بورقيبة في ميزان التاريخ
بقلم عزالدين مبارك*
أصبح بورقيبة في زمن ما بعد الثورة عنوانا للتجاذبات السياسية ومبعث إلهام للعديد من العائلات السياسية بحثا عن الشرعية المفقودة والاتكاء على ناصية الزعيم الذي غيب قسرا ردحا من الزمن قبل وفاته بدون جلبة وضجيج.
فبورقيبة رغم قساوة نهايته البائسة في لحظة مأساوية وهو الذي كتب لنفسه تلك الطريقة المهينة بما أنه أدخل لعرينه من كان سببا في اخراجه من حلبة التاريخ من ثقب إبرة ولم يتفطن بحكم شيخوخته لمنطق البيولوجيا ، يعود اليوم رمزا لمن يريد الرجوع للفعل السياسي.
فلا ينكر أحد من عايش زمن بورقيبة بأن لا يمنحه الزعامة والنبوغ وهو الذي أرسى قواعد الدولة الحديثة ونشر التعليم المجاني وحارب الفقر والتخلف وساند حقوق المرأة وغير ذلك من الانجازات الجليلة وقد أصاب في الكثير من الأعمال رغم قساوة الظروف وشح الموارد.
كما أن بورقيبة ليس قديسا ومعصوما من الخطأ وليس الوحيد الذي ناضل ضد الاستعمار وساهم في بناء الدولة التونسية ولا يمكن بأية حال بخس جليل أفعالهم وعظيم تضحياتهم حتى لا يكون بورقيبة الشجرة التي تغطي الغابة.
فبورقيبة كزعماء جيله لم يكن ديمقراطيا بالمفهوم المعاصر للكلمة بحيث كان الحزب هو الدولة ولا وجود لمعارضة فعلية يعتد بها وحتى اختلافه مع صالح بن يوسف لم يكن في جوهره غير اختلاف في الرؤى وحرب على الكراسي.
والمعارضة اليوسفية تحولت في ما بعد إلى صراعات دموية وكان من الممكن تجنب ما حدث بالحكمة والتبصر وها هي اليوم تعود القضية من جديد كشعلة من لهب ينفخ فيها الساسة ودخانها يزكم النفوس ويعمي الأبصار والغالبية من الناس لا تعرف تفاصيل الحقائق.
وقد كان دور النقابيين والشغالين أساسيا في مساندة أطروحات بورقيبة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فهم من بنوا المؤسسات والمصانع وطوروا الانتاج بسواعدهم وفكرهم وثقفوا العمال إلى حدود بروز التناقض الجوهري بين المطالب المستحقة للطبقة الشغيلة الكادحة والسياسة الاقتصادية المتبعة والمنحازة للأعراف في ظل أزمات عالمية طاحنة.
ومع تقدمه في السن وغياب أبرز المعاونين الأوفياء من رعيل فترة النضال ، أصبح بورقيبة بدون بوصلة وخاصة بعد اشتداد المد الاسلامي بحكم تدني المستوى المعيشي والخواء الفكري والتقييد على الحريات والتوزيع الغير عادل للثروة.
وبين غفوة وأخرى يجاهد المجاهد الأكبر البقاء على مصطبة التاريخ الآيلة للسقوط متشبثا بأوهام العظمة والزعامة متحديا منطق البيولوجيا مؤملا أن يلقي إطلالة قصيرة على القرن الواحد والعشرين حتى لا ينعت بوحيد القرن.
وعندما جاء بالثعلب بن علي كعصا يتكئ عليها في كبره وشيخوخته ويهش بها بعض شياهه المتنطعة والمارقة عن طاعته تيقن الجميع أن نهاية بورقيبة حتمية وهذا ما كان.
ومن مفارقات التاريخ أن بورقيبة الذي بنفس الطقوس تقريبا رمى الباي المنكود الحظ في يوم نحس خارج ردهات التاريخ يأتي بنفسه وحسب اختياره بمن يجره خارج القصر عنوة في يوم أغبر وكأن التاريخ يعيد نفسه.
ولم يكن وهو الفطن النبيه بخصائص الرجال ومعادنهم أن يختار لنا وهو على عتبة الرحيل واحدا من اشرس العباد وأفسدهم طباعا ليسوسنا بعد مماته وقد ذاق هو أيضا مرارة ما فعل قبل أن يودع الدنيا في أواخر القرن الماضي.
وبما أن التاريخ له ميزانه الخاص ولا تفوته شاردة ولا واردة وعزيز المذهب على قول العلامة ابن خلدون فقد انتقمت الثورة المجيدة للزعيم وأعادته كرها واستحقاقا لرحى التاريخ حتى نعرف ما له وما عليه وهذا واجب المؤرخين الصادقين وليس على منوال كتبة السلطان والمداحين.
وكانت لبورقيبة بعد سقطة الديمقراطية أن رمانا في غفلة من التاريخ بديكتاتورية بشعة كادت بأفعالها المشينة أن تغيب ما قام به الزعيم من جليل الأفعال لكن الذاكرة الشعبية لا تنسى الرجال الذين خدموا البلاد بصدق وتجرد وتحفظهم إلى حين يفعل التاريخ مكره المعتاد.
أما العائدون لنبش قبر الزعيم من جديد والباحثون عن شرعية كانوا قد فقدوها يوم تخلوا عن زعيمهم الذي جعل منهم أسيادا فريسة للساكن الجديد للقصر ولم يحركوا ساكنا قد غاب عنهم أن بورقيبة أصبح إرثا وحقا مشاعا للجميع وأن عصره قد ولى وانتهى بخيباته وخيراته دون رجعة.
ومن يريد المشاركة في بناء هذا البلد عليه نحت تاريخه بنفسه مثلما فعل بورقيبة وبقية الزعماء الأفذاذ ولا يتسول التاريخ تزلفا ويقف على أعتاب الموتى طالبا العون والمدد والتعاويذ والبركات.
*كاتب وشاعر
بقلم عزالدين مبارك*
أصبح بورقيبة في زمن ما بعد الثورة عنوانا للتجاذبات السياسية ومبعث إلهام للعديد من العائلات السياسية بحثا عن الشرعية المفقودة والاتكاء على ناصية الزعيم الذي غيب قسرا ردحا من الزمن قبل وفاته بدون جلبة وضجيج.
فبورقيبة رغم قساوة نهايته البائسة في لحظة مأساوية وهو الذي كتب لنفسه تلك الطريقة المهينة بما أنه أدخل لعرينه من كان سببا في اخراجه من حلبة التاريخ من ثقب إبرة ولم يتفطن بحكم شيخوخته لمنطق البيولوجيا ، يعود اليوم رمزا لمن يريد الرجوع للفعل السياسي.
فلا ينكر أحد من عايش زمن بورقيبة بأن لا يمنحه الزعامة والنبوغ وهو الذي أرسى قواعد الدولة الحديثة ونشر التعليم المجاني وحارب الفقر والتخلف وساند حقوق المرأة وغير ذلك من الانجازات الجليلة وقد أصاب في الكثير من الأعمال رغم قساوة الظروف وشح الموارد.
كما أن بورقيبة ليس قديسا ومعصوما من الخطأ وليس الوحيد الذي ناضل ضد الاستعمار وساهم في بناء الدولة التونسية ولا يمكن بأية حال بخس جليل أفعالهم وعظيم تضحياتهم حتى لا يكون بورقيبة الشجرة التي تغطي الغابة.
فبورقيبة كزعماء جيله لم يكن ديمقراطيا بالمفهوم المعاصر للكلمة بحيث كان الحزب هو الدولة ولا وجود لمعارضة فعلية يعتد بها وحتى اختلافه مع صالح بن يوسف لم يكن في جوهره غير اختلاف في الرؤى وحرب على الكراسي.
والمعارضة اليوسفية تحولت في ما بعد إلى صراعات دموية وكان من الممكن تجنب ما حدث بالحكمة والتبصر وها هي اليوم تعود القضية من جديد كشعلة من لهب ينفخ فيها الساسة ودخانها يزكم النفوس ويعمي الأبصار والغالبية من الناس لا تعرف تفاصيل الحقائق.
وقد كان دور النقابيين والشغالين أساسيا في مساندة أطروحات بورقيبة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فهم من بنوا المؤسسات والمصانع وطوروا الانتاج بسواعدهم وفكرهم وثقفوا العمال إلى حدود بروز التناقض الجوهري بين المطالب المستحقة للطبقة الشغيلة الكادحة والسياسة الاقتصادية المتبعة والمنحازة للأعراف في ظل أزمات عالمية طاحنة.
ومع تقدمه في السن وغياب أبرز المعاونين الأوفياء من رعيل فترة النضال ، أصبح بورقيبة بدون بوصلة وخاصة بعد اشتداد المد الاسلامي بحكم تدني المستوى المعيشي والخواء الفكري والتقييد على الحريات والتوزيع الغير عادل للثروة.
وبين غفوة وأخرى يجاهد المجاهد الأكبر البقاء على مصطبة التاريخ الآيلة للسقوط متشبثا بأوهام العظمة والزعامة متحديا منطق البيولوجيا مؤملا أن يلقي إطلالة قصيرة على القرن الواحد والعشرين حتى لا ينعت بوحيد القرن.
وعندما جاء بالثعلب بن علي كعصا يتكئ عليها في كبره وشيخوخته ويهش بها بعض شياهه المتنطعة والمارقة عن طاعته تيقن الجميع أن نهاية بورقيبة حتمية وهذا ما كان.
ومن مفارقات التاريخ أن بورقيبة الذي بنفس الطقوس تقريبا رمى الباي المنكود الحظ في يوم نحس خارج ردهات التاريخ يأتي بنفسه وحسب اختياره بمن يجره خارج القصر عنوة في يوم أغبر وكأن التاريخ يعيد نفسه.
ولم يكن وهو الفطن النبيه بخصائص الرجال ومعادنهم أن يختار لنا وهو على عتبة الرحيل واحدا من اشرس العباد وأفسدهم طباعا ليسوسنا بعد مماته وقد ذاق هو أيضا مرارة ما فعل قبل أن يودع الدنيا في أواخر القرن الماضي.
وبما أن التاريخ له ميزانه الخاص ولا تفوته شاردة ولا واردة وعزيز المذهب على قول العلامة ابن خلدون فقد انتقمت الثورة المجيدة للزعيم وأعادته كرها واستحقاقا لرحى التاريخ حتى نعرف ما له وما عليه وهذا واجب المؤرخين الصادقين وليس على منوال كتبة السلطان والمداحين.
وكانت لبورقيبة بعد سقطة الديمقراطية أن رمانا في غفلة من التاريخ بديكتاتورية بشعة كادت بأفعالها المشينة أن تغيب ما قام به الزعيم من جليل الأفعال لكن الذاكرة الشعبية لا تنسى الرجال الذين خدموا البلاد بصدق وتجرد وتحفظهم إلى حين يفعل التاريخ مكره المعتاد.
أما العائدون لنبش قبر الزعيم من جديد والباحثون عن شرعية كانوا قد فقدوها يوم تخلوا عن زعيمهم الذي جعل منهم أسيادا فريسة للساكن الجديد للقصر ولم يحركوا ساكنا قد غاب عنهم أن بورقيبة أصبح إرثا وحقا مشاعا للجميع وأن عصره قد ولى وانتهى بخيباته وخيراته دون رجعة.
ومن يريد المشاركة في بناء هذا البلد عليه نحت تاريخه بنفسه مثلما فعل بورقيبة وبقية الزعماء الأفذاذ ولا يتسول التاريخ تزلفا ويقف على أعتاب الموتى طالبا العون والمدد والتعاويذ والبركات.
*كاتب وشاعر