قرّبت
وسائل الاتصال الحديثة كل بعيد بعد ما كان التواصل صعبا بين الناس قديما.
وصدقت نبوءة عالم الاتصال الشهير "ماكلوهان" بأن العالم سيتحول إلى قرية
صغيرة. وظن الإنسان مع ظهور وسائل الاتصال -مثل الهاتف والطائرات والقطارات
والشبكة العنكبوتية "الإنترنت"- أنها ستزيد من انطلاقه وقضاء وظائفه
المادية والاجتماعية، إلا أن الرحم كانت أولى من يشكو إلى الله تعالى هجر
الناس، بسبب تلك التطورات ذات الحدين.
ولقد
حث الشرع على التطور الحضاري، وعلى كل ما يكون فيه منافع اجتماعية، غير أن
هذا الحث يجب أن يتبعه استنفاع يخدم حياة الناس، ويحقق التواصل الاجتماعي
في المجتمع المسلم والمجتمع الإنساني.
ومن
اللافت للنظر أن الإسلام يخاطب المسلمين دائما بأنهم أمة، وهو دليل على
العالمية، وهذه الأمة يجب أن تكون موصولة فيما بينها، فكان هذا التطور
الحديث في وسائل الاتصال والمواصلات معينا على تحقق التواصل بين الأمة، وأن
تصل الأمة رحمها، فضلا عن الوصل القريب في البلد الواحد، أو في المدينة أو
القرية الواحدة.
وتدخل
صلة الرحم ضمن الشعائر الاجتماعية التي أمرت بها جميع الأديان، وأولاها
الإسلام اهتماما شديدا؛ لأنه امتداد وتكميل لشرائع الله تعالى للأمم
السابقة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ
تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (البقرة: 83).
وصلة
الرحم جزء من عملية الاتصال الإنساني الذي ينير أجزاء هامة من حياة الناس،
يقول في ذلك الدكتور إبراهيم الفقي المتخصص الإداري: 'الاتصال كالوميض
مهما كان الليل مظلمًا فهو يضيء أمامك الطريق دائمًا". ولهذا، فإن صلة
الرحم ستضيء العلاقات الاجتماعية مهما كانت الخلافات بين الناس.
وهذا
النور يتطلب منا أن نبدأ بأنفسنا ولا ننتظر حتى يأتي من يبدأ لنا صلة
رحمنا؛ بل السبق فيه أولى؛ حتى لا تضيع تلك الفريضة بسبب الاتكال. وكما جاء
في حكاية صينية: "قرر شاب في العشرين من عمره أن يغير العالم كله خلال
عشرين سنة، وبعد عشرين سنة وقد صار في الأربعين من عمره وجد صعوبة شديدة في
تحقيق ما كان يربو إليه، وأنه لم يستطع أن يغير العالم، فقرر أن يغير بلده
خلال عشرين عامًا، وبعد العشرين عامًا، وقد كان في الستين من عمره، وجد
أنه لم يصنع شيئًا، فقرر أن يغير من مدينته خلال عشرين عامًا، وبعدها، وهو
ابن الثمانين آنذاك، قرر أن يغير من أسرته، وحين وصل إلى المائة لم يجد
تغييرا، فاكتشف في النهاية تلك الحقيقة: "أن التغيير يبدأ من النفس".
ولهذا،
فإنه يمكن لنا أن نقول: إن الإسلام أمر بصلة الرحم أفرادا، وأسرا، ومجتمعا
مسلما، وصلة للرحم بين الشعوب والأمم، بين الدول الإسلامية فيما بينها،
وبين أمة الإسلام والشعوب الأخرى؛ ليكون وصل الرحم هو قارب النجاة
للإنسانية كلها، وحافظ المجتمع من الانهيار الاجتماعي.
ولتكن
تلك الوسائل الحديثة في المرتبة الثانية إنْ عجز الناس عن اللقاء
والمباشرة. فإن دخول الإنسان لبيت أخيه مرة لا يعادله حديثه عبر الهاتف
"والماسنجر" ألف مرة، وإنّ تلاقي الأجساد وحرارة اللقاء والتصافح ليدخل
السرور على قلوب الناس، وتتساقط الذنوب عند التصافح كما أخبر الرسول صلى
الله عليه وسلم.
فإنْ
عجز عن الوصل الواقعي المباشر فليكن الوصل الإلكتروني حافظا للرحم من
الضياع، أو ميسرا له في بعض الأحايين التي من الصعب أن يتم فيه التواصل
المباشر بسبب السفر للخارج، أو بعد المسافات في البلد الواحد، أو غيرها من
الأسباب.
المهم
في ذلك كله أن يتواصل المسلمون فيما بينهم، وأن يتواصلوا مع غيرهم لتطبيق
تلك السنة الاجتماعية من صلة الرحم، سواء أكانت واقعيا أم إلكترونيا.