المدخل الي العقيدة لأهل السنة والجماعة
الــمــقــدمــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
في عقيدة أهل السنة والجماعة كتب أعلام العلماء وأساتذة الفكر في كل جيل
مؤلفات ودراسات وشروح قيمة أفادت الدارسين والباحثين وأثرت المكتبة العربية
والإسلامية عموما وخدمت عقيدة التوحيد قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.
وحين وجدنا أنفسنا مطالبين بالتصدي للحديث حول موضوع عقيدة أهل السنة
والجماعة من خلال الأسئلة التي تطرح عبر بريد القراء أو باب الفتاوى في
مجلة "المنهاج" كانت أمامنا حلول ثلاثة علينا أن نختار واحد منها:
• الحل الأول: ويتمثل في نقل كتاب بكامله من الكتب الخاصة بعقيدة أهل السنة
والجماعة متنا وشرحا. وهذا يستدعي إعادة صف وتصحيح وإخراج الكتاب الذي يتم
اختياره، وهو أمر يستعصي على قدراتنا وإمكانياتنا المحدودة، بالإضافة إلى
أن معظم شروح وحواشي الأقدمين في هذا الشأن وغيره قد درجت على تتبع كل كلمة
بالشرح والتعليق المقرون بالاستطراد المطول في قضايا ربما مرت عرضا أثناء
الشرح وهي خارجة عن الموضوع الأساس، مما يتطلب من القاري أو الدارس بذل
الكثير من الوقت والجهد في ربط الموضوع والخروج منه بفكرة واضحة ومترابطة
في المسألة التي يعرضها الكاتب أو الشارح.
ولا نقصد بهذه الملاحظة التقليل من قيمة كتب الأقدمين أو التزهيد في
قراءتها أو اقتنائها، أو إنكار فضل مؤلفيها علينا وعلى غيرنا أو التنكر
لمكانتهم وخدمتهم للعلم والدين، خصوصا وأن الاستطراد والتداخل في الموضوعات
والتوسع في الشرح، كان أسلوب ذلك العصر الغالب في الكتابة والتأليف، ولا
يطلب من كاتب أو مؤلف أو شارح أن يخرج على أسلوب عصره ووسائل زمنه أو أن
يسبق ذلك العصر ويتخطى ما درج أهله عليه. لكن مثل ما يصدق هذا المقياس على
السلف الصالح من الكتاب والمؤلفين والباحثين، فإن علينا أيضا أن نكون
منسجمين مع عصرنا في أساليب الكتابة والبحث والنشر بما لا يمس الجوهر
والثوابت والأصول.
• الحل الثاني: ويتمثل في اللجوء إلى أحد المختصرات في عقيدة أهل السنة
والجماعة لإعادة صفه وإخراجه ونشره ليكون بمثابة إجابة على السائلين. لكن
هذه المختصرات برغم مالها من فوائد وفضل على الطلبة والمبتدئين في العصور
الماضية، إلا أنه في خضم الطرح المتواصل للعقائد المنحرفة بالدعوى والتعصب
والجهل وتكفير من يخالفها ، ومع تدفق سيل الكتب والمواقع الكثيرة التي تشرح
تلك العقائد المنحرفة، وتحط من مصداقية وقيمة كل عقيدة تخالفها وخصوصا
عقيدة أهل السنة والجماعة ، لم تعد تلك المختصرات تشف غليلا أو تشبع نهما
معرفيا أو تجيب على أسئلة كثيرة حائرة في هذه المسائل. بالنظر إلى أن أصحاب
تلك المختصرات قد درجوا في الغالب على التعامل مع موضوع العقيدة بإفراط في
الحذر وعزوف ظاهر عن التوسع في تقديم الأدلة وعن تقديم لمحة عن العقائد
التي برزت في التاريخ الإسلامي مع رفض مبدأ الحوار والمقارنة والتحليل في
الغالب، منعا لما يعتقدونه تعمقا قد يفضي إلى الحيرة أو إلى تشويش عقائد
الناشئة والعامة. لكن هذه المحاذير والقيود ربما تحولت في عصرنا الذي أصبح
مفتوحا على كل الإتجاهات والتيارات والأفكار والأخبار بالكلمة المكتوبة
وبالصوت المسموع والصورة المرئية ، إلى تفريط في إقناع شباب متعطش إلى
المعرفة والوضوح في هذه المسالة الأساسية المهمة في حياة كل مسلم وإلى
تجاهل مذموم لأسئلة كثيرة ومستجدة يطرحها عصر المعلومات الذي يتدفق فيه على
الشاب المسلم كم كبير من العقائد والأفكار والأخبار التي يختلط فيها الغث
بالسمين والحق بالباطل، وربما أدى أيضا ذلك الإفراط في الحذر والتفريط في
الوضوح والإقناع إلى إتاحة الفرصة لأصحاب العقائد المنحرفة المتخبطة الذين
يحيطون عقائدهم المنحرفة والمشبوهة بهالة من التقديس والعصمة الزائفة
وبسياج من تكفير وإرهاب المخالف، كي ينشروا فكرهم ومعتقداتهم ويجذبون إليها
الكثير من الشباب المسلم بكافة سبل النشر والتوزيع وبالاستخدام الواسع
لمختلف وسائل الإعلام القديم منها والحديث. ومن نافلة القول التأكيد بأن
مثل هذا التحول السلبي المدمر قد حدث في أوساط عديدة للأسف، كانت في بداية
أمرها على سنن الحق والاستقامة في مسائل العقيدة، ثم تحولت إلى انحراف
وتطرف وغلو في مسائل العقيدة يكفر ويدمر أو ينكر ويتنكر للعقيدة من الأساس.
• الحل الثالث: ويتلخص في وضع مدخل لعقيدة أهل السنة والجماعة يشتمل على
المقدمات والعناصر العقدية المهمة ، ويهدف إلى غايتين محددتين.
الغاية الأولى: دعوة أصحاب الفضيلة علماء أهل السنة والجماعة المعاصرين
خاصة والباحثين والمفكرين العرب والمسلمين بوجه عام إلى إعطاء هذا الجانب
العقدي المهم المزيد من شريف عنايتهم واهتمامهم في مجال الكتابة والتأليف
والشرح بأسلوب عصرهم من خلال النشر الأعلامي والثقافي بوسائله الحديثة
المختلفة.
- الإجابة قدر المستطاع، على أسئلة السائلين الذين أحسنوا الظن بنا وطلبوا
منا الإسهام في هذا المجال العقدي المهم رغم اعترافنا بقصور الباع وقلة
العلم والعمل. مع التأكيد على أننا في كل ما نكتب وننشر من دراسات، لا ندعي
الإحاطة أو العصمة من الخطأ والسهو النسيان.
وكان هذا الحل الثالث هو الذي رجحناه واستحسناه وأخذنا به في التعامل مع
هذا الموضوع العقدي المهم . فما وجد القراء في هذه الدراسة إلى عقيدة أهل
السنة والجماعة من نفع وخير فهو من الله وحده وبمحض كرمه وفضله. وما وجدوا
فيه من خطأ أو تقصير أو قصور فهو من عند أنفسنا الأمارة بالسوء ومن الله
نسأل الهداية والتوفيق والسداد.
الحالة العامة عند البعثة المحمدية:
في ظل نظام مؤسس على السخرة والتمايز الطبقي الصارم. وفي مجتمع جاهلي مغرق
في جاهليته، يعبد أهله ما ينحتون، ويعيشون مما ينهبون، ويتوارون خجلا من
بعض ما ينجبون، فيدفنون بناتهم أحياء في بطون الصحاري وغياهب الرمال. القوي
منهم يأكل الضعيف والكبير يظلم الصغير والسيد يستعبد من دونه
وفي ظلام عقدي وروحي دامس من حول هذا المجتمع يتمثل في أديان وملل شتى
اعتنقها أقوام وشعوب ، منهم من قالوا لنبيهم أرنا الله جهرة فأخذتهم
الصاعقة، وطالبوه قبل أن تجف أقدامهم من ماء البحر الذي نجاهم الله بعبوره
من فرعون وبطشه وجنوده أن يجعل لهم إله، ثم عبدوا عجلا جسدا من ذهب بمجرد
أن غاب عنهم نبيهم أياما معدوادت وظلوا حوله عاكفين.
ومنهم من اخترقهم الفريق الأول بحقده وتآمره وعصبيته فانحرف بهم عن دعوة
نبيهم المبنية على المحبة والرحمة والعدالة والتواضع إلى تثليث وتدمير
وحروب وحقد حتى قال أحد مبشريهم في برنامج بثته قناة فضائية عربية . "إنني
عندما أقرأ العهد القديم الذي اعتبرته الكنيسة الكاثوليكية المصدر الأساس
للمسيحية أجد نفسي وقد وصلت إلى مناحيم بيجن أو إلى بنيامين نتينياهو وليس
إلى السيد المسيح".
ومنهم قوم يقودهم فلاسفة كلما اصطدموا بجسم أو عرض من الأعراض جعلوا له
إلها خرافيا في مملكة أسطورية من ذكور وإناث يتزاوجون ويتزاورون ويختلفون
أحيانا بل ويتناحرون.
ومنهم صابئة عبدوا الأجرام العلوية كأصحاب الهياكل الذين يعتبرون الشمس إله
كل إله، ومنهم حرانية يرون أن الخالق واحد في الأصل كثير بتكاثر الأشخاص
في رأي العين التي يتشخص الواحد بأشخاصها وتحل ذاته أو جزء من ذاته فيها
تعالى الله عما يشركون،
ومنهم الثنوية المجوس الذين عبدوا النار وقالوا بخالقين أثنين: النور خالق
الخير والظلام خالق الشر على اختلاف فرقهم. التي منها "المزدكية" التي
تقول: بأن المعبود قاعد على كرسيه في العالم الأعلى على هيئة قعود خسرو
(الملك) في العالم الأسفل تعالى الله عن ذلك.
ووراء تلك الأمم أمم تنوعت ضلالاتها وشركها من دهريين وطبيعيين نفوا وجود
الصانع المدبر الحكيم، ومن وثنين نفوا ما وراء الحس وأنكروا النبوات وقال
بعضهم بتناسخ الأرواح وتنقلها بين الحيوان والإنسان .
في هذا الخضم المتلاطم من الضلال والجبروت والجهالة، بعث الله جلت قدرته
وتقدست أسماءه نبيه محمدا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بدعوة الحق
والتوحيد والهداية التي ختم بها الرسالات وخلص بها الإنسان من آلهة الضلال
والهمجية، وأطلق العقل من عقال الخرافة والتعصب والجمود.
وللمرء أن يتصور رسولا يبعثه الله في هذه الدياجير المظلمة في مجتمعة ومن
حوله ويكلفه خالقه وباعثه جلت قدرته بأعباء رسالة تتعدى حدود مجتمعه الصغير
في مكة لتشمل العالم بأسره شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وتضطلع بمهمة هدم
متواضعات أحاطها أصحابها بهالات من القداسة والعصمة وحشدوا للدفاع عنها
أضخم وأقوى الجيوش وأكبر عناصر القوة في عصرهم، كيف يكون حجم ونوع معركته
وجهاده العظيم وما زوده الله به من قدرات وطاقات ويقين. ومن هذا التصور
يستطيع المرء أن يدرك جسامة المسئولية وثقل المهمة التي ألقاها الخالق جل
شأنه على عاتق نبيه وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فكان لها
أهل وكان الأمين المأمون الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف
الله به كل غمة. وللمرء أن يتصور أيضا حجم المشقة والعناء والمعاناة التي
تحملها صلوات الله وسلامه عليه في سبيل دعوته والتي تعجز عن احتمال بعض
منها الجبال الشوامخ والأطواد الراسخة.
لقد أدى هذا النبي العظيم الرؤوف الرحيم الصادق الأمين الأمانة كأعظم ما
يكون الأداء وبلغ الرسالة بأوفى ما يكون التبليغ، وكان التوفيق والنصر
والنجاح بفضل من الله وعون حليفه في كل خطوة وحركة وكان الانحسار والاندحار
والهزيمة في ظل دعوته المباركة، حليف الكفر والشرك وقرين الجهل والجبروت
والجمود.
لقد ارتكزت الدعوة الإسلامية المحمدية على ثلاث قواعد رئيسة:
أولا: الأيمان بالله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد، وتنزيهه جلت قدرته عن مشابهة خلقه وعن أن يحل في حادث أو أن يكون
محلا للحوادث فكل ما عداه مخلوق حادث وهو وحده الخالق القديم الذي ليس
كمثله شي، وأن كل ما تصور في ذهن الإنسان فالله تعالى بخلافه.
ثانيا: توضيح الأحكام العميلة من أدلتها التفصيلية في العبادات والمعاملات،
لما فيه خير البشرية وأمنها واستقرارها ونموها بما أنزل الله وكما أراد
لها جلت قدرته.
ثالثا: الوصول بمكارم الأخلاق وقواعد السلوك إلى الغاية القصوى في السمو
والجمال والإبداع من خلال المثل الأعلى الذي مثله سيد الخلق صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله، وقدمه آله الأطهار وصحبه الأخيار، فقد وصفه ربه
بأعظم وأشمل وصف حين خاطبه عز من قائل حكيم بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم".
وحدد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله جوهر ومضمون رسالته العظيمة حين قال
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن ثم فإن ثوابت أمه الإجابة المسلمة المرحومة التي اتفقت عليها والتي يمكن بها التمييز بين المسلم والكافر هي ثلاث:
- الإيمان المطلق بوحدانية الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
- الإيمان المطلق بنبوة ورسالة خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد بن عبد
الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وبكل ما جاء به من عند ربه وأن
دين الإسلام هو الدين الناسخ لكل الأديان والشرائع قال تعالى " ومن يبتغ
غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"
- الإيمان بالمعاد وكل ما رد في أمر المعاد في كتاب الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفي سنة سيد العباد عليه وعلى آله أفضل
الصلاة وأزكى التسليم.
ولم يكن الصحابة في وجود الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
في حاجة إلى اجتهاد في مسائل العقيدة والشريعة والسلوك، لأنه كان المرجع
الذي حكمه العدل وقوله الفصل ورده الجامع المانع في كل مسألة تطرح عليه.
وكانوا يسجلون منه وعنه كل صغيرة وكبيرة من كلامه وفعله وسلوكه الذي أصبح
منهلا للأمة بل وللإنسانية جمعا والمصدر الثاني بعد القرآن الكريم للتشريع
الإسلامي.
والحقيقية فإن صفاء الذهن العربي بعد أن زكته الدعوة المحمدية من عاهات
الشرك والخرافة والضلال، وما يتمتع به الإنسان العربي من حرية في النظر
والحركة والتعبير والانتقال، و ما تمتاز به الصحراء العربية من رحابة وفسحة
نظر، ومن مجال واسع منطلق للفكر والذكر والتفكر في الفضاء الكوني، قد كان
له أكبر الأثر في صرف العقل العربي عن الانغلاق في المجرد، وعن التيه في
مسارب التكلف، وعن الإيغال في مفاوز البحوث المعتسفة والشاذة في مسائل
العقيدة.
وقد ظل الحال على هذه الوتيرة الإيجابية طيلة أيام الصحابة الكرام وجزء من عهد الطبقة الأولى من التابعين.
نشوء النحل والمذاهب الفكرية في الوسط الإسلامي:
بعد التحاق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بالرفيق الأعلى، وبعد
انقضاء خلافة أبي بكر وعمر وجزء كبير من خلافة عثمان رضي الله عنهم ، نجم
صراعا سياسيا بين المسلمين ليس هنا محل شرح أسبابه ونتائجه. وبدأت في آخر
خلافة عثمان تتشكل جماعات وفرق، بلغت أوجها في الاصطفاف ووضوح الملامح خلال
الفترة الأخيرة من خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخصوصا بعد
التحكيم في صفين ثم بعد مقتل الإمام علي بسيف الخارجي المارق عبد الرحمن بن
ملجم، وبعد الصلح بين الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي
سفيان. وكان ذلك الاصطفاف السياسي الذي تقنع بقناع فكري وعقائدي يتوزع في
ثلاث فرق رئيسة وهي:
- الخوارج الذين رفضوا التحكيم بعد ظهور نتيجته رغم أنهم كانوا هم الذين
أرغموا الإمام علي على قبوله. وهم الذين كفّروا من عداهم وأرسلوا قولتهم
الشهيرة " لا حكم إلا لله" التي وصفها الإمام علي بأنها "كلمة حق يراد بها
باطل". لأن الحكم لله والمنفذ لحكم الله لا بد أن يكون إماما عادلا من خلق
الله. ومن هولاء الخوارج برز فريق من النواصب أعداء النبي صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله وأعداء أهل بيته الذين لا زالوا يتناسلون ويتوارثون
بغضهم لسيد الخلق وآله.
- الباطنية الغلاة وفي مقدمتهم عبد الله بن سبأ وأتباعه الذين قالوا بوجود
معاني باطنة تتناقض مع المعاني لظاهرة للآيات القرآنية تناقضا تاما، وغلوا
في الإمام علي وبعض أولاده لا حبا فيهم بل استغلالا للمحن التي تعرضوا لها
وكان هدف ذلك الغلو الممقوت في المقام الأول هو شق الصفوف وزعزعة عقائد
المسلمين.
- زعماء وكهنة بعض الملل والنحل الذين خفتت أصواتهم في عهد النبوة وفي ظل
قوة المسلمين المستمدة من وحدتهم في الصدر الأول من الخلافة الراشدة. ثم
وجدوا في الصراع السياسي الإسلامي بعد ذلك حلقة ضعف حاولوا النفاذ منها من
خلال التشكيك في عقائد المسلمين وخصوصا في مباحث ذات الله وصفاته وأسماءه.
ومن هولاء أيضا برز فريق آخر من النواصب الذين جعلوا من بغض النبي وآله
والتشكيك في تاريخهم وأنسابهم هدفا ومنهجا وخطة عمل طويلة المدى متصلة
الحلقات.
التحول الأساسي في البحوث والجدل:
بعد انتشار الإسلام على نطاق كوني واسع وتواصل حركة الفتح الإسلامي ودخول
أمم كبيرة ذات ثقافات وفلسفات وأفكار متنوعة إلى الإسلام، اقتحمت المجامع
والمدارس والحلقات الإسلامية أفكار وأسئلة ومناقشات لم تكن لها كبير أهمية
أو اهتمام في ما مضى من عهد النبوة والخلافة الراشدة.
وقد أنقسم المسلمون الجدد من غير العرب إلى فئتين:
• الفئة الأولى: وهم الغالبية العظمى، كان الاقتناع والصدق في قبول الدعوة
الجديدة هو أساس إسلامهم، حيث ألقى قسم منهم بكل موروثاته من ثقافة وفلسفة
وفكر، سلبيا كان أو إيجابيا، في سلة مهملات التاريخ، واكتفى بما جاء في
كتاب الله وسنة رسوله بشكل تام على نهج الصحابة الكرام والطبقة الأولى من
التابعين. وقسم آخر من هذه الفئة الأولى حاول الاحتفاظ بالإيجابي فقط من
موروثه في الفكر والثقافة والفلسفة والعلوم مع البحث عن ما يدعم هذا
الموروث في آيات القرآن وأحاديث الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه وعليه
وعلى آله، وعمل مع العلماء المسلمين العرب في نفس الوقت على تطوير وترجمة
الإيجابي من هذه الثقافات والعلوم إلى اللغة العربية وإعادة صياغته بما
يتلاءم وعقيدة الإسلام وشريعته فأضاف بذلك ثروة علميه وحضارية تراكمية إلى
الثقافة الإسلامية أمتد نفعها إلى كافة أرجاء المعمورة.
• الفئة الثانية: دخلت الإسلام رغبا أو رهبا دون اقتناع وصدق، فحاولت العمل
من داخله على زعزعت أركانه، وكان التشكيك في العقيدة ومحاولة طرح الموروث
السلبي من الفكر الخرافي والسفسطائي في نهره الصافي هو وسيلتها في تحقيق
مأربها في أضعاف الإسلام على أمل العودة بالمسلمين كافة إلى الأديان والملل
الضالة كل حسب دينه القديم وموروثه المنحرف.
هذه العوامل والمستجدات في مسائل العقيدة، فرضت على العديد علماء المسلمين
القادرين على مقارعة الخصوم بالحجة أن يعودوا إلى القرآن والسنة وكلام
السلف الصالح لاستخراج ما يدعم عقيدة التوحيد ويفند دعاوى الخصوم ويحمي
عقائد المسلمين من اللبس والشك البلبلة. ومن واقع أن أدوات ووسائل البحث
والحوار بين أي مناظر وخصمة يجب أن تكون محددة ومقنعة ومتفق عليها بين طرفي
الحوار،وجد بعض من هولاء العلماء أن استخدام أدوات وأساليب الفلاسفة
والمناطقة من فرضيات ونظريات وبراهين عقلية ومناهج جدلية في مناظرة الخصوم
ومقارعتهم بالحجة وتفنيد مزاعمهم وضلالاتهم وتشكيكهم هو السبيل الأمثل
للوصول بالحوار إلى غايته المقنعة المنشودة حيث أن هذه الأدوات والوسائل
كانت هي وحدها قواعد الحوار المشترك مع الخصم ووسائل الإلزام بين
المتحاورين.
ورغم الفائدة الكبيرة التي عادت على الفكر الإسلامي بوجه عام من استخدام
وسائل الفلسفة والمنطق في المناظرات مع الخصوم ومقارعة الحجة بالحجة دفاعا
عن العقيدة الإسلامية، إلا أن الشطط والإفراط في استخدام فرضيات الفلاسفة
والمناطقة ونظرياتهم وأساليبهم في الجدل أدى عند بعض المفكرين الإسلاميين
إلى حالة من العدوى المزمنة وإلى نوع من التقديس والانبهار بتلك الفرضيات
والنظريات والبراهين العقلية، وأتجه بهم إلى الركون المطلق على العقل فقط
ورفض -أو على الأقل- استبعاد النقل من نصوص القرآن والسنة في مسائل
العقيدة.
يتبع ....
الــمــقــدمــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
في عقيدة أهل السنة والجماعة كتب أعلام العلماء وأساتذة الفكر في كل جيل
مؤلفات ودراسات وشروح قيمة أفادت الدارسين والباحثين وأثرت المكتبة العربية
والإسلامية عموما وخدمت عقيدة التوحيد قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.
وحين وجدنا أنفسنا مطالبين بالتصدي للحديث حول موضوع عقيدة أهل السنة
والجماعة من خلال الأسئلة التي تطرح عبر بريد القراء أو باب الفتاوى في
مجلة "المنهاج" كانت أمامنا حلول ثلاثة علينا أن نختار واحد منها:
• الحل الأول: ويتمثل في نقل كتاب بكامله من الكتب الخاصة بعقيدة أهل السنة
والجماعة متنا وشرحا. وهذا يستدعي إعادة صف وتصحيح وإخراج الكتاب الذي يتم
اختياره، وهو أمر يستعصي على قدراتنا وإمكانياتنا المحدودة، بالإضافة إلى
أن معظم شروح وحواشي الأقدمين في هذا الشأن وغيره قد درجت على تتبع كل كلمة
بالشرح والتعليق المقرون بالاستطراد المطول في قضايا ربما مرت عرضا أثناء
الشرح وهي خارجة عن الموضوع الأساس، مما يتطلب من القاري أو الدارس بذل
الكثير من الوقت والجهد في ربط الموضوع والخروج منه بفكرة واضحة ومترابطة
في المسألة التي يعرضها الكاتب أو الشارح.
ولا نقصد بهذه الملاحظة التقليل من قيمة كتب الأقدمين أو التزهيد في
قراءتها أو اقتنائها، أو إنكار فضل مؤلفيها علينا وعلى غيرنا أو التنكر
لمكانتهم وخدمتهم للعلم والدين، خصوصا وأن الاستطراد والتداخل في الموضوعات
والتوسع في الشرح، كان أسلوب ذلك العصر الغالب في الكتابة والتأليف، ولا
يطلب من كاتب أو مؤلف أو شارح أن يخرج على أسلوب عصره ووسائل زمنه أو أن
يسبق ذلك العصر ويتخطى ما درج أهله عليه. لكن مثل ما يصدق هذا المقياس على
السلف الصالح من الكتاب والمؤلفين والباحثين، فإن علينا أيضا أن نكون
منسجمين مع عصرنا في أساليب الكتابة والبحث والنشر بما لا يمس الجوهر
والثوابت والأصول.
• الحل الثاني: ويتمثل في اللجوء إلى أحد المختصرات في عقيدة أهل السنة
والجماعة لإعادة صفه وإخراجه ونشره ليكون بمثابة إجابة على السائلين. لكن
هذه المختصرات برغم مالها من فوائد وفضل على الطلبة والمبتدئين في العصور
الماضية، إلا أنه في خضم الطرح المتواصل للعقائد المنحرفة بالدعوى والتعصب
والجهل وتكفير من يخالفها ، ومع تدفق سيل الكتب والمواقع الكثيرة التي تشرح
تلك العقائد المنحرفة، وتحط من مصداقية وقيمة كل عقيدة تخالفها وخصوصا
عقيدة أهل السنة والجماعة ، لم تعد تلك المختصرات تشف غليلا أو تشبع نهما
معرفيا أو تجيب على أسئلة كثيرة حائرة في هذه المسائل. بالنظر إلى أن أصحاب
تلك المختصرات قد درجوا في الغالب على التعامل مع موضوع العقيدة بإفراط في
الحذر وعزوف ظاهر عن التوسع في تقديم الأدلة وعن تقديم لمحة عن العقائد
التي برزت في التاريخ الإسلامي مع رفض مبدأ الحوار والمقارنة والتحليل في
الغالب، منعا لما يعتقدونه تعمقا قد يفضي إلى الحيرة أو إلى تشويش عقائد
الناشئة والعامة. لكن هذه المحاذير والقيود ربما تحولت في عصرنا الذي أصبح
مفتوحا على كل الإتجاهات والتيارات والأفكار والأخبار بالكلمة المكتوبة
وبالصوت المسموع والصورة المرئية ، إلى تفريط في إقناع شباب متعطش إلى
المعرفة والوضوح في هذه المسالة الأساسية المهمة في حياة كل مسلم وإلى
تجاهل مذموم لأسئلة كثيرة ومستجدة يطرحها عصر المعلومات الذي يتدفق فيه على
الشاب المسلم كم كبير من العقائد والأفكار والأخبار التي يختلط فيها الغث
بالسمين والحق بالباطل، وربما أدى أيضا ذلك الإفراط في الحذر والتفريط في
الوضوح والإقناع إلى إتاحة الفرصة لأصحاب العقائد المنحرفة المتخبطة الذين
يحيطون عقائدهم المنحرفة والمشبوهة بهالة من التقديس والعصمة الزائفة
وبسياج من تكفير وإرهاب المخالف، كي ينشروا فكرهم ومعتقداتهم ويجذبون إليها
الكثير من الشباب المسلم بكافة سبل النشر والتوزيع وبالاستخدام الواسع
لمختلف وسائل الإعلام القديم منها والحديث. ومن نافلة القول التأكيد بأن
مثل هذا التحول السلبي المدمر قد حدث في أوساط عديدة للأسف، كانت في بداية
أمرها على سنن الحق والاستقامة في مسائل العقيدة، ثم تحولت إلى انحراف
وتطرف وغلو في مسائل العقيدة يكفر ويدمر أو ينكر ويتنكر للعقيدة من الأساس.
• الحل الثالث: ويتلخص في وضع مدخل لعقيدة أهل السنة والجماعة يشتمل على
المقدمات والعناصر العقدية المهمة ، ويهدف إلى غايتين محددتين.
الغاية الأولى: دعوة أصحاب الفضيلة علماء أهل السنة والجماعة المعاصرين
خاصة والباحثين والمفكرين العرب والمسلمين بوجه عام إلى إعطاء هذا الجانب
العقدي المهم المزيد من شريف عنايتهم واهتمامهم في مجال الكتابة والتأليف
والشرح بأسلوب عصرهم من خلال النشر الأعلامي والثقافي بوسائله الحديثة
المختلفة.
- الإجابة قدر المستطاع، على أسئلة السائلين الذين أحسنوا الظن بنا وطلبوا
منا الإسهام في هذا المجال العقدي المهم رغم اعترافنا بقصور الباع وقلة
العلم والعمل. مع التأكيد على أننا في كل ما نكتب وننشر من دراسات، لا ندعي
الإحاطة أو العصمة من الخطأ والسهو النسيان.
وكان هذا الحل الثالث هو الذي رجحناه واستحسناه وأخذنا به في التعامل مع
هذا الموضوع العقدي المهم . فما وجد القراء في هذه الدراسة إلى عقيدة أهل
السنة والجماعة من نفع وخير فهو من الله وحده وبمحض كرمه وفضله. وما وجدوا
فيه من خطأ أو تقصير أو قصور فهو من عند أنفسنا الأمارة بالسوء ومن الله
نسأل الهداية والتوفيق والسداد.
الحالة العامة عند البعثة المحمدية:
في ظل نظام مؤسس على السخرة والتمايز الطبقي الصارم. وفي مجتمع جاهلي مغرق
في جاهليته، يعبد أهله ما ينحتون، ويعيشون مما ينهبون، ويتوارون خجلا من
بعض ما ينجبون، فيدفنون بناتهم أحياء في بطون الصحاري وغياهب الرمال. القوي
منهم يأكل الضعيف والكبير يظلم الصغير والسيد يستعبد من دونه
وفي ظلام عقدي وروحي دامس من حول هذا المجتمع يتمثل في أديان وملل شتى
اعتنقها أقوام وشعوب ، منهم من قالوا لنبيهم أرنا الله جهرة فأخذتهم
الصاعقة، وطالبوه قبل أن تجف أقدامهم من ماء البحر الذي نجاهم الله بعبوره
من فرعون وبطشه وجنوده أن يجعل لهم إله، ثم عبدوا عجلا جسدا من ذهب بمجرد
أن غاب عنهم نبيهم أياما معدوادت وظلوا حوله عاكفين.
ومنهم من اخترقهم الفريق الأول بحقده وتآمره وعصبيته فانحرف بهم عن دعوة
نبيهم المبنية على المحبة والرحمة والعدالة والتواضع إلى تثليث وتدمير
وحروب وحقد حتى قال أحد مبشريهم في برنامج بثته قناة فضائية عربية . "إنني
عندما أقرأ العهد القديم الذي اعتبرته الكنيسة الكاثوليكية المصدر الأساس
للمسيحية أجد نفسي وقد وصلت إلى مناحيم بيجن أو إلى بنيامين نتينياهو وليس
إلى السيد المسيح".
ومنهم قوم يقودهم فلاسفة كلما اصطدموا بجسم أو عرض من الأعراض جعلوا له
إلها خرافيا في مملكة أسطورية من ذكور وإناث يتزاوجون ويتزاورون ويختلفون
أحيانا بل ويتناحرون.
ومنهم صابئة عبدوا الأجرام العلوية كأصحاب الهياكل الذين يعتبرون الشمس إله
كل إله، ومنهم حرانية يرون أن الخالق واحد في الأصل كثير بتكاثر الأشخاص
في رأي العين التي يتشخص الواحد بأشخاصها وتحل ذاته أو جزء من ذاته فيها
تعالى الله عما يشركون،
ومنهم الثنوية المجوس الذين عبدوا النار وقالوا بخالقين أثنين: النور خالق
الخير والظلام خالق الشر على اختلاف فرقهم. التي منها "المزدكية" التي
تقول: بأن المعبود قاعد على كرسيه في العالم الأعلى على هيئة قعود خسرو
(الملك) في العالم الأسفل تعالى الله عن ذلك.
ووراء تلك الأمم أمم تنوعت ضلالاتها وشركها من دهريين وطبيعيين نفوا وجود
الصانع المدبر الحكيم، ومن وثنين نفوا ما وراء الحس وأنكروا النبوات وقال
بعضهم بتناسخ الأرواح وتنقلها بين الحيوان والإنسان .
في هذا الخضم المتلاطم من الضلال والجبروت والجهالة، بعث الله جلت قدرته
وتقدست أسماءه نبيه محمدا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بدعوة الحق
والتوحيد والهداية التي ختم بها الرسالات وخلص بها الإنسان من آلهة الضلال
والهمجية، وأطلق العقل من عقال الخرافة والتعصب والجمود.
وللمرء أن يتصور رسولا يبعثه الله في هذه الدياجير المظلمة في مجتمعة ومن
حوله ويكلفه خالقه وباعثه جلت قدرته بأعباء رسالة تتعدى حدود مجتمعه الصغير
في مكة لتشمل العالم بأسره شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وتضطلع بمهمة هدم
متواضعات أحاطها أصحابها بهالات من القداسة والعصمة وحشدوا للدفاع عنها
أضخم وأقوى الجيوش وأكبر عناصر القوة في عصرهم، كيف يكون حجم ونوع معركته
وجهاده العظيم وما زوده الله به من قدرات وطاقات ويقين. ومن هذا التصور
يستطيع المرء أن يدرك جسامة المسئولية وثقل المهمة التي ألقاها الخالق جل
شأنه على عاتق نبيه وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فكان لها
أهل وكان الأمين المأمون الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف
الله به كل غمة. وللمرء أن يتصور أيضا حجم المشقة والعناء والمعاناة التي
تحملها صلوات الله وسلامه عليه في سبيل دعوته والتي تعجز عن احتمال بعض
منها الجبال الشوامخ والأطواد الراسخة.
لقد أدى هذا النبي العظيم الرؤوف الرحيم الصادق الأمين الأمانة كأعظم ما
يكون الأداء وبلغ الرسالة بأوفى ما يكون التبليغ، وكان التوفيق والنصر
والنجاح بفضل من الله وعون حليفه في كل خطوة وحركة وكان الانحسار والاندحار
والهزيمة في ظل دعوته المباركة، حليف الكفر والشرك وقرين الجهل والجبروت
والجمود.
لقد ارتكزت الدعوة الإسلامية المحمدية على ثلاث قواعد رئيسة:
أولا: الأيمان بالله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد، وتنزيهه جلت قدرته عن مشابهة خلقه وعن أن يحل في حادث أو أن يكون
محلا للحوادث فكل ما عداه مخلوق حادث وهو وحده الخالق القديم الذي ليس
كمثله شي، وأن كل ما تصور في ذهن الإنسان فالله تعالى بخلافه.
ثانيا: توضيح الأحكام العميلة من أدلتها التفصيلية في العبادات والمعاملات،
لما فيه خير البشرية وأمنها واستقرارها ونموها بما أنزل الله وكما أراد
لها جلت قدرته.
ثالثا: الوصول بمكارم الأخلاق وقواعد السلوك إلى الغاية القصوى في السمو
والجمال والإبداع من خلال المثل الأعلى الذي مثله سيد الخلق صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله، وقدمه آله الأطهار وصحبه الأخيار، فقد وصفه ربه
بأعظم وأشمل وصف حين خاطبه عز من قائل حكيم بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم".
وحدد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله جوهر ومضمون رسالته العظيمة حين قال
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ومن ثم فإن ثوابت أمه الإجابة المسلمة المرحومة التي اتفقت عليها والتي يمكن بها التمييز بين المسلم والكافر هي ثلاث:
- الإيمان المطلق بوحدانية الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
- الإيمان المطلق بنبوة ورسالة خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد بن عبد
الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وبكل ما جاء به من عند ربه وأن
دين الإسلام هو الدين الناسخ لكل الأديان والشرائع قال تعالى " ومن يبتغ
غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"
- الإيمان بالمعاد وكل ما رد في أمر المعاد في كتاب الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفي سنة سيد العباد عليه وعلى آله أفضل
الصلاة وأزكى التسليم.
ولم يكن الصحابة في وجود الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
في حاجة إلى اجتهاد في مسائل العقيدة والشريعة والسلوك، لأنه كان المرجع
الذي حكمه العدل وقوله الفصل ورده الجامع المانع في كل مسألة تطرح عليه.
وكانوا يسجلون منه وعنه كل صغيرة وكبيرة من كلامه وفعله وسلوكه الذي أصبح
منهلا للأمة بل وللإنسانية جمعا والمصدر الثاني بعد القرآن الكريم للتشريع
الإسلامي.
والحقيقية فإن صفاء الذهن العربي بعد أن زكته الدعوة المحمدية من عاهات
الشرك والخرافة والضلال، وما يتمتع به الإنسان العربي من حرية في النظر
والحركة والتعبير والانتقال، و ما تمتاز به الصحراء العربية من رحابة وفسحة
نظر، ومن مجال واسع منطلق للفكر والذكر والتفكر في الفضاء الكوني، قد كان
له أكبر الأثر في صرف العقل العربي عن الانغلاق في المجرد، وعن التيه في
مسارب التكلف، وعن الإيغال في مفاوز البحوث المعتسفة والشاذة في مسائل
العقيدة.
وقد ظل الحال على هذه الوتيرة الإيجابية طيلة أيام الصحابة الكرام وجزء من عهد الطبقة الأولى من التابعين.
نشوء النحل والمذاهب الفكرية في الوسط الإسلامي:
بعد التحاق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بالرفيق الأعلى، وبعد
انقضاء خلافة أبي بكر وعمر وجزء كبير من خلافة عثمان رضي الله عنهم ، نجم
صراعا سياسيا بين المسلمين ليس هنا محل شرح أسبابه ونتائجه. وبدأت في آخر
خلافة عثمان تتشكل جماعات وفرق، بلغت أوجها في الاصطفاف ووضوح الملامح خلال
الفترة الأخيرة من خلافة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخصوصا بعد
التحكيم في صفين ثم بعد مقتل الإمام علي بسيف الخارجي المارق عبد الرحمن بن
ملجم، وبعد الصلح بين الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي
سفيان. وكان ذلك الاصطفاف السياسي الذي تقنع بقناع فكري وعقائدي يتوزع في
ثلاث فرق رئيسة وهي:
- الخوارج الذين رفضوا التحكيم بعد ظهور نتيجته رغم أنهم كانوا هم الذين
أرغموا الإمام علي على قبوله. وهم الذين كفّروا من عداهم وأرسلوا قولتهم
الشهيرة " لا حكم إلا لله" التي وصفها الإمام علي بأنها "كلمة حق يراد بها
باطل". لأن الحكم لله والمنفذ لحكم الله لا بد أن يكون إماما عادلا من خلق
الله. ومن هولاء الخوارج برز فريق من النواصب أعداء النبي صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله وأعداء أهل بيته الذين لا زالوا يتناسلون ويتوارثون
بغضهم لسيد الخلق وآله.
- الباطنية الغلاة وفي مقدمتهم عبد الله بن سبأ وأتباعه الذين قالوا بوجود
معاني باطنة تتناقض مع المعاني لظاهرة للآيات القرآنية تناقضا تاما، وغلوا
في الإمام علي وبعض أولاده لا حبا فيهم بل استغلالا للمحن التي تعرضوا لها
وكان هدف ذلك الغلو الممقوت في المقام الأول هو شق الصفوف وزعزعة عقائد
المسلمين.
- زعماء وكهنة بعض الملل والنحل الذين خفتت أصواتهم في عهد النبوة وفي ظل
قوة المسلمين المستمدة من وحدتهم في الصدر الأول من الخلافة الراشدة. ثم
وجدوا في الصراع السياسي الإسلامي بعد ذلك حلقة ضعف حاولوا النفاذ منها من
خلال التشكيك في عقائد المسلمين وخصوصا في مباحث ذات الله وصفاته وأسماءه.
ومن هولاء أيضا برز فريق آخر من النواصب الذين جعلوا من بغض النبي وآله
والتشكيك في تاريخهم وأنسابهم هدفا ومنهجا وخطة عمل طويلة المدى متصلة
الحلقات.
التحول الأساسي في البحوث والجدل:
بعد انتشار الإسلام على نطاق كوني واسع وتواصل حركة الفتح الإسلامي ودخول
أمم كبيرة ذات ثقافات وفلسفات وأفكار متنوعة إلى الإسلام، اقتحمت المجامع
والمدارس والحلقات الإسلامية أفكار وأسئلة ومناقشات لم تكن لها كبير أهمية
أو اهتمام في ما مضى من عهد النبوة والخلافة الراشدة.
وقد أنقسم المسلمون الجدد من غير العرب إلى فئتين:
• الفئة الأولى: وهم الغالبية العظمى، كان الاقتناع والصدق في قبول الدعوة
الجديدة هو أساس إسلامهم، حيث ألقى قسم منهم بكل موروثاته من ثقافة وفلسفة
وفكر، سلبيا كان أو إيجابيا، في سلة مهملات التاريخ، واكتفى بما جاء في
كتاب الله وسنة رسوله بشكل تام على نهج الصحابة الكرام والطبقة الأولى من
التابعين. وقسم آخر من هذه الفئة الأولى حاول الاحتفاظ بالإيجابي فقط من
موروثه في الفكر والثقافة والفلسفة والعلوم مع البحث عن ما يدعم هذا
الموروث في آيات القرآن وأحاديث الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه وعليه
وعلى آله، وعمل مع العلماء المسلمين العرب في نفس الوقت على تطوير وترجمة
الإيجابي من هذه الثقافات والعلوم إلى اللغة العربية وإعادة صياغته بما
يتلاءم وعقيدة الإسلام وشريعته فأضاف بذلك ثروة علميه وحضارية تراكمية إلى
الثقافة الإسلامية أمتد نفعها إلى كافة أرجاء المعمورة.
• الفئة الثانية: دخلت الإسلام رغبا أو رهبا دون اقتناع وصدق، فحاولت العمل
من داخله على زعزعت أركانه، وكان التشكيك في العقيدة ومحاولة طرح الموروث
السلبي من الفكر الخرافي والسفسطائي في نهره الصافي هو وسيلتها في تحقيق
مأربها في أضعاف الإسلام على أمل العودة بالمسلمين كافة إلى الأديان والملل
الضالة كل حسب دينه القديم وموروثه المنحرف.
هذه العوامل والمستجدات في مسائل العقيدة، فرضت على العديد علماء المسلمين
القادرين على مقارعة الخصوم بالحجة أن يعودوا إلى القرآن والسنة وكلام
السلف الصالح لاستخراج ما يدعم عقيدة التوحيد ويفند دعاوى الخصوم ويحمي
عقائد المسلمين من اللبس والشك البلبلة. ومن واقع أن أدوات ووسائل البحث
والحوار بين أي مناظر وخصمة يجب أن تكون محددة ومقنعة ومتفق عليها بين طرفي
الحوار،وجد بعض من هولاء العلماء أن استخدام أدوات وأساليب الفلاسفة
والمناطقة من فرضيات ونظريات وبراهين عقلية ومناهج جدلية في مناظرة الخصوم
ومقارعتهم بالحجة وتفنيد مزاعمهم وضلالاتهم وتشكيكهم هو السبيل الأمثل
للوصول بالحوار إلى غايته المقنعة المنشودة حيث أن هذه الأدوات والوسائل
كانت هي وحدها قواعد الحوار المشترك مع الخصم ووسائل الإلزام بين
المتحاورين.
ورغم الفائدة الكبيرة التي عادت على الفكر الإسلامي بوجه عام من استخدام
وسائل الفلسفة والمنطق في المناظرات مع الخصوم ومقارعة الحجة بالحجة دفاعا
عن العقيدة الإسلامية، إلا أن الشطط والإفراط في استخدام فرضيات الفلاسفة
والمناطقة ونظرياتهم وأساليبهم في الجدل أدى عند بعض المفكرين الإسلاميين
إلى حالة من العدوى المزمنة وإلى نوع من التقديس والانبهار بتلك الفرضيات
والنظريات والبراهين العقلية، وأتجه بهم إلى الركون المطلق على العقل فقط
ورفض -أو على الأقل- استبعاد النقل من نصوص القرآن والسنة في مسائل
العقيدة.
يتبع ....