها في كتب وأبحاث
متفرقة، بالإضافة إلى التنبيه على قضايا تهم الفقيه المتصدي للتجديد.
وقد كانت خطة هذا البحث على النحو التالي:
التمهيد : ويشتمل على المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة، وتشمل (1) الربانية (2) الوسطية والاعتدال (3) الشمول (4) الثبات والمرونة.
المطلب الرابع : عدم منافاة التجديد للأصالة.
المبحث الأول:مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
(1)تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش.
(2)مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة وتمحيص.
(3)إيجاد الحلول الشرعية للمستجدات والنوازل.
(4)تقريب الفقه للناس وتيسيره.
المبحث الثانيمبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1)التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة.
(2)سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة.
(3)الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي هؤلاء المنبهرين للحديث عن القضايا الشرعية.
(4)الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي.
المبحث الثالث صفات المجدد:
(1) العلم . (2) العدل. (3) الاعتدال (4) القدوة.
المبحث الرابع :مزالق التجديد. وهي:
(1)المصلحة المتوهمة.
(2)مسايرة الواقع بعجره وبجره.
(3)الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
(4)الاجتهاد في موارد النص.
(5)مسايرة الهوى .
(6)عدم فهم الواقع .
(7)تقليد الفكر الغربي.
المبحث الخامس:تنبيهات:
المصادر والمراجع:
وفي ختام هذه المقدمة، أسأل الله التوفيق والسداد، وأن يجعل عملنا خالصاً وصواباً، إنه على كل شيء قدير
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً
·تعريف الفقه لغة: مطلق الفهم قال تعالى: (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ)(1) وقال: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)(2)
·والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام العملية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
وعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية، إذ هو العلم الذي تعرف به الأحكام من
الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح، وتشتدّ إليه الحاجة في كل عصر
وأوان، وقد يسع الرجل جهل تفسير آية، ويند عنه معرفة درجة حديث، أو حال
راو، ولكن لا يسعه الجهل بالأحكام الشرعية المتعلقة بصحة طهارته أو صلاته
أو صومه. وقديما قال بعضهم:
إذا مـــــا اعتزَّ ذو علم بعلم
فعلم الفـــقه أولى باعتزاز
فكم طيب يفوح ولا كمسك
وكم طيــــر يطير ولا كباز
ولقد مكث النبي – صلى الله عليه وسلم – بين ظهراني الصحابة، يفتيهم، ويجيب
على أسئلتهم، وكان القرآن يتنـزل على النبي – صلى الله عليه وسلم –
والصحابة يتعلمون ويتفقهون من الكتاب والسنة، ولما قبض النبي – صلى الله
عليه وسلم – حمل راية الفقه أصحابه، وكان بعضهم أفقه من بعض، فكان عمر –
رضي الله عنه – من المجلين في هذا الشأن، وغيره كثير، ثم حمل الراية
التابعون ثم تابعو التابعين، حتى أوصلوها إلى الفقهاء الأربعة (أبو حنيفة،
ومالك، والشافعي، وأحمد) وقد أسس هؤلاء المذاهب التي حملت أسماءهم، وتعمقت
هذه المذاهب وأصِّل لها، ثم طرأ نوع من التعصب والجمود، وتمحور كثير من
الفقهاء حول نصوص أئمتهم لا يجاوزونها، ثم يسَّر الله انتعاش الفقه مرة
أخرى في هذا العصر، فقامت جهود خيرة مباركة، وأسهم ثلة من الفقهاء في إبراز
الفقه في ثوب قشيب، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوالت في هذا العصر
دعوات إصلاحية، وهيئات، ومجامع فقهية، تباينت في إسهامها، ولكنها في الجملة
قد دفعت حركة الفقه قدماً، وتصدّت هذه الجهود لنوازل المجتمع وقضاياه.
المطلب الثاني : تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
* التجديد لغة: جعل الشيء جديداً، ومنه: جدد وضوءه، وجدد عهده: يعني أعاده وكرره والجديد نقيض الخلق(3).
* وتجديد الفقه يقصد به إعادة نضارته وبهائه وإحياء ما اندرس من معالمه،
والعمل على نشره بين الناس، ويشمل التجديد كذلك: التصدي للمستجدات التي
تظهر في كل عصر؛ لبيان الحكم الصحيح لهذه المستجدات.(4)
* والتجديد بهذا المعنى يعني أن التجديد يكون على اضمحلال لشأنه، ولا يعني
التجديد نبذ شيء منه أو اختراع فقه جديد فذلك في الحقيقة تحريف ومسخ.
* التجديد سنة ماضية:
إن التجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وتتلاءم مع ما هو معلوم من أن
الله قد ختم الأنبياء بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فالعلماء الذين يجددون
لهذه الأمة دينها هم نواب له ووراث لهديه – صلى الله عليه وسلم -، فهم
يحيون ما اندرس من الدين في نفوس الناس.
الكلام عن حديث التجديد:
نص الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر
دينها) والحديث صحيح، حيث صححه جمع من أهل العلم قديماً وحديثاً(5)،بل نقل
السيوطي في رسالته (التنبيه فيمن يبعثه الله على رأس المئة) إجماع العلماء
على تصحيحه(6).
وفي الحديث بشارة وعد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة أنها لا تخلو من المجددين، فهو وعد إلهي لا يتخلف.
ويتضمن الحديث كذلك جانباً شرعياً مهماً وهو الطلب من الأمة، وخاصة
القادرين من أهل العلم والإيمان أن يؤدوا الدور المنوط بهم، فيكون التجديد
على أيديهم، فالمجدد لا يهبط من السماء.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة:
للفقه الإسلامي - وإن شئت قلت للشريعة - خصائص، نكتفي بذكر ما يقتضيه المقام:
(1) الربانية: فهي:
أ. ربانية المصدر فمصدرها إلهي.
ب. وربانية الوجهة. وهذه الخصيصة تدل على خصائص أخرى منها: الكمال والعدل
المطلق (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً).
كما أنها تحظى بالقبول والاحترام من قبل المؤمنين بها بما لا يحظى قانون أو نظام، وإن كانت المقارنة هنا غير واردة:
ألـــــم تــــر أن السيف ينقص قدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
كما أن الإنسان المعتنق لهذه الشريعة يراقب ربه في كل صغيرة وكبيرة، بل
لابد أن تقابل أحكامها بالرضا والتسليم(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)
[النساء: 65].
(2) الوسطية والاعتدال والموازنة: ففيها توازن بين الروح والجسد، وموازنة
بين مصلحة الفرد والجماعة، وموازنة واعتدال في النظر إلى حقوق الرجل
والمرأة بين النظرة الجاهلية في احتقار المرأة وظلمها وبين الجاهلية
المعاصرة في إخراجها عن حدود ما خلق الله لها، وهذا التوازن لا يلغي ترتيب
الأولويات فهناك الواجب والأوجب وهناك المهم والأهم.
(3) الشمول:
أ. لمصالح الدنيا والآخرة.
ب. لجوانب الحياة المختلفة (من آداب الأكل والشرب إلى بناء الدولة).
ج. لمراحل حياة الإنسان كلها (طفلاً وكهلاً).
د. شمولها لكل البشر – النـزعة العالمية – (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
هـ. شمولها لكل زمان ومكان.
(4) الثبات والمرونة: الثبات في الأصول والأهداف والقطعيات، والمرونة في
الفروع والوسائل والظنيات، ومساحة المرونة مساحة واسعة وهي منطقة مفتوحة
للاجتهاد البشري في مجال التشريع الإسلامي(7).
ولقد كان هذا الفقه أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله
طيلة ثلاثة عشر قرناً، تبدَّلت فيها النظم وتغيّرت الأوضاع والأحوال، فلم
يضق صدره بمشكلة ولم يقف عند نازلة، بل كان لديه لكل حادثة حديث، ولكل
واقعة حكم، ولكل مشكلة علاج فالفقه الإسلامي يمتاز بقواعده الدقيقة وأصوله
المقننة المتقنة التي تضبط طرائق الاستنباط، وهو ما يعرف بعلم (أصول الفقه)
الذي عرف لدى علماء المسلمين في فترة مبكرة على يد الإمام الشافعي، ويمتاز
الفقه كذلك بقدرته على التجديد والنماء، فهو علم خصب، مرن، استوعب شتى
البيئات والأوطان - رغم تباينها - ومن البدو إلى الحضر، فلم يضق بها ذرعاً،
بل سبكها ضمن منظمته، وقضى بالعدل، وقال كلمة الفصل.
كثرة الأقوال والاختلافات ثروة فقهية:
وهي نعمة لا نقمة وهي دليل على مرونة الشريعة، وتسامح الأئمة وقد نقل عنهم
في هذا الباب كلاماً عظيماً ولم يكونوا - رحمهم الله -يرون بذلك بأساً
وكثيراً ما يكون الاختلاف داخل المذهب نفسه كما سجله المرداوي في كتابه
(الإنصاف) والنووي في (روضة الطالبين) وربما كان اختلافهم لا بسبب الحجة
والبرهان بل بسبب العصر والزمان، كما قيل عن خلاف أبي يوسف ومحمد بن الحسن
الشيباني لأبي حنيفة.
وفقه مذهب واحد يضيق عن الوفاء بحاجات الناس فتجد في بعض المذاهب من السعة
واليسر وسداد الرأي ما لا يوجد في بقية المذاهب، ومن الأمثلة على هذا:
المذهب الحنبلي في العقود فهو من أيسر المذاهب في ذلك.
المطلب الرابع: عدم منافاة التجديد للأصالة.
التجديد في الفقه لا ينافي الأصالة، كلا، بل يتناغم معها، إذا حدد المفهوم
الصحيح للأصالة، فليست الأصالة هي الانكفاء على كل قديم ورفض كل جديد، فذلك
قتل للإبداع وإغلاق لباب الاجتهاد، بل الأصالة هي تلك الممارسة الواعية
التي تعني الاستمساك بالثوابت وتعنى بالتجديد في المتغيرات بحسب الحاجة،
على أن يكون ذلك ضمن المفاهيم والمضامين الشرعية، وأن يكون دافع التجديد هو
الرغبة في التحسين لا مجرد التقليد
كما أن التجديد ليس هو السخرية بكل قديم وفتح الأبواب أمام كل جديد، بزعم
أن الجديد لا يمثل إلا التطور والرقي والقديم لا يمثل إلا التخلف والجمود،
يقول شكيب أرسلان في الرد على دعاة نسف التراث:
كــــــــم من قديم لا يزال رواؤه
مـتألقاً يحكي الصباح المسفرا
مـــــهما تـقادم جوهر في عنقه
فـهو الثمين وليس يبرح جوهرا(8)
المبحث الأول: مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
1- تنـزيل الحكم الشرعي الصحيح على الواقع المعاش.
2- مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة فهو ثروة فقهية عظيمة لا يمكن
الاستغناء عنها، وفيها من السعة والدقة ما لا يخفى، وربما احتاج هذا بعض
هذا التراث إلى مراجعة تمحيص لما يحتاج إلى تمحيص ومراجعة ومن الأمثلة على
ذلك.
(أ) مراجعة الأحاديث التي استدل بها الفقهاء وبنوا عليها كثيراً من
أحكامهم، وهي أحاديث غير صحيحة كحديث (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا
وهكذا...)(9).
(ب) التثبت من مسائل الإجماع التي حكاها بعض الفقهاء، فلو صح الإجماع لما
جازت مخالفته ولكن يتسامح بعض الفقهاء في نقله، وهو غير صحيح، وبالتالي فلا
يترتب عليه المنع من الاجتهاد في المسألة التي لم يثبت فيها الإجماع.
(ج) المعلومات المتوافرة في هذا العصر والتي لها دور في تمحيص كلام
الفقهاء، إذا كانت هذه المعلومات قد وصلت إلى درجة الحقائق لا النظريات،
مثال ذلك: أقصى مدة الحمل. فقد ذكر بعض الفقهاء أن أقصى مدة الحمل: سنتان،
وقال بعضهم: أربع، وقال البعض، خمس، وسبع. ومن المعلوم الآن طبياً أن الحمل
لا يكون أكثر من سنة، وما ذكر من المدة الطويلة (سنتان، أربع، خمس ...)
فهو حالة معروفة طبياً بالحمل الكاذب. وتظهر فيه كل أعراض الحمل من انتفاخ
البطن، والشعور بالغثيان والقيء وتقلص عضلات البطن ونحوها بما يشبه حركة
الجنين في البطن، وتظهر هذه الحالات كثيراً عند الرغبة العارمة للحمل، وحين
يكشف عليها الطبيب بالوسائل الحديثة من التحليل والأشعة يجزم الطبيب بأنها
غير حامل. ومن الطريف أن هذا المرأة قد تستمر معها هذه الحالة ثم يشاء
المولى -جل وعلا- أن تحمل حملاً صادقاً في نهاية المدة فتظنه امتداداً
للحمل الكاذب وتحسب المدة كلها على هذا الحمل، وتلد بعد سنتين أو ثلاث،
فيصدق الناس هذه الدعوى(10).
3- إيجاد الحلول (الأحكام) الشرعية المناسبة للمستجدات والنوازل، ومن أبرز
المجالات التي تبرز فيها النوازل مجال المعاملات والاقتصاد كقضايا الشركات
والأسهم والتأمين والبنوك وبعضها شبيه بالقديم أو قريب منه وبعضها جديد
تماماً ولا نظير له، فهل الحل هو في (أ) الجمود (ب) أو القبول بكل ما
استجدّ.
(ج) أو البحث من خلال الثروة الفقهية التي ورثناها عن أسلافنا، فإن لم نجد
اجتهد المجتهد في ضوء القواعد الشرعية العامة. الصحيح أنه لا يسع الفقيه
إلا الأمر الأخير.والمجال الآخر الذي تكثر فيه النوازل: المجال الطبي، فقد
وضع العلم الحديث بين يدي المسلم مجموعة كبيرة من النوازل، تدخل أحياناً في
تفصيلات الحياة اليومية، وتثور أسئلة وافرة في ذهن الطبيب المسلم عن الحكم
الشرعي لها كقضايا زرع الأعضاء، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، وأبحاث
العقم، والوفاة الدماغية .... الخ. خاصة وأن هذا التقدم العلمي قد نشأ في
مجتمع غير مسلم وله أعراف غير أعرافنا، فهو شبيه بشعب بوان الذي قال فيه
المتنبي:
ولكـــــن الفتى الــعربي فيها
غريب الوجـــــه واليد واللسان(11)
(4) تقريب الفقه للناس وتيسيره، وكتابته بأسلوب يناسب العصر، مع استخدام الوسائل المتاحة في هذا العصر وذلك يتم بأمور منها:
أ. استخدام اللغة الميسرة البسيطة التي يفهمها غير المتخصص لأنه يحال
أحياناً بين الناس وبين كتب الفقه بسبب وعورة المصطلحات التي تشكل على غير
المتخصص، ومن حق الناس أن يقرب لهم الفقه بلغة عصرهم.
ب. التخفف من المسائل التي لا وجود لها في عصرنا كبعض المعاملات التي لا
يتعامل بها حالياً، أو يتعامل بها على نطاق ضيق كشركات المفاوضة والعنان،
فينبغي التركيز على ما يعايشه الناس في هذا الشأن وغيره كأعمال البنوك
وشركات التأمين، ونحو ذلك، وكذلك البعد عن التفصيلات وتشقيقات المسائل التي
لا طائل من ورائها.
ج. استخدام معارف العصر في الترجيح، فقد يترجح بعض الأقوال بناء على ذلك،
خلافاً لما يذكر في كتب الفقه، فالسفينة التي يتكلم الفقهاء السابقون عن
ضمانها غير السفينة الحالية، فتلك تحركها الرياح وهذه يحركها المحرك الآلي.
د. تحويل المقادير الشرعية إلى مقادير معاصرة، فلا يكاد الناس اليوم يعرفون
مقدار الدينار والفرسخ والقلة والوسق إلا ببيانها بالمقادير المعاصرة، وهو
أمر متاح وقد ألفت فيه مؤلفات عدة(12)
هـ. الحرص على بيان الحكمة من التشريع فإن لها أثراً على اطمئنان القلب كما
في قوله - تعالى - (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) مع الاستفادة مما
يكتبه المعاصرون كحديثهم عن مضار التدخين، ومضار ولوغ الكلب في الإناء،
وأكل لحم الخنـزير، مع الحذر من التعليلات القاصرة التي تفتح الباب لذوي
الأهواء أو المنكرين كتعليل تحريم الربا باستغلال حاجة الفقير وتعليل الزنا
باختلاط الأنساب، مع الإشارة إلى عدم الجزم بالعلة أو الحكمة من التشريع
إذا لم يكن منصوصاً عليها.
(و) ربط جزئيات الفقه بمقاصد الشريعة الكلية: فالإسلام كل لا يتجزأ، فمن
المناسب جداً أن يتكلم المرء عن نظام العاقلة في الديات ويربط ذلك بنظام
النفقات والمواريث حتى يتضح جانب الغنم والغرم ، وكذلك عند الحديث عن نصيب
الذكر والأنثى ينبغي أن يذكر بأن المرأة إن كانت زوجاً فنفقتها على زوجها،
وإن كانت بنتاً فنفقتها على أبيها إن احتاجت ... إلخ.
ز. الاستفادة مما كتبه المعاصرون من العلماء الثقات في جميع جوانب الفقه
وكذلك فتاوى المجامع الفقيه وهيئات كبار العلماء والموسوعات الفقهية ورسائل
الماجستير والدكتوراة.
ح. الاستفادة من الوسائل المعاصرة التي تيسر الشرح من الرسوم والأشكال التي
لا محظور فيها كما كان صلى الله عليه وسلم يستخدم الخط على الرمل وضرب
المثال(13).
المبحث الثاني: مبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1) التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة (التقدم التقني في مجال الاتصالات
والمجالات الصناعية والطبية وغيرها وكل ذلك يحدث وقائع تحتاج لأحكام
شرعية، وبعضها كان موجوداً لكن بصفة مبسطة كمسائل الإجارة وأحكام الشركات).
(2) سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة، والذي
يعيش في الأجواء الطبية يلاحظ هذا، بالإضافة إلى غزو القوانين الوضعية
لكثير من بلاد المسلمين، وكل ما سبق يحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيه.
(3) الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي بعض هؤلاء المبهورين – خاصة ممن درس في
بلاد الغرب – للحديث عن قضايا شرعية ليسوا مؤهلين للخوض فيها، فزلوا وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ومن العجيب أنه لا يقبل من أحد أن يتحدث في
تخصصه الدقيق إلا أن يكون من أهل الدار، وتجده يرتع في حمى الفقه، ويصدر
الفتاوى بلا خطام ولا زمام، وربما استسهل الكلام في مسألة لو عرضت على عمر –
رضي الله عنه – لجمع لها أهل بدر.
(4) الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي، وقد استمر هذا الأمر ردحاً من الزمن،
ولا زالت بقاياه، ومن الأمثلة على هذا الجمود وجود أكثر من مائة شرح وحاشية
لأحد كتب بعض المذاهب الفقهية)(14).، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم عن
كتاب (الهداية)
إن الهداية كالقرآن قد نسخت ... ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب(15).
المبحث الثالث: صفات المجدد:
(1) العلم:
فالمجدد في الفقه لابد أن يكون مالكاً لأدوات الاجتهاد فيما يجتهد فيه، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، وأهم هذه الشروط:
(ب) العلم بالقرآن (فيعرف آيات الأحكام – والناسخ والمنسوخ منه – والعام والخاص – والمطلق والمقيد – وأسباب النزول).
(ب) العلم بالسنة ( فيعرف مواقع أحاديث الأحكام، ولا يقتصر على الأمهات
الست، ويعرف الصحيح والضعيف من الأحاديث، وعلم التاريخ والرجال، وأسباب
الجرح والتعديل). .
(ج) معرفة مسائل الإجماع.
(د) معرفة أصول الفقه ، وأن يتقن هذا العلم خاصة مباحث الألفاظ ودلالاتها، ومباحث القياس، وذلك لمسيس الحاجة إليها.
(هـ) معرفة اللغة العربية.
(و) أن يكون فقيه النفس، فيكون الفقه ملكة وسجية له، يستطيع بها استنباط
الأحكام(16)كذلك لابد أن يلم بمقاصد التشريع، وفقه المصالح والمفاسد وفقه
الخلاف.
(2) أن يكون عدلاً في دينه، ورعاً؛ فإنه إنما يوقع عن الله، ومن لم يكن
كذلك فليس من المقبول أن يرتع في هذا الحمى، فالبيوت إنما تؤتى من أبوابها،
وإذا كان من غير المقبول أن يمارس مدعي الطب هذه المهنة، فما بالك بمن
يتكلم في أمر الحلال والحرام وهو ليس لذلك أهل. والمجدد لابد أن يكون من
أصحاب المنطلقات الشرعية الصحيحة فأما من كان منطلقه في التجديد: إخضاع
الإسلام للعقل والواقع، كما يظهر ذلك في كتابات بعض المعاصرين، فهولاء
ليسوا من أهل التجديد المنشود.
(3) الاعتدال: بعيداً عن الغلو والإفراط، فإن من الناس من هذا ديدنه فيقدم
الأحوط دائماً، وكذا سد الذريعة وإن لم يكن لهما مساغ، والأخذ بهما شرعاً
له ضوابط وليس على إطلاقه، وكذلك يجب البعد عن التفريط والتساهل بحجة
مجاراة العصر، وكذا البحث عن المخارج بكل وسيلة ممكنة، وهذا طبع موجود،
وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
(4) أن يكون المجدد قدوة لغيره: في سلوكه وحياته، حتى يستحق الشرف العظيم الذي يناط به.
*مجال التجديد: التجديد يكون في الفروع لا الأصول، وفي الظنيات لا القطعيات، وفي المتشابهات لا المحكمات.
المبحث الرابع: مزالق التجديد. وهي:
(1) المصلحة المتوهمة (الغلو في اعتبار المصلحة ولو على حساب النص).
فالمصلحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ. مصلحة معتبرة: شهد الشرع لها بالاعتبار وهي ترجع إلى حفظ الضرورات الخمس ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال) (17)
ب. مصلحة ملغاة(18)
شهد الشرع بعدم اعتبارها كالربا (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة :
275]. مع ما قد يتوهم من جلبه للمصالح، ومن الأمثلة التي تذكر في هذا
المقام المصلحة التي حكم بها يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم الذي
وطئ في نهار رمضان حيث حكم عليه بصيام شهرين متتابعين.
وترك هذا الفقيه الحكم بالعتق كما هو قول الجمهور، وترك كذلك التخيير بين
الكفارات كما هو القول في مذهب مالك، وعلته في ذلك: أننا لو فتحنا له هذا
الباب لسهل عليه (أي على هذا الواطئ) أن يعتق كل يوم رقبة، فحمله على أصعب
الأمور لئلا يعود(19).
فهو نظر إلى مصلحة وفوت مصلحة أعظم منها وهي تشوف الشرع إلى إعتاق الأرقاء.
مثال آخر: الشخص الذي أراد نقل صلاة الجمعة ليوم الأحد في بلاد الغرب
لمصلحة متوهمة، وهي أن الناس لا يجتمعون للجمعة، فتؤخر إلى اليوم الذي
يجتمعون فيه، وقد رد عليه بعض العلماء بأمرين:
أحدهما: مخالفة النص الصريح: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) فنص على ذلك اليوم
وثانيهما: قيل له هذه صلاة الجمعة فإذا أقمناها يوم الأحد فماذا تسمى؟!!!(20)
(ج) مصلحة لم يقم الدليل على اعتبارها بذاتها ولا إلقائها، ولكنها تدخل ضمن مقاصد الشرع، وتسمى (المصلحة المرسلة).
ومن أمثلتها: جمع القرآن، تدوين الدواوين، قوانين السير والمرور، وتحديد الأسعار، وإنشاء المحاكم، فهذه مصلحة معتبرة(21).
2- مسايرة الواقع بعجره وبجره (الرضوخ تحت ضغط الواقع). فيشكل هذا الضغط
تكييف الأحكام الشرعية وفقاً للواقع المعاش، دون مراعاة النصوص.
3- الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
4- الاجتهاد على خلاف النص، إما لجهل بثبوته، أو عدم العلم به أصلاً، أو لغفلة وذهول لهوى أو سوء فهم.
5- مسايرة الهوى طمعاً في جاه أو منصب أو تملقاً لمن يخشى أو يرجى، ومن ذلك تملق الجماهير طمعاً في النجومية، وإقبال الدهماء.
6- عدم فهم الواقع، ومن الأمثلة على ذلك إفتاء بعضهم بأن الباروكة لا تعدو
أن تكون غطاءً للرأس، فتحل، رقم أنها داخلة في معنى الواصلة التي ورد فيها
اللعن.
7- تقليد الفكر الغربي (كما في منع الطلاق، ومنع تعدد الزوجات) أو مجاملته على الأقل(22)
المبحث الخامس: تنبيهات.
* ينبغي أن تكون الفتوى جماعية قدر الإمكان، في صورة مجامع فقهية وهيئات
لكبار العلماء، ولا تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمؤثرات الأخرى، ومع ذلك لا
يستغنى عن الاجتهاد الفردي الذي يكشف الطريق ويمهده بما يقدم من دراسات
رصينة، تضيء الطريق، وتكشف معالمه.
* وينبغي أن يتوجه الفقيه في اجتهاداته إلى المسائل المعاصرة فيتصدى لها
ويستنبط الأحكام لها في ضوء النصوص والقواعد الكلية للفقه، وألا يستهلكه
تقرير المسائل القديمة دون النظر للمستجدات.
* قد يبدو للمجتهد المجدد فهماً تحتمله النصوص الشرعية لعله لم يسبق إليه
أو سبق إليه ولكنه هجر، لعدم الحاجة إليه أو لعدم شهرة قائله، وربما فتح
هذا القول أفقاً واسعاً للمجتهدين بما لا يتعارض مع النصوص ولا يخالف
القطعيات.
* تيسُّر الاجتهاد اليوم: مما نص عليه بعض أهل العلم كابن القيم وغيره أن
الاجتهاد يتجزأ، فهناك مجتهد في باب تمكن من أدلته، أما من أتقن مسألة فقط
فقد منع بعض أهل العلم اجتهاده فيها باعتبار أن المسألة الواحدة ترتبط
بغيرها من المسائل(23).
وهناك الاجتهاد الانتقائي (الترجيحي) بين أقوال السابقين، وكثير من رسائل الدراسات العليا من هذا الباب
ويشار هنا إلى أن الاجتهاد بالنسبة للمجتهدين قد أصبح أمره أيسر من الزمن
الماضي من ناحية توفر المراجع وطباعتها وكونها في متناول الباحث، وقد أشار
على هذا العلامة الحجوي في كتابه (الفكر السامي) وقد حقق كثيراً من الكتب
التي كانت نادرة، ويوجد في مكتبة طالب العلم اليوم من كتب التخصص ما لم يكن
يوجد في مكتبات بعض الأئمة سابقاً، وساعد الكمبيوتر في تقريب كثير من
المعلومات وجمعها بين يدي الباحث.
* عند التجديد لابد من مراعاة يسر الشريعة وأنها بنيت على ذلك لا استجابة
لضغوط الواقع أو تناغماً مع روح العصر، ولكنها صفة أصيلة في الشريعة قال -
تعالى - (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي الحديث المتفق عليه
فيما رواه أنس "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
وقالت عائشة – رضي الله عنها (ما خير النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)
* وعند التصدي للتجديد لابد أن نتوقع الخطأ وأن نتقبل ذلك بصدر رحب وأن
نبذل النصيحة ولا نبادر بالاتهام لمن اجتهد – وهو من أهل الاجتهاد – فأخطأ،
فإنه مأجور، وربما كان هو المصيب في الحقيقة، وقد يفتح باجتهاده هذا باباً
كان مغلقاً، ولنا في شيخ الإسلام ابن تيمية قدوة فقد كان من المجددين، وقد
قاومه أهل عصره، وأساؤوا به الظن، ثم انتفعوا بعلمه واجتهاده، ولا زلنا
اليوم نفيد من تجديده في مجالات كثيرة. والله الموفق.
الفقه والتجديد
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين،
نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد: فهذا بحث عن الفقه والتجديد، حاولت فيه أن أشير إلى معالم هذا
الموضوع باعتباره من أهم الموضوعات التي تشغل بال الفقيه المسلم في هذا
العصر، ولقد انقسم الناس حيال هذا الموضوع إلى طرفين ووسط، قسم رأى البقاء
على القديم، واستراب من كل جديد وتجديد، وقسم فتح الباب على مصراعيه لكل
تجديد حتى وإن كان في الثوابت والأصول، وقسم رزقه الله أصابة الوسط فأصاب
الحق وقبل التجديد بالضوابط الشرعية، وسدَّ الباب على التفريط والإفراط.
وأنا أعلم أن الكتابات في هذا المجال كثيرة، ولكن أحببت أن أسهم في إيضاح
المعالم البارزة لهذه القضية التي ربما تتناثر أجزاؤها في كتب وأبحاث
متفرقة، بالإضافة إلى التنبيه على قضايا تهم الفقيه المتصدي للتجديد.
وقد كانت خطة هذا البحث على النحو التالي:
التمهيد : ويشتمل على المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة، وتشمل (1) الربانية (2) الوسطية والاعتدال (3) الشمول (4) الثبات والمرونة.
المطلب الرابع : عدم منافاة التجديد للأصالة.
المبحث الأول:مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
(1)تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاش.
(2)مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة وتمحيص.
(3)إيجاد الحلول الشرعية للمستجدات والنوازل.
(4)تقريب الفقه للناس وتيسيره.
المبحث الثانيمبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1)التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة.
(2)سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة.
(3)الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي هؤلاء المنبهرين للحديث عن القضايا الشرعية.
(4)الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي.
المبحث الثالث صفات المجدد:
(1) العلم . (2) العدل. (3) الاعتدال (4) القدوة.
المبحث الرابع :مزالق التجديد. وهي:
(1)المصلحة المتوهمة.
(2)مسايرة الواقع بعجره وبجره.
(3)الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
(4)الاجتهاد في موارد النص.
(5)مسايرة الهوى .
(6)عدم فهم الواقع .
(7)تقليد الفكر الغربي.
المبحث الخامس:تنبيهات:
المصادر والمراجع:
وفي ختام هذه المقدمة، أسأل الله التوفيق والسداد، وأن يجعل عملنا خالصاً وصواباً، إنه على كل شيء قدير
المطلب الأول: تعريف الفقه لغة واصطلاحاً
·تعريف الفقه لغة: مطلق الفهم قال تعالى: (مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ)(1) وقال: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)(2)
·والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام العملية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية.
وعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية، إذ هو العلم الذي تعرف به الأحكام من
الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح، وتشتدّ إليه الحاجة في كل عصر
وأوان، وقد يسع الرجل جهل تفسير آية، ويند عنه معرفة درجة حديث، أو حال
راو، ولكن لا يسعه الجهل بالأحكام الشرعية المتعلقة بصحة طهارته أو صلاته
أو صومه. وقديما قال بعضهم:
إذا مـــــا اعتزَّ ذو علم بعلم
فعلم الفـــقه أولى باعتزاز
فكم طيب يفوح ولا كمسك
وكم طيــــر يطير ولا كباز
ولقد مكث النبي – صلى الله عليه وسلم – بين ظهراني الصحابة، يفتيهم، ويجيب
على أسئلتهم، وكان القرآن يتنـزل على النبي – صلى الله عليه وسلم –
والصحابة يتعلمون ويتفقهون من الكتاب والسنة، ولما قبض النبي – صلى الله
عليه وسلم – حمل راية الفقه أصحابه، وكان بعضهم أفقه من بعض، فكان عمر –
رضي الله عنه – من المجلين في هذا الشأن، وغيره كثير، ثم حمل الراية
التابعون ثم تابعو التابعين، حتى أوصلوها إلى الفقهاء الأربعة (أبو حنيفة،
ومالك، والشافعي، وأحمد) وقد أسس هؤلاء المذاهب التي حملت أسماءهم، وتعمقت
هذه المذاهب وأصِّل لها، ثم طرأ نوع من التعصب والجمود، وتمحور كثير من
الفقهاء حول نصوص أئمتهم لا يجاوزونها، ثم يسَّر الله انتعاش الفقه مرة
أخرى في هذا العصر، فقامت جهود خيرة مباركة، وأسهم ثلة من الفقهاء في إبراز
الفقه في ثوب قشيب، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوالت في هذا العصر
دعوات إصلاحية، وهيئات، ومجامع فقهية، تباينت في إسهامها، ولكنها في الجملة
قد دفعت حركة الفقه قدماً، وتصدّت هذه الجهود لنوازل المجتمع وقضاياه.
المطلب الثاني : تعريف التجديد لغة، وبيان المقصود بتجديد الفقه، وبيان أن التجديد سنة ماضية.
* التجديد لغة: جعل الشيء جديداً، ومنه: جدد وضوءه، وجدد عهده: يعني أعاده وكرره والجديد نقيض الخلق(3).
* وتجديد الفقه يقصد به إعادة نضارته وبهائه وإحياء ما اندرس من معالمه،
والعمل على نشره بين الناس، ويشمل التجديد كذلك: التصدي للمستجدات التي
تظهر في كل عصر؛ لبيان الحكم الصحيح لهذه المستجدات.(4)
* والتجديد بهذا المعنى يعني أن التجديد يكون على اضمحلال لشأنه، ولا يعني
التجديد نبذ شيء منه أو اختراع فقه جديد فذلك في الحقيقة تحريف ومسخ.
* التجديد سنة ماضية:
إن التجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وتتلاءم مع ما هو معلوم من أن
الله قد ختم الأنبياء بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فالعلماء الذين يجددون
لهذه الأمة دينها هم نواب له ووراث لهديه – صلى الله عليه وسلم -، فهم
يحيون ما اندرس من الدين في نفوس الناس.
الكلام عن حديث التجديد:
نص الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر
دينها) والحديث صحيح، حيث صححه جمع من أهل العلم قديماً وحديثاً(5)،بل نقل
السيوطي في رسالته (التنبيه فيمن يبعثه الله على رأس المئة) إجماع العلماء
على تصحيحه(6).
وفي الحديث بشارة وعد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمة أنها لا تخلو من المجددين، فهو وعد إلهي لا يتخلف.
ويتضمن الحديث كذلك جانباً شرعياً مهماً وهو الطلب من الأمة، وخاصة
القادرين من أهل العلم والإيمان أن يؤدوا الدور المنوط بهم، فيكون التجديد
على أيديهم، فالمجدد لا يهبط من السماء.
المطلب الثالث: خصائص الشريعة:
للفقه الإسلامي - وإن شئت قلت للشريعة - خصائص، نكتفي بذكر ما يقتضيه المقام:
(1) الربانية: فهي:
أ. ربانية المصدر فمصدرها إلهي.
ب. وربانية الوجهة. وهذه الخصيصة تدل على خصائص أخرى منها: الكمال والعدل
المطلق (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً).
كما أنها تحظى بالقبول والاحترام من قبل المؤمنين بها بما لا يحظى قانون أو نظام، وإن كانت المقارنة هنا غير واردة:
ألـــــم تــــر أن السيف ينقص قدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
كما أن الإنسان المعتنق لهذه الشريعة يراقب ربه في كل صغيرة وكبيرة، بل
لابد أن تقابل أحكامها بالرضا والتسليم(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)
[النساء: 65].
(2) الوسطية والاعتدال والموازنة: ففيها توازن بين الروح والجسد، وموازنة
بين مصلحة الفرد والجماعة، وموازنة واعتدال في النظر إلى حقوق الرجل
والمرأة بين النظرة الجاهلية في احتقار المرأة وظلمها وبين الجاهلية
المعاصرة في إخراجها عن حدود ما خلق الله لها، وهذا التوازن لا يلغي ترتيب
الأولويات فهناك الواجب والأوجب وهناك المهم والأهم.
(3) الشمول:
أ. لمصالح الدنيا والآخرة.
ب. لجوانب الحياة المختلفة (من آداب الأكل والشرب إلى بناء الدولة).
ج. لمراحل حياة الإنسان كلها (طفلاً وكهلاً).
د. شمولها لكل البشر – النـزعة العالمية – (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
هـ. شمولها لكل زمان ومكان.
(4) الثبات والمرونة: الثبات في الأصول والأهداف والقطعيات، والمرونة في
الفروع والوسائل والظنيات، ومساحة المرونة مساحة واسعة وهي منطقة مفتوحة
للاجتهاد البشري في مجال التشريع الإسلامي(7).
ولقد كان هذا الفقه أساس التشريع والقضاء والفتوى في العالم الإسلامي كله
طيلة ثلاثة عشر قرناً، تبدَّلت فيها النظم وتغيّرت الأوضاع والأحوال، فلم
يضق صدره بمشكلة ولم يقف عند نازلة، بل كان لديه لكل حادثة حديث، ولكل
واقعة حكم، ولكل مشكلة علاج فالفقه الإسلامي يمتاز بقواعده الدقيقة وأصوله
المقننة المتقنة التي تضبط طرائق الاستنباط، وهو ما يعرف بعلم (أصول الفقه)
الذي عرف لدى علماء المسلمين في فترة مبكرة على يد الإمام الشافعي، ويمتاز
الفقه كذلك بقدرته على التجديد والنماء، فهو علم خصب، مرن، استوعب شتى
البيئات والأوطان - رغم تباينها - ومن البدو إلى الحضر، فلم يضق بها ذرعاً،
بل سبكها ضمن منظمته، وقضى بالعدل، وقال كلمة الفصل.
كثرة الأقوال والاختلافات ثروة فقهية:
وهي نعمة لا نقمة وهي دليل على مرونة الشريعة، وتسامح الأئمة وقد نقل عنهم
في هذا الباب كلاماً عظيماً ولم يكونوا - رحمهم الله -يرون بذلك بأساً
وكثيراً ما يكون الاختلاف داخل المذهب نفسه كما سجله المرداوي في كتابه
(الإنصاف) والنووي في (روضة الطالبين) وربما كان اختلافهم لا بسبب الحجة
والبرهان بل بسبب العصر والزمان، كما قيل عن خلاف أبي يوسف ومحمد بن الحسن
الشيباني لأبي حنيفة.
وفقه مذهب واحد يضيق عن الوفاء بحاجات الناس فتجد في بعض المذاهب من السعة
واليسر وسداد الرأي ما لا يوجد في بقية المذاهب، ومن الأمثلة على هذا:
المذهب الحنبلي في العقود فهو من أيسر المذاهب في ذلك.
المطلب الرابع: عدم منافاة التجديد للأصالة.
التجديد في الفقه لا ينافي الأصالة، كلا، بل يتناغم معها، إذا حدد المفهوم
الصحيح للأصالة، فليست الأصالة هي الانكفاء على كل قديم ورفض كل جديد، فذلك
قتل للإبداع وإغلاق لباب الاجتهاد، بل الأصالة هي تلك الممارسة الواعية
التي تعني الاستمساك بالثوابت وتعنى بالتجديد في المتغيرات بحسب الحاجة،
على أن يكون ذلك ضمن المفاهيم والمضامين الشرعية، وأن يكون دافع التجديد هو
الرغبة في التحسين لا مجرد التقليد
كما أن التجديد ليس هو السخرية بكل قديم وفتح الأبواب أمام كل جديد، بزعم
أن الجديد لا يمثل إلا التطور والرقي والقديم لا يمثل إلا التخلف والجمود،
يقول شكيب أرسلان في الرد على دعاة نسف التراث:
كــــــــم من قديم لا يزال رواؤه
مـتألقاً يحكي الصباح المسفرا
مـــــهما تـقادم جوهر في عنقه
فـهو الثمين وليس يبرح جوهرا(8)
المبحث الأول: مجالات التجديد ويشتمل على ما يلي:
1- تنـزيل الحكم الشرعي الصحيح على الواقع المعاش.
2- مراجعة التراث الفقهي مراجعة استفادة فهو ثروة فقهية عظيمة لا يمكن
الاستغناء عنها، وفيها من السعة والدقة ما لا يخفى، وربما احتاج هذا بعض
هذا التراث إلى مراجعة تمحيص لما يحتاج إلى تمحيص ومراجعة ومن الأمثلة على
ذلك.
(أ) مراجعة الأحاديث التي استدل بها الفقهاء وبنوا عليها كثيراً من
أحكامهم، وهي أحاديث غير صحيحة كحديث (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا
وهكذا...)(9).
(ب) التثبت من مسائل الإجماع التي حكاها بعض الفقهاء، فلو صح الإجماع لما
جازت مخالفته ولكن يتسامح بعض الفقهاء في نقله، وهو غير صحيح، وبالتالي فلا
يترتب عليه المنع من الاجتهاد في المسألة التي لم يثبت فيها الإجماع.
(ج) المعلومات المتوافرة في هذا العصر والتي لها دور في تمحيص كلام
الفقهاء، إذا كانت هذه المعلومات قد وصلت إلى درجة الحقائق لا النظريات،
مثال ذلك: أقصى مدة الحمل. فقد ذكر بعض الفقهاء أن أقصى مدة الحمل: سنتان،
وقال بعضهم: أربع، وقال البعض، خمس، وسبع. ومن المعلوم الآن طبياً أن الحمل
لا يكون أكثر من سنة، وما ذكر من المدة الطويلة (سنتان، أربع، خمس ...)
فهو حالة معروفة طبياً بالحمل الكاذب. وتظهر فيه كل أعراض الحمل من انتفاخ
البطن، والشعور بالغثيان والقيء وتقلص عضلات البطن ونحوها بما يشبه حركة
الجنين في البطن، وتظهر هذه الحالات كثيراً عند الرغبة العارمة للحمل، وحين
يكشف عليها الطبيب بالوسائل الحديثة من التحليل والأشعة يجزم الطبيب بأنها
غير حامل. ومن الطريف أن هذا المرأة قد تستمر معها هذه الحالة ثم يشاء
المولى -جل وعلا- أن تحمل حملاً صادقاً في نهاية المدة فتظنه امتداداً
للحمل الكاذب وتحسب المدة كلها على هذا الحمل، وتلد بعد سنتين أو ثلاث،
فيصدق الناس هذه الدعوى(10).
3- إيجاد الحلول (الأحكام) الشرعية المناسبة للمستجدات والنوازل، ومن أبرز
المجالات التي تبرز فيها النوازل مجال المعاملات والاقتصاد كقضايا الشركات
والأسهم والتأمين والبنوك وبعضها شبيه بالقديم أو قريب منه وبعضها جديد
تماماً ولا نظير له، فهل الحل هو في (أ) الجمود (ب) أو القبول بكل ما
استجدّ.
(ج) أو البحث من خلال الثروة الفقهية التي ورثناها عن أسلافنا، فإن لم نجد
اجتهد المجتهد في ضوء القواعد الشرعية العامة. الصحيح أنه لا يسع الفقيه
إلا الأمر الأخير.والمجال الآخر الذي تكثر فيه النوازل: المجال الطبي، فقد
وضع العلم الحديث بين يدي المسلم مجموعة كبيرة من النوازل، تدخل أحياناً في
تفصيلات الحياة اليومية، وتثور أسئلة وافرة في ذهن الطبيب المسلم عن الحكم
الشرعي لها كقضايا زرع الأعضاء، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، وأبحاث
العقم، والوفاة الدماغية .... الخ. خاصة وأن هذا التقدم العلمي قد نشأ في
مجتمع غير مسلم وله أعراف غير أعرافنا، فهو شبيه بشعب بوان الذي قال فيه
المتنبي:
ولكـــــن الفتى الــعربي فيها
غريب الوجـــــه واليد واللسان(11)
(4) تقريب الفقه للناس وتيسيره، وكتابته بأسلوب يناسب العصر، مع استخدام الوسائل المتاحة في هذا العصر وذلك يتم بأمور منها:
أ. استخدام اللغة الميسرة البسيطة التي يفهمها غير المتخصص لأنه يحال
أحياناً بين الناس وبين كتب الفقه بسبب وعورة المصطلحات التي تشكل على غير
المتخصص، ومن حق الناس أن يقرب لهم الفقه بلغة عصرهم.
ب. التخفف من المسائل التي لا وجود لها في عصرنا كبعض المعاملات التي لا
يتعامل بها حالياً، أو يتعامل بها على نطاق ضيق كشركات المفاوضة والعنان،
فينبغي التركيز على ما يعايشه الناس في هذا الشأن وغيره كأعمال البنوك
وشركات التأمين، ونحو ذلك، وكذلك البعد عن التفصيلات وتشقيقات المسائل التي
لا طائل من ورائها.
ج. استخدام معارف العصر في الترجيح، فقد يترجح بعض الأقوال بناء على ذلك،
خلافاً لما يذكر في كتب الفقه، فالسفينة التي يتكلم الفقهاء السابقون عن
ضمانها غير السفينة الحالية، فتلك تحركها الرياح وهذه يحركها المحرك الآلي.
د. تحويل المقادير الشرعية إلى مقادير معاصرة، فلا يكاد الناس اليوم يعرفون
مقدار الدينار والفرسخ والقلة والوسق إلا ببيانها بالمقادير المعاصرة، وهو
أمر متاح وقد ألفت فيه مؤلفات عدة(12)
هـ. الحرص على بيان الحكمة من التشريع فإن لها أثراً على اطمئنان القلب كما
في قوله - تعالى - (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) مع الاستفادة مما
يكتبه المعاصرون كحديثهم عن مضار التدخين، ومضار ولوغ الكلب في الإناء،
وأكل لحم الخنـزير، مع الحذر من التعليلات القاصرة التي تفتح الباب لذوي
الأهواء أو المنكرين كتعليل تحريم الربا باستغلال حاجة الفقير وتعليل الزنا
باختلاط الأنساب، مع الإشارة إلى عدم الجزم بالعلة أو الحكمة من التشريع
إذا لم يكن منصوصاً عليها.
(و) ربط جزئيات الفقه بمقاصد الشريعة الكلية: فالإسلام كل لا يتجزأ، فمن
المناسب جداً أن يتكلم المرء عن نظام العاقلة في الديات ويربط ذلك بنظام
النفقات والمواريث حتى يتضح جانب الغنم والغرم ، وكذلك عند الحديث عن نصيب
الذكر والأنثى ينبغي أن يذكر بأن المرأة إن كانت زوجاً فنفقتها على زوجها،
وإن كانت بنتاً فنفقتها على أبيها إن احتاجت ... إلخ.
ز. الاستفادة مما كتبه المعاصرون من العلماء الثقات في جميع جوانب الفقه
وكذلك فتاوى المجامع الفقيه وهيئات كبار العلماء والموسوعات الفقهية ورسائل
الماجستير والدكتوراة.
ح. الاستفادة من الوسائل المعاصرة التي تيسر الشرح من الرسوم والأشكال التي
لا محظور فيها كما كان صلى الله عليه وسلم يستخدم الخط على الرمل وضرب
المثال(13).
المبحث الثاني: مبررات التجديد، وبواعثه، وهي:
(1) التغيرات الهائلة في الحياة المعاصرة (التقدم التقني في مجال الاتصالات
والمجالات الصناعية والطبية وغيرها وكل ذلك يحدث وقائع تحتاج لأحكام
شرعية، وبعضها كان موجوداً لكن بصفة مبسطة كمسائل الإجارة وأحكام الشركات).
(2) سيطرة أنماط الحياة الغربية وأعرافها على كثير من جوانب الحياة، والذي
يعيش في الأجواء الطبية يلاحظ هذا، بالإضافة إلى غزو القوانين الوضعية
لكثير من بلاد المسلمين، وكل ما سبق يحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيه.
(3) الانبهار بالفكر الغربي، وتصدي بعض هؤلاء المبهورين – خاصة ممن درس في
بلاد الغرب – للحديث عن قضايا شرعية ليسوا مؤهلين للخوض فيها، فزلوا وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ومن العجيب أنه لا يقبل من أحد أن يتحدث في
تخصصه الدقيق إلا أن يكون من أهل الدار، وتجده يرتع في حمى الفقه، ويصدر
الفتاوى بلا خطام ولا زمام، وربما استسهل الكلام في مسألة لو عرضت على عمر –
رضي الله عنه – لجمع لها أهل بدر.
(4) الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي، وقد استمر هذا الأمر ردحاً من الزمن،
ولا زالت بقاياه، ومن الأمثلة على هذا الجمود وجود أكثر من مائة شرح وحاشية
لأحد كتب بعض المذاهب الفقهية)(14).، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم عن
كتاب (الهداية)
إن الهداية كالقرآن قد نسخت ... ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب(15).
المبحث الثالث: صفات المجدد:
(1) العلم:
فالمجدد في الفقه لابد أن يكون مالكاً لأدوات الاجتهاد فيما يجتهد فيه، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، وأهم هذه الشروط:
(ب) العلم بالقرآن (فيعرف آيات الأحكام – والناسخ والمنسوخ منه – والعام والخاص – والمطلق والمقيد – وأسباب النزول).
(ب) العلم بالسنة ( فيعرف مواقع أحاديث الأحكام، ولا يقتصر على الأمهات
الست، ويعرف الصحيح والضعيف من الأحاديث، وعلم التاريخ والرجال، وأسباب
الجرح والتعديل). .
(ج) معرفة مسائل الإجماع.
(د) معرفة أصول الفقه ، وأن يتقن هذا العلم خاصة مباحث الألفاظ ودلالاتها، ومباحث القياس، وذلك لمسيس الحاجة إليها.
(هـ) معرفة اللغة العربية.
(و) أن يكون فقيه النفس، فيكون الفقه ملكة وسجية له، يستطيع بها استنباط
الأحكام(16)كذلك لابد أن يلم بمقاصد التشريع، وفقه المصالح والمفاسد وفقه
الخلاف.
(2) أن يكون عدلاً في دينه، ورعاً؛ فإنه إنما يوقع عن الله، ومن لم يكن
كذلك فليس من المقبول أن يرتع في هذا الحمى، فالبيوت إنما تؤتى من أبوابها،
وإذا كان من غير المقبول أن يمارس مدعي الطب هذه المهنة، فما بالك بمن
يتكلم في أمر الحلال والحرام وهو ليس لذلك أهل. والمجدد لابد أن يكون من
أصحاب المنطلقات الشرعية الصحيحة فأما من كان منطلقه في التجديد: إخضاع
الإسلام للعقل والواقع، كما يظهر ذلك في كتابات بعض المعاصرين، فهولاء
ليسوا من أهل التجديد المنشود.
(3) الاعتدال: بعيداً عن الغلو والإفراط، فإن من الناس من هذا ديدنه فيقدم
الأحوط دائماً، وكذا سد الذريعة وإن لم يكن لهما مساغ، والأخذ بهما شرعاً
له ضوابط وليس على إطلاقه، وكذلك يجب البعد عن التفريط والتساهل بحجة
مجاراة العصر، وكذا البحث عن المخارج بكل وسيلة ممكنة، وهذا طبع موجود،
وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
(4) أن يكون المجدد قدوة لغيره: في سلوكه وحياته، حتى يستحق الشرف العظيم الذي يناط به.
*مجال التجديد: التجديد يكون في الفروع لا الأصول، وفي الظنيات لا القطعيات، وفي المتشابهات لا المحكمات.
المبحث الرابع: مزالق التجديد. وهي:
(1) المصلحة المتوهمة (الغلو في اعتبار المصلحة ولو على حساب النص).
فالمصلحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ. مصلحة معتبرة: شهد الشرع لها بالاعتبار وهي ترجع إلى حفظ الضرورات الخمس ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال) (17)
ب. مصلحة ملغاة(18)
شهد الشرع بعدم اعتبارها كالربا (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة :
275]. مع ما قد يتوهم من جلبه للمصالح، ومن الأمثلة التي تذكر في هذا
المقام المصلحة التي حكم بها يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم الذي
وطئ في نهار رمضان حيث حكم عليه بصيام شهرين متتابعين.
وترك هذا الفقيه الحكم بالعتق كما هو قول الجمهور، وترك كذلك التخيير بين
الكفارات كما هو القول في مذهب مالك، وعلته في ذلك: أننا لو فتحنا له هذا
الباب لسهل عليه (أي على هذا الواطئ) أن يعتق كل يوم رقبة، فحمله على أصعب
الأمور لئلا يعود(19).
فهو نظر إلى مصلحة وفوت مصلحة أعظم منها وهي تشوف الشرع إلى إعتاق الأرقاء.
مثال آخر: الشخص الذي أراد نقل صلاة الجمعة ليوم الأحد في بلاد الغرب
لمصلحة متوهمة، وهي أن الناس لا يجتمعون للجمعة، فتؤخر إلى اليوم الذي
يجتمعون فيه، وقد رد عليه بعض العلماء بأمرين:
أحدهما: مخالفة النص الصريح: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) فنص على ذلك اليوم
وثانيهما: قيل له هذه صلاة الجمعة فإذا أقمناها يوم الأحد فماذا تسمى؟!!!(20)
(ج) مصلحة لم يقم الدليل على اعتبارها بذاتها ولا إلقائها، ولكنها تدخل ضمن مقاصد الشرع، وتسمى (المصلحة المرسلة).
ومن أمثلتها: جمع القرآن، تدوين الدواوين، قوانين السير والمرور، وتحديد الأسعار، وإنشاء المحاكم، فهذه مصلحة معتبرة(21).
2- مسايرة الواقع بعجره وبجره (الرضوخ تحت ضغط الواقع). فيشكل هذا الضغط
تكييف الأحكام الشرعية وفقاً للواقع المعاش، دون مراعاة النصوص.
3- الاجتهاد قبل اكتمال الأهلية.
4- الاجتهاد على خلاف النص، إما لجهل بثبوته، أو عدم العلم به أصلاً، أو لغفلة وذهول لهوى أو سوء فهم.
5- مسايرة الهوى طمعاً في جاه أو منصب أو تملقاً لمن يخشى أو يرجى، ومن ذلك تملق الجماهير طمعاً في النجومية، وإقبال الدهماء.
6- عدم فهم الواقع، ومن الأمثلة على ذلك إفتاء بعضهم بأن الباروكة لا تعدو
أن تكون غطاءً للرأس، فتحل، رقم أنها داخلة في معنى الواصلة التي ورد فيها
اللعن.
7- تقليد الفكر الغربي (كما في منع الطلاق، ومنع تعدد الزوجات) أو مجاملته على الأقل(22)
المبحث الخامس: تنبيهات.
* ينبغي أن تكون الفتوى جماعية قدر الإمكان، في صورة مجامع فقهية وهيئات
لكبار العلماء، ولا تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمؤثرات الأخرى، ومع ذلك لا
يستغنى عن الاجتهاد الفردي الذي يكشف الطريق ويمهده بما يقدم من دراسات
رصينة، تضيء الطريق، وتكشف معالمه.
* وينبغي أن يتوجه الفقيه في اجتهاداته إلى المسائل المعاصرة فيتصدى لها
ويستنبط الأحكام لها في ضوء النصوص والقواعد الكلية للفقه، وألا يستهلكه
تقرير المسائل القديمة دون النظر للمستجدات.
* قد يبدو للمجتهد المجدد فهماً تحتمله النصوص الشرعية لعله لم يسبق إليه
أو سبق إليه ولكنه هجر، لعدم الحاجة إليه أو لعدم شهرة قائله، وربما فتح
هذا القول أفقاً واسعاً للمجتهدين بما لا يتعارض مع النصوص ولا يخالف
القطعيات.
* تيسُّر الاجتهاد اليوم: مما نص عليه بعض أهل العلم كابن القيم وغيره أن
الاجتهاد يتجزأ، فهناك مجتهد في باب تمكن من أدلته، أما من أتقن مسألة فقط
فقد منع بعض أهل العلم اجتهاده فيها باعتبار أن المسألة الواحدة ترتبط
بغيرها من المسائل(23).
وهناك الاجتهاد الانتقائي (الترجيحي) بين أقوال السابقين، وكثير من رسائل الدراسات العليا من هذا الباب
ويشار هنا إلى أن الاجتهاد بالنسبة للمجتهدين قد أصبح أمره أيسر من الزمن
الماضي من ناحية توفر المراجع وطباعتها وكونها في متناول الباحث، وقد أشار
على هذا العلامة الحجوي في كتابه (الفكر السامي) وقد حقق كثيراً من الكتب
التي كانت نادرة، ويوجد في مكتبة طالب العلم اليوم من كتب التخصص ما لم يكن
يوجد في مكتبات بعض الأئمة سابقاً، وساعد الكمبيوتر في تقريب كثير من
المعلومات وجمعها بين يدي الباحث.
* عند التجديد لابد من مراعاة يسر الشريعة وأنها بنيت على ذلك لا استجابة
لضغوط الواقع أو تناغماً مع روح العصر، ولكنها صفة أصيلة في الشريعة قال -
تعالى - (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي الحديث المتفق عليه
فيما رواه أنس "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
وقالت عائشة – رضي الله عنها (ما خير النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)
* وعند التصدي للتجديد لابد أن نتوقع الخطأ وأن نتقبل ذلك بصدر رحب وأن
نبذل النصيحة ولا نبادر بالاتهام لمن اجتهد – وهو من أهل الاجتهاد – فأخطأ،
فإنه مأجور، وربما كان هو المصيب في الحقيقة، وقد يفتح باجتهاده هذا باباً
كان مغلقاً، ولنا في شيخ الإسلام ابن تيمية قدوة فقد كان من المجددين، وقد
قاومه أهل عصره، وأساؤوا به الظن، ثم انتفعوا بعلمه واجتهاده، ولا زلنا
اليوم نفيد من تجديده في مجالات كثيرة. والله الموفق.