جامعيون فضلوا الاغتراب من أجل لقمة العيش بدل البطالة
في
حين يخاطر شبابنا في الهجرة وراء البحر بحثا عن حياة أفضل، نجد "الزوفري"
يتغرب في وطنه بلا مأوى بعيدا عن الأهل، يقاوم نظرات الناس القاتلة، نراه
دائما أشعث أغبر، رث الثياب، هين المظهر، خشن اليد، في بحث دائم عن العمل
و"التهنبير"، من السهل أن تعثر عليه في رمضان أمام مطاعم الرحمة، لكن ما
لا نعرفه عن "الزوافرة" أن أجسادهم موجودة هنا في العاصمة، ولكنّ قلوبهم
وأرواحهم هناك بين أبنائهم وعائلاتهم، لقد هاجر هؤلاء من أجل اللقمة
والكسب الحلال، وهم اليوم يتحمّلون تبِعات هجرتهم، إنّهم يُمارسون القهر
والكبت على معداتهم حتّى تشبع معدات أبنائهم، إنّها التّضحية
والإيثار والحبّ في مستوياتها الرّفيعة جدّا.
تجدهم يتجمعون كل صباح بجوار مسجد وحديقة بئر خادم، شباب ومراهقين
وكهولا يعيشون الغربة في العاصمة، دفعت بهم الظروف إلى ترك الأهل والتشرد
في ورشات البناء والشوارع، المحظوظ فيهم من يجد سقفا يأويه في بناء يعمل
فيه أو داخل الحمام لم يعد في متناول الكثير منهم، من السهل أن تتعرف
عليهم إنهم "الزوافرة" بثيابهم البالية ومظهرهم الهين، فهم يمارسون الشح
على أنفسهم ليقتات أبناؤهم وعائلاتهم الذين ينتظرون منهم "مصروفا" عند
نهاية كل شهر وفي العيد، وهي اللحظة التي يتخوف منها هؤلاء، فالحصول على
عمل يومي "بريكولا" بات نادرا هذه الأيام في ظل اكتمال معظم
ورشات البناء في العاصمة.
اقتربنا منهم وكانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا من اليوم الرابع
من رمضان الذي صادف يوم الخميس، لا يفكرون في الراحة، كانوا جالسين في
جماعات متفرقة تحت ظل الأشجار ينتظرون عروض عمل من المواطنين في أي مجال،
حيث أكد أحدهم "نحن نعمل على حمل المواد، تنظيف المكان، الحفر، تحضير
الخلطات، تقطيع الحديد...، المهم أننا لا نحب الفراغ أو الراحة فقد جئنا
هنا للعمل و"التهنبير" من أجل عائلاتنا". لمحنا أحدا وسطهم يبدو أنه لم
يصل لسن الثامنة عشرة بعد، اقتربنا منه وتبادلنا معه أطراف الحديث، فاجأنا
بقصته المؤثرة، فهو مراهق عمره 17 عاما، اسمه فريد على موعد مع شهادة
البكالوريا الموسم الدراسي المقبل، قدم إلى العاصمة من ولاية جيجل تاركا
أمّا مريضة وأبا عجوزا وثلاثة أخوات، قرر العمل في الصيف لتأمين مصاريف
العائلة والدراسة. كان أبوه يشتغل في رعاية الغنم ولكن مرضه العضال دفع
العائلة إلى بيع الأغنام لتغطية مصاريف العلاج، أكد أنه عمل لمدة شهر في
ورشة بناء في إحدى التعاونيات العقارية في بئر خادم كان يتقاضى أجرا قدره
800 دج لليوم، ومع انتهاء عمل الورشة التي لم يجد لها بديلا قرر الإنضمام
الى شلة "الزوافرة" أمام مسجد بئر خادم أين يتلقى عروضا من المواطنين،
خاصة منهم أصحاب البنايات الجديدة للحمل أو الحفر أو رفع مواد البناء
مقابل مبالغ تتراوح بين 600 و1000 دج لليوم، ولكن فريد أكد أن العمل في
رمضان قليل وإن وجد فهو متعب جدا "لكننا مضطرون للعمل فالعيد سنقضيه مع
أسرنا وهم في انتظارنا وما نحمله لهم من مصروف". فريد بثيابه البالية يبيت
في ورشة بناء مع صديق له وسط عدد كبير من "الزوافرة" قرر التضحية بنفسه
وراحته من أجل عائلته وهو يأمل في نيل شهادة البكالوريا ودخول الجامعة
ويحلم أن يكون مهندسا معماريا يوما ما..
زوفري مختص في علوم الأرض والجيولوجيا
وإلى جنب فريد كان يجلس "كمال"، شاب في الثلاثين من عمره، جاء من
ولاية سكيكدة، وهو متحصل على شهادة ليسانس في "علم الأرض والجيولوجيا"،
عدم تمكنه من الحصول على منصب عمل بشهادته دفع به إلى الهجرة للعاصمة، هو
أيضا ترك وراءه إخوة بلا معيل، فأمه توفيت منذ سنوات وأبوه لحق بها العام
الماضي بعد مصارعة طويلة لداء السرطان، مؤكدا "أنا أقطن في قرية قريبة من
مدينة عزابة عملت سنة في مجال تشغيل الشباب كنت أتقاضى أجرة لا تزيد عن
4000 دج في الشهر، كانت لا تكفي حتى لمصاريف دراسة إخوتي، قررت اللحاق
ببعض أصدقائي هنا بالعاصمة بعدما أخبروني أنهم يعملون في ورشات بناء
يتقاضون فيها 1000 دج لليوم، وهو ما شجعني على المجيئ إلا أن عملي في إحدى
هذه الورشات لم يدم طويلا بعد خلافي مع المقاول الذي حرمني من أجرة أسبوع
بحجة غلاء أسعار مواد البناء". كمال أكد أيضا أن العديد من أصدقائه
"الزوافرة" حاملون لشهادات من الجامعة، لكن الظروف القاسية
دفعت بهم إلى التغرب في العاصمة بحثا عن لقمة العيش.
وغير بعيد من فريد وكمال كان رجل في الستين من العمر جالسا تحت شجرة
وهو يرسم فوق التراب بعود من حطب رسومات يختصر من خلالها ما يجول بخاطره،
سألنا عنه فاكتشفنا أنه يقطن بولاية خنشلة وهو أب لخمسة أطفال شغل منذ
سنوات رئيس ورشة بناء، ومع اكتمال أشغال الورشة وجد نفسه بدون عمل
مستقر ليلتحقق بمجموعة "الزوافرة" ببئر خادم يعمل
يوما ويجلس يومين، وهذا بالنسبة له أفضل من البطالة
خاصة وأن أبناءه الخمسة ينتظرون قدومه يوم العيد وهم
يحلمون لبس الجديد..
محاكمة مبارك ومجاعة الصومال على مائدة "الزوافرة"
ما إن ينتهي "الزوفري" من عمله الشاق حتى يشرع في رحلة بحث عن مطاعم
الرحمة المنتشرة في مختلف بلديات العاصمة، ومنهم من يتجمع أمام هذه
المطاعم ساعات قبل الإفطار لضمان مقعد بعد يوم طويل من الصوم والعطش.
لمحنا الكثير منهم أمام مطعم الرحمة ببئر خادم، ما إن فتح باب المطعم حتى
شرعوا في التدافع على مائدة الإفطار التي فيها ما لذ وطاب من الأطعمة
والأشربة التي حرم منها أهلهم في الجزائر العميقة، فنظراتهم إلى بعضهم وهم
يأكلون ويتبادلون أطراف الحديث تُخبرك بأنهم يُخفون أكثر ممّا يُبدون، كان
بعضهم منهمكا في الحديث عن محاكمة مبارك وما يحدث في ليبيا وسوريا من
ثورات، فالقوم مطلعون بشكل جيد على مايدور في العالم من أحداث، لدرجة أن
بعضهم كان يتحدث حول المجاعة التي أصابت القرن الإفريقي وعلى وجه الخصوص
الصومال، حيث علق "يا جماعة احمدوا ربي على النعمة لي راكم فيها، كاين ناس
فالصومال راهم يموتوا بالجوع كل يوم" ليرد عليه آخر "الجزائر راه تبعتلهم
مساعدات....، ومن الزوافرة من امتنع عن الحديث واكتفى بالصمت والنظر في
وجبة الإفطار فلكل منهم قصة ومسؤولية تكشف عن بعضها تجاعيد الوجه التى
لازمت حتى الشباب منهم، فبعد الشّربة يُصبح كأس من المشروبات الغازيّة
أمرا ضرورياّ لا يستنكِف "الزّوافرة" عنه، فهذا الكأس هو الذي ينعشهم، إنه
هو الذي يُشعرهم بأنّهم قد شبعوا حتّى وإن كان ذلك غير صحيح - والأكيد
أنّه غير صحيح - لأنّ صحن شربة واحد وما صاحبه من أكل لا يُمكنه أن يُرضي
المعدة، ولكنّها مسؤوليّاتهم تجاه عائلاتهم التي تجعلهم يكذِبون
على أنفسهم وعلى معداتهم..
بعد الفطور يتبادل الجميع التّهنئة بالصّحة والعافية والسّلامة،
قائلين لبعضهم "صحّ فطوركم يا جماعة" ويردّ آخرون "الله يسلّمكم"، ثم
يخرجون جماعات وفرادى، وجهتم الأولى المقهى، وهناك تبدأ جولة ثانية من
الحكايات مع القهوة والشّاي والسّجائر، ومن ثمّ يهرع كلّ إلى مُراده،
فمنهم من يقصد المسجد ومنهم من يلبث في المقهى ومنهم
من يخرج للتّجوال، وبعد هذا وذاك لن تراهم إلاّ في
اليوم الموالي قبل أذان الإفطار مع القصّة نفسها معاناة
تقهرها الرّجولة.
لسنا نقول إنّ الزّوافرة يبخلون على أنفسهم في قصد المطاعم الخاصة أو
شراء ما حسن من الثياب، ولكنّها مسؤوليّاتهم العائليّة التي تجعلهم يحسبون
للسّنتيم الذي يكسبونه ألف ألف حساب، فعائلاتهم وأبناؤهم ينتظرون منهم
حوّالات ببعض المال نهاية كلّ شهر، أو يرقبون عودتهم إليهم بشيء من
المال أو الحاجيات، وتلكم هي اللحظة التي يخشاها هؤلاء
ويشعرون بأنّها ساعة الحقيقة التي يقفون فيها أمام
مسؤولياهم وأهليهم، وعليه فهم لا يريدون أن يخِيبوا أو
يُخيِّبوا.