التعليم بين رهانات الحداثة والتوظيف السياسي
بقلم عزالدين مبارك*
راهنت الدولة التونسية منذ استقلالها على التعليم بحيث رغم شح مواردها فقد خصصت نسبة كبيرة من الميزانية لهذا الباب لما له من دور في التنمية والتطور والقضاء على الأمية والتخلف. وقد مرت التجربة من سياسة الكم لحاجة البلاد للأطر والأعوان وذلك لملء الفراغ الذي تركه رحيل المستعمر إلى سياسة الكيف والجدارة حتى وصلنا إلى مرحلة التوظيف السياسي.
فقبل فترة الاستقلال كان التعليم مقتصرا على أبناء الأعيان وعلية القوم وبعض المغامرين والدائرين في فلك البايات ثم الاستعمار فيما بعد للقيام بوظائف معينة مرتبطة بمصالح الطبقات المتنفذة والحاكمة.
وفي بداية الاستقلال أصبح التعليم شعبيا وشبه ديمقراطي فتمكن العديد من أبناء الطبقات الكادحة وخاصة في الأرياف من ولوج المدارس والتفوق في الدراسة والوصول إلى الجامعة والحصول على الشهادات العليا باقتدار رغم العراقيل الكثيرة والدخول بيسر إلى الحياة العملية.
وفي أواسط السبعينات وبعد أن تم الاكتفاء الذاتي من الإطارات والأعوان وأصبحت الإدارة عاجزة عن التوظيف اتجهت السياسة التعليمية إلى الانتقائية والكيف بحيث أصبح عدد المتخرجين من الجامعات مرتبطا بسوق الشغل وذلك للتحكم في بطالة أصحاب الشهائد العليا.
وفي مرحلة لا حقة وخاصة بعد قدوم بن علي للحكم وتطور أعداد التلاميذ والطلبة وتعدد الشعب والاختصاصات في جميع مراحل التعليم وقع فصل سوق الشغل عن عدد المتخرجين من الجامعة فدخلنا في معمعة التوظيف السياسي بحيث أصبح النجاح شبه آلي والحصول على الشهادة مضمون بأقل مجهود ممكن.
وهذه السياسة التي أدت مع مرور الوقت إلى تآكل الرصيد المعرفي والعلمي لأغلب التلاميذ والطلبة فانخفضت القيمة الحقيقية للشهادة ولم يعد لها وزن في سوق الشغل الذي تغيرت ملامحه ورهاناته وحاجياته في عالم متحول تطغى عليه المعارف الحديثة والتكنولوجيا المتطورة. والنتيجة الحتمية لهذه السياسة هي العدد الهائل من أصحاب الشهائد العليا العاطلين عن العمل والترتيب المخجل لجامعاتنا على مستوى العالم.
فالتوظيف السياسي للتعليم بحيث يصبح في خدمة الحاكم وأجنداته الخفية والمعلنة مآله الفشل الذريع لأنه مرتبط بالأشخاص والأحزاب وليس بمنظومة المجتمع والدولة وحاجيات الشعب ومستقبله القريب والبعيد.
وتعليمنا الذي ورثناه عن الحقبة الماضية ورغم المجهودات المبذولة من جميع الأطراف لم يحقق النقلة النوعية ولم يخرج المبدعين والمفكرين والعلماء بما فيه الكفاية لأنه بقي تعليما كلاسيكيا تطغى عليه الإجراءات والقواعد الجافة والأساليب البالية وعرضة للتوظيف السياسي.
فلا بد إذا من إصلاحات جوهرية تنهض بالتعليم بعيدا عن التوظيف السياسي والمزايدات الحزبية حتى تعود للشهادة العلمية قيمتها الحقيقية ويواكب التطورات الحديثة ويؤدي دوره المجتمعي باقتدار وكفاءة ولا يكون كالعادة الثقيلة التي يقوم بها الطالب والمدرس بدون اهتمام وعزيمة.
فالتعليم هو أساس قوة الأمم وعنوان تقدمها وحضورها في المجتمع الدولي وتتحرك بواسطته كل الأنشطة والأعمال ولم يعد في زمن العولمة والتكنولوجيا الاكتفاء بالتفرج والانزواء دون الشروع في مرحلة التحديث الضرورية والملحة.
*كاتب ومحلل سياسي