صلاة الجماعة
الأول : حكم صلاة الجماعة:
عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". (إسناده صحيح) .
وفي رواية عند أحمد: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وآمر فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار".
وفي إسناد أحمد: أبو معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي المشهور بكنيته، ضعيف.
وقوله: "حبواً" أي المشي على الأيدي والركب، وهو الزحف كما يزحف الصغير.
خص النبي صلى الله عليه وسلم الصلاتين وهما العشاء والفجر وجعلهما ثقلاً على المنافقين لأن العشاء كانت وقت الإيواء إلى البيوت من العمل، وكانت ظلمة الليل تمنعهم من الخروج من البيت. وأما الفجر فلذة النوم تمنع من القيام وخاصة في البرد الشديد.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لأنهم ما كانوا يؤدون الصلاة على جهة الاحتساب فكلما وجدوا فرصة للغياب لم يفرطوا فيها، بل اغتنموها فكأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمنين تاركي حضور الجماعة في صلاتي الفجر والعشاء بالمنافقين، وهددهم بالإحراق بالنار.
واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة لأنها لو كانت سنة لما هدد النبي صلى الله عليه وسلم تاركها بالتحريق.
فتفرع عن ذلك عدة أقوال في حكم صلاة الجماعة منها:
1- أنها فرض على الأعيان: وهو رأي الأوزاعي، وأحمد، وداود الظاهري، بعض محدثي الشافعية كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، ثم اختلف هؤلاء، فقال داود الظاهري: إنها شرط في صحة الصلاة، ففي المحلى "ولا تجزي صلاة فرض أحداً من الرجال، إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعداً ولابد، فإذا لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحداً يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة" .
وذكر ابن عقيل من الحنابلة وجهاً في اشتراطها عن أحمد أيضاً قياساً على سائر واجبات الصلاة. والصحيح عنه أنها ليست شرطاً في صحة الصلاة بدليل عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على اللذين صليا في رحالهما.
يقول ابن دقيق العيد: "ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد في أظهر قوليه بوجوبها على الأعيان بدون شرطية" .
وكذلك انعقد الإجماع على أن من صلى في بيته وحده لا يجب عليه الإعادة.
2- وذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة. وهو رأي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة، وبه قال الثوري: وللشافعي ومالك قول بأنها فرض كفاية.
أدلة القائلين بوجوب الجماعة:
1- قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} (سورة النساء).
هذه الآية تختص بصلاة الخوف، فإذا لم يأذن اللّه أن نتخلف عن الجماعة في حالة الخوف، ففي الأمن أولى.
قال ابن كثير: "وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ لك".
وقال ابن قدامة: "ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها" .
2- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى أن يتخلف عن الجماعة مع عذره.
قال أبو هريرة: "أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول اللّه: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فرخص له، فلما ولىَّ دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم. قال: "فأجب" .
وعن عمرو بن أم مكتوم أنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إني ضرير البصر، شاسع الدار، لي قائد لا يلاومني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟. قال: "هل تسمع النداء؟"قال: نعم. قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة". وفي رواية "قال: يا رسول اللّه إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟. قال: "تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟". قال: نعم. فقال: "فحي هلا"، ولم يرخص"
قوله: يلاومني من الملاومة أي الموافقة والمناسبة.
قال الخطابي: "هكذا يروى في الحديث بالواو، ولكن الصواب: يلايمني: أي يوافقني، وأما الملاومة فإنها من اللوم وليس هذا موضعه".
والهوام : هوام الأرض أي حشراتها.
فحي هلا: حي بمعنى هلمَّ، وهلا: بمعنى عجل وأسرع.
قال الخطابي: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك ندباً لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم".
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: "ليس لأحد من خلق في الحضر، والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة". وقال الأوزاعي: "لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعات، سمع النداء أو لم يسمع". وكان أبو ثور يوجب الجماعة. واحتج هو وغيره ممن أوجبه بأن اللّه سبحانه وتعالى أمر أن يصلى جماعة في حال الخوف، ولم يعذر في تركها فعقل أنها في حال الأمن أوجب.
وقال : "وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا على الأعيان. وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة، وإنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال. واحتجوا في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". انتهى كلامه.
2- حديث ابن عباس: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر، قال: وما العذر؟، قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه صلاته التي صلى".
رواه أبو داود والدارقطني والحاكم كلهم بطرق عن أبي جناب، عن مغراء العبدي، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عنه.
قال أبو داود: "روى عن مغراء أبو إسحاق أيضاً".
وسكت عليه الحاكم والذهبي.
ومغراء: بفتح أوله وسكون المعجمة - أبو مخارق الكوفي ذكره ابن حبان في الثقات وطعن فيه عبد الحق وتكلم فيه الذهبي. قال ابن القطان: "أنكر على عبد الحق طعنه في حديثه، ولا يعرف فيه تجريح".
وفيه يحيى بن أبي حية، أبو جناب الكلبي: قال الحافظ: "ضعفوه لكثرة تدليسه".
وقال المنذري: "أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي ضعيف، وأخرجه ابن ماجة بنحوه وإسناده أمثل وفيه نظر". انتهى.
وحديث ابن ماجة الذي أشار إليه المنذري هو بلفظ "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر".
رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم كلهم من طرق عن هشيم بن بشير عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. كما رواه الحاكم أيضا بطريق عبد الرحمن بن غزوان أبي نوح المعروف بقراد عن شعبة. وقال: "هذا الحديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهشيم، وقراد أبو نوح ثقتان، فإذا وَصَلاه فالقول فيه قولهما". انتهى. ووافقه الذهبي وقال: الدارقطني بعد ذكر هذا الحديث بطريق هشيم بن بشير عن شعبة، حدثنا ابن مبشر وآخرون قالوا: أخبرنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد عن شعبة بإسناده نحوه.
ثم قال: "رفعه هشيم، وقراد شيخ من البصريين مجهول". انتهى.
وقراد هذا الذي زعمه الدارقطني هنا أنه مجهول قد وثقه هو نفسه في الجرح والتعديل كما نقله عنه الحافظ في التهذيب .
قال الحافظ: "ورواه قاسم بن أصبغ في مسنده موقوفاً ومرفوعاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابت به ولم يقل في المرفوع: "إلا من عذر". ثم ذكر كلام الحاكم وأنه أخرج في مستدركه بعض الشواهد، منها: عن أبي موسى الأشعري وهو من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين عن أبي بردة عنه بلفظ: "من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له". ثم قال: ورواه البزار من طريق قيس بن الربيع عن أبي حسين أيضاً. ورواه من طريق سماك عن أبي بردة عن أبيه موقوفاً". وقال البيهقي: "الموقوف أصح. ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر، وضعفه، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه". انتهى كلام الحافظ .
وقال الحاكم: "وقد صحت الرواية فيه عن أبي موسى عن أبيه (هكذا والصحيح عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه)". ووافق الذهبي على تصحيح الحديث.
قال الكاساني: "تجب الجمعة على الرجال العاقلين الأحرار القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد ومقطوع اليد والرجل من خلاف والشيخ الكبير لا يقدر على المشي والمريض"انتهى لأن هؤلاء من أصحاب الأعذار.
4- حديث جابر بن عبد اللّه: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"وهو حديث مشهور بين الناس وليس له إسناد ثابت. فقد رواه الدارقطني عن جابر بن عبد اللّه وفيه: محمد بن سكين الشقري المؤذن. قال عنه الذهبي: لا يعرف وخبره منكر. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر. ورواه العقيلي في الضعفاء وضعفه. ورواه أيضاً هو والحاكم . عن أبي هريرة: وفيه سليمان بن داود اليمامي قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان متروك. ورواه ابن عدي في الكامل وضعفه، ورواه أيضا عن علي بن أبي طالب. وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف جداً.
وقال ابن الجوزي: رواه عمر بن راشد من حديث عائشة. قال ابن حبان: لا يحل ذكر عمر إلا على سبيل القدح فيه .
ذكر السيوطي في الجامع الصغير ، والعجلوني في كشف الخفاء .
وقالا: إنه ضعيف. هذه هي بعض ما روي في هذا الموضوع وإليكم الآن:
وجهة نظر الجمهور القائلين بعدم وجوب الجماعة:
نظر الجمهور إلى الأحاديث التي مر ذكرها، وإلى الأحاديث التي تفضل الجماعة على الفرد بدرجات فقالوا: نحمل هذه الأحاديث على تأكيد الجماعة وعدم التهاون فيها لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "على صلاته وحده" يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة (أفعل) الاشتراك في أصل التفاضل فإن ذلك يقتضي أيضاً وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه.
قال الإمام الشافعي: "ومنعني أن أقول إن صلاة الرجل لا تجوز وحده وهو يقدر على الجماعة بحال تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل لا تجزئ المنفرد صلاته، وأنا قد حفظنا أن قد فاتت رجالا معه الصلاة فصلوا بعلمه منفردين، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا، وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوما فجاءوا المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد، فصلى كل واحد منهم منفردا" .
قال القرطبي: ولا يقال إن لفظة (أفعل) قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} . لأنا نقول: إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة (أفعل) مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا: هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد.
ولا يقال: يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله: صلاة الفذّ صيغة عموم فيشمل من صلى منفرداً بعذر، وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل، وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور .
ويحتج على الظاهرية القائلين بالوجوب بحديث أبي هريرة أنه بمقتضى مذهبهم لا يدل على وجوب الجماعة في غير الفجر والعشاء، لأنهم يأخذون بالظاهر، فإذا ثبت أن الصلوات الأخرى غير واجبة، وجب أن نحمل حديث أبي هريرة على غير الوجوب أيضاً لأن الصلوات الأخرى لا يختلف حكمها.
فإذا كان كذلك وجب تأويل حديث أبي هريرة حتى يصلح أن يكون حكمه مثل الصلوات الأخرى.
وإليكم بعض هذه التأويلات نقلاً من الحافظ:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه.
وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه كما أن تركه لهما حال التحريق لا يستلزم الترك مطلقا لإمكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده.
2- إنها لو كانت شرطاً أو فرضاً لبين ذلك عند التوعد.
يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.
قال ابن دقيق العيد: بأن البين قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة.
فلما قال: قد "هممت" دل على وجوب الحضور.
3- قال الباجي وغيره: إن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار.
وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزاً بدليل حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلانا فاحرقوهما بالنار". ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
رواه البخاري في الجهاد في باب لا يعذب بعذاب اللّه، وأصحاب السنن، إلا أن هذا الحكم كان خاصا بالكفار.
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد فلو كان واجباً ما عفا عنهم.
قال القاضي عياض: ليس في الحديث حجة لأنه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل وزاد النووي: ولو كان فرض عين لما تركهم.
وأجاب ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكون انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه وقد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون". الحديث.
5- قالوا: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة وهو متعقب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة" أي لا يحضرون، وفي رواية أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع". أي في الجماعة.
6- إن هذا التهديد ورد في حق المنافقين لتركهم الجماعة. تعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وتعقب هذا التعقيب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا إن ادعي أن ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم.
قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء…".
وبقوله : "لو يعلم أحدكم" لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية، لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان: "لا يشهدون العشاء في الجميع". وقوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة" وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة". فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه اللّه به من الكفر والاستهزاء. انتهى .
وأجاب الجمهور عن حديث ابن أم مكتوم وغيره من أصحاب الأعذار بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد لهم رخصة تحصل لهم فضيلة الجماعة من غير حضورها، وليس معناه إيجاب الحضور على الأعمى، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم رخص لعتبان بن مالك - رضي اللّه عنه - حين قال: يا رسول اللّه إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سنفعل". فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أين تريد؟". فأشار إلى ناحية من البيت فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين.
وفي رواية إن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة، والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول اللّه في بيتي مكاناً أ تخذه مصلى … الخ .
وقالوا أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر رجلين صليا في رحالهما بإعادة الصلاة، ولم يبين لهما أن حضور الجماعة واجب وهذا وقت بيانه.
ثم الاستدلال بحديثي الأعمى وأبي هريرة على وجوب مطلق الجماعة ففيه نظر، لأن الدليل أخص من الدعوى إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لسامع النداء.
وكان من جملة أدلتهم أيضاً حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً وهو "إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى، والذي ينتظر الصلاة يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام".
وأيضا حديث أبي هريرة بهذا المعنى.
وأما حديث ابن عباس المتقدم بلفظ "من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر". فإن المراد به كاملة على أن في إسناده يحيى بن أبي حية أبو جناب ضعيف كما سبق. واللّه تعالى أعلم بالصواب.
الثاني : كيف تحصل فضيلة الجماعة؟
تحصل فضيلة الجماعة بالاثنين وأكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في قوله: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". فسوى الجماعات في الفضل سواء كثرت أم قلت.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهم التضعيف خمسا وعشرين. انتهى.
ولكنه لا ينفي مزيد الفضل إذا كان أكثر، لاسيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما أكثر فهو أحب إلى اللّه" .
والصحيح أن الجماعة تحصل باثنين لما رواه مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال: "إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما".
وقد بوب البخاري في صحيحه: الاثنان فما فوقهما جماعة. وهذه ترجمة مأخوذة من حديث ورد من طرق ضعيفة منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير، وفي أفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمر، وفي البيهقي من حديث أنس، وفي الأوسط للطبراني وعند أحمد من حديث أبي أمامة: "أنه رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل يصلي معه فقال: "هذان جماعة" والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة"أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح.
وقال الإمام النووي: "قال أصحابنا: أقل الجماعة اثنان إمام ومأموم، فإذا صلى رجل برجل، أو بامرأته، أو أمته، أو بنته أو غيرهم أو بغلامه، أو بسيدته أو بغيرهم حصلت لهما فضيلة الجماعة التي هي خمس أو سبع و عشرون درجة، وهذا لا خلاف فيه، ونقل الشيخ أبو حامد وغيره فيه الإجماع".
وذلك بدون تفريق ما بين الفرض والنفل. وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا تنعقد الجماعة بصبي، وذهب هو في رواية، والإمام مالك إلى الصحة في النافلة دون الفرض.
وعموم الأحاديث قاضية على هذا الخلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين بأن الجماعة لا تنعقد مع صبي فالأمر على الأصل حتى يثبت بالدليل ما يخالفه.
الثالث : العدد الصحيح لمضاعفة فضل صلاة الجماعة على الفذ
قال الترمذي: عامة من روى هذا الحديث قالوا خمساً وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال: سبعا وعشرين.
قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد اللّه العمري عن نافع فقال فيه: خمس وعشرون. لكن العمري ضعيف. ووقع عند أبي عوانه في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع فإنه قال فيه: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد اللّه وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة . وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك ابن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع وأما غير ابن عمر، فصح عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن مسعود، عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجة، والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد اللّه بن زيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبي فقال: أربع أو خمس على الشك وسوى رواية أبي هريرة عند أحمد فقال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين، وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذاً لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ.
ثم قال: وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه:
منها : أن ذكر القليل لا ينفي ذكر الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه اللّه تعالى بزيادة الفضل، فأخبره بالسبع وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه.
ومنها : الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده.
ومنها : بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع.
ومنها: إيقاعها في المسجد وغيره.
ومنها: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره.
ومنها : الفرق بإدراك كلها أو بعضها.
ومنها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم.
وقد رجح الحافظ دخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع.
وقال: الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى، ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوة التي قصرت علوم الألباب عن إدراك حقيقتها كلها. انتهى كلام الحافظ من الفتح.
وقد أطال الحافظ الكلام في هذا الحديث وبيان المفهوم المراد من العدد، فمن أحب الإطلاع عليه فليرجع إليه.
والذي يظهر لي أن بيان فضائل الأعمال بالأعداد أمر معروف وشائع في الشريعة الإسلامية في مثل فضائل التسبيح والتهليل والتحميد وهو أمر متعارف أيضا بين الناس في المسابقة والمناقشة لتعيين أجر معدود لمن فعل كذا ولمن فعل كذا...
والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وإلى حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.
الأول : حكم صلاة الجماعة:
عن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". (إسناده صحيح) .
وفي رواية عند أحمد: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وآمر فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار".
وفي إسناد أحمد: أبو معشر، وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي المشهور بكنيته، ضعيف.
وقوله: "حبواً" أي المشي على الأيدي والركب، وهو الزحف كما يزحف الصغير.
خص النبي صلى الله عليه وسلم الصلاتين وهما العشاء والفجر وجعلهما ثقلاً على المنافقين لأن العشاء كانت وقت الإيواء إلى البيوت من العمل، وكانت ظلمة الليل تمنعهم من الخروج من البيت. وأما الفجر فلذة النوم تمنع من القيام وخاصة في البرد الشديد.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لأنهم ما كانوا يؤدون الصلاة على جهة الاحتساب فكلما وجدوا فرصة للغياب لم يفرطوا فيها، بل اغتنموها فكأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمنين تاركي حضور الجماعة في صلاتي الفجر والعشاء بالمنافقين، وهددهم بالإحراق بالنار.
واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة لأنها لو كانت سنة لما هدد النبي صلى الله عليه وسلم تاركها بالتحريق.
فتفرع عن ذلك عدة أقوال في حكم صلاة الجماعة منها:
1- أنها فرض على الأعيان: وهو رأي الأوزاعي، وأحمد، وداود الظاهري، بعض محدثي الشافعية كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، ثم اختلف هؤلاء، فقال داود الظاهري: إنها شرط في صحة الصلاة، ففي المحلى "ولا تجزي صلاة فرض أحداً من الرجال، إذا كان بحيث يسمع الأذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإمام، فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلي في جماعة مع واحد إليه فصاعداً ولابد، فإذا لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحداً يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة" .
وذكر ابن عقيل من الحنابلة وجهاً في اشتراطها عن أحمد أيضاً قياساً على سائر واجبات الصلاة. والصحيح عنه أنها ليست شرطاً في صحة الصلاة بدليل عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على اللذين صليا في رحالهما.
يقول ابن دقيق العيد: "ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد في أظهر قوليه بوجوبها على الأعيان بدون شرطية" .
وكذلك انعقد الإجماع على أن من صلى في بيته وحده لا يجب عليه الإعادة.
2- وذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة. وهو رأي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة، وبه قال الثوري: وللشافعي ومالك قول بأنها فرض كفاية.
أدلة القائلين بوجوب الجماعة:
1- قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} (سورة النساء).
هذه الآية تختص بصلاة الخوف، فإذا لم يأذن اللّه أن نتخلف عن الجماعة في حالة الخوف، ففي الأمن أولى.
قال ابن كثير: "وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ لك".
وقال ابن قدامة: "ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها" .
2- ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى أن يتخلف عن الجماعة مع عذره.
قال أبو هريرة: "أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول اللّه: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فرخص له، فلما ولىَّ دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم. قال: "فأجب" .
وعن عمرو بن أم مكتوم أنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إني ضرير البصر، شاسع الدار، لي قائد لا يلاومني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟. قال: "هل تسمع النداء؟"قال: نعم. قال: "فأجب، فإني لا أجد لك رخصة". وفي رواية "قال: يا رسول اللّه إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟. قال: "تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟". قال: نعم. فقال: "فحي هلا"، ولم يرخص"
قوله: يلاومني من الملاومة أي الموافقة والمناسبة.
قال الخطابي: "هكذا يروى في الحديث بالواو، ولكن الصواب: يلايمني: أي يوافقني، وأما الملاومة فإنها من اللوم وليس هذا موضعه".
والهوام : هوام الأرض أي حشراتها.
فحي هلا: حي بمعنى هلمَّ، وهلا: بمعنى عجل وأسرع.
قال الخطابي: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك ندباً لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم".
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: "ليس لأحد من خلق في الحضر، والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة". وقال الأوزاعي: "لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعات، سمع النداء أو لم يسمع". وكان أبو ثور يوجب الجماعة. واحتج هو وغيره ممن أوجبه بأن اللّه سبحانه وتعالى أمر أن يصلى جماعة في حال الخوف، ولم يعذر في تركها فعقل أنها في حال الأمن أوجب.
وقال : "وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا على الأعيان. وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة، وإنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال. واحتجوا في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". انتهى كلامه.
2- حديث ابن عباس: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر، قال: وما العذر؟، قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه صلاته التي صلى".
رواه أبو داود والدارقطني والحاكم كلهم بطرق عن أبي جناب، عن مغراء العبدي، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عنه.
قال أبو داود: "روى عن مغراء أبو إسحاق أيضاً".
وسكت عليه الحاكم والذهبي.
ومغراء: بفتح أوله وسكون المعجمة - أبو مخارق الكوفي ذكره ابن حبان في الثقات وطعن فيه عبد الحق وتكلم فيه الذهبي. قال ابن القطان: "أنكر على عبد الحق طعنه في حديثه، ولا يعرف فيه تجريح".
وفيه يحيى بن أبي حية، أبو جناب الكلبي: قال الحافظ: "ضعفوه لكثرة تدليسه".
وقال المنذري: "أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي ضعيف، وأخرجه ابن ماجة بنحوه وإسناده أمثل وفيه نظر". انتهى.
وحديث ابن ماجة الذي أشار إليه المنذري هو بلفظ "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر".
رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم كلهم من طرق عن هشيم بن بشير عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. كما رواه الحاكم أيضا بطريق عبد الرحمن بن غزوان أبي نوح المعروف بقراد عن شعبة. وقال: "هذا الحديث قد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهشيم، وقراد أبو نوح ثقتان، فإذا وَصَلاه فالقول فيه قولهما". انتهى. ووافقه الذهبي وقال: الدارقطني بعد ذكر هذا الحديث بطريق هشيم بن بشير عن شعبة، حدثنا ابن مبشر وآخرون قالوا: أخبرنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد عن شعبة بإسناده نحوه.
ثم قال: "رفعه هشيم، وقراد شيخ من البصريين مجهول". انتهى.
وقراد هذا الذي زعمه الدارقطني هنا أنه مجهول قد وثقه هو نفسه في الجرح والتعديل كما نقله عنه الحافظ في التهذيب .
قال الحافظ: "ورواه قاسم بن أصبغ في مسنده موقوفاً ومرفوعاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابت به ولم يقل في المرفوع: "إلا من عذر". ثم ذكر كلام الحاكم وأنه أخرج في مستدركه بعض الشواهد، منها: عن أبي موسى الأشعري وهو من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين عن أبي بردة عنه بلفظ: "من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له". ثم قال: ورواه البزار من طريق قيس بن الربيع عن أبي حسين أيضاً. ورواه من طريق سماك عن أبي بردة عن أبيه موقوفاً". وقال البيهقي: "الموقوف أصح. ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر، وضعفه، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه". انتهى كلام الحافظ .
وقال الحاكم: "وقد صحت الرواية فيه عن أبي موسى عن أبيه (هكذا والصحيح عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه)". ووافق الذهبي على تصحيح الحديث.
قال الكاساني: "تجب الجمعة على الرجال العاقلين الأحرار القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد ومقطوع اليد والرجل من خلاف والشيخ الكبير لا يقدر على المشي والمريض"انتهى لأن هؤلاء من أصحاب الأعذار.
4- حديث جابر بن عبد اللّه: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"وهو حديث مشهور بين الناس وليس له إسناد ثابت. فقد رواه الدارقطني عن جابر بن عبد اللّه وفيه: محمد بن سكين الشقري المؤذن. قال عنه الذهبي: لا يعرف وخبره منكر. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر. ورواه العقيلي في الضعفاء وضعفه. ورواه أيضاً هو والحاكم . عن أبي هريرة: وفيه سليمان بن داود اليمامي قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان متروك. ورواه ابن عدي في الكامل وضعفه، ورواه أيضا عن علي بن أبي طالب. وفيه الحارث الأعور وهو ضعيف جداً.
وقال ابن الجوزي: رواه عمر بن راشد من حديث عائشة. قال ابن حبان: لا يحل ذكر عمر إلا على سبيل القدح فيه .
ذكر السيوطي في الجامع الصغير ، والعجلوني في كشف الخفاء .
وقالا: إنه ضعيف. هذه هي بعض ما روي في هذا الموضوع وإليكم الآن:
وجهة نظر الجمهور القائلين بعدم وجوب الجماعة:
نظر الجمهور إلى الأحاديث التي مر ذكرها، وإلى الأحاديث التي تفضل الجماعة على الفرد بدرجات فقالوا: نحمل هذه الأحاديث على تأكيد الجماعة وعدم التهاون فيها لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "على صلاته وحده" يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة (أفعل) الاشتراك في أصل التفاضل فإن ذلك يقتضي أيضاً وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه.
قال الإمام الشافعي: "ومنعني أن أقول إن صلاة الرجل لا تجوز وحده وهو يقدر على الجماعة بحال تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل لا تجزئ المنفرد صلاته، وأنا قد حفظنا أن قد فاتت رجالا معه الصلاة فصلوا بعلمه منفردين، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا، وأن قد فاتت الصلاة في الجماعة قوما فجاءوا المسجد فصلى كل واحد منهم منفردا، وقد كانوا قادرين على أن يجمعوا في المسجد، فصلى كل واحد منهم منفردا" .
قال القرطبي: ولا يقال إن لفظة (أفعل) قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} . لأنا نقول: إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة (أفعل) مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا: هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد.
ولا يقال: يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله: صلاة الفذّ صيغة عموم فيشمل من صلى منفرداً بعذر، وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل، وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور .
ويحتج على الظاهرية القائلين بالوجوب بحديث أبي هريرة أنه بمقتضى مذهبهم لا يدل على وجوب الجماعة في غير الفجر والعشاء، لأنهم يأخذون بالظاهر، فإذا ثبت أن الصلوات الأخرى غير واجبة، وجب أن نحمل حديث أبي هريرة على غير الوجوب أيضاً لأن الصلوات الأخرى لا يختلف حكمها.
فإذا كان كذلك وجب تأويل حديث أبي هريرة حتى يصلح أن يكون حكمه مثل الصلوات الأخرى.
وإليكم بعض هذه التأويلات نقلاً من الحافظ:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه.
وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه كما أن تركه لهما حال التحريق لا يستلزم الترك مطلقا لإمكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده.
2- إنها لو كانت شرطاً أو فرضاً لبين ذلك عند التوعد.
يجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.
قال ابن دقيق العيد: بأن البين قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة.
فلما قال: قد "هممت" دل على وجوب الحضور.
3- قال الباجي وغيره: إن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار.
وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.
وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزاً بدليل حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلانا فاحرقوهما بالنار". ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
رواه البخاري في الجهاد في باب لا يعذب بعذاب اللّه، وأصحاب السنن، إلا أن هذا الحكم كان خاصا بالكفار.
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد فلو كان واجباً ما عفا عنهم.
قال القاضي عياض: ليس في الحديث حجة لأنه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل وزاد النووي: ولو كان فرض عين لما تركهم.
وأجاب ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكون انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه وقد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون". الحديث.
5- قالوا: إن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة وهو متعقب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة" أي لا يحضرون، وفي رواية أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع". أي في الجماعة.
6- إن هذا التهديد ورد في حق المنافقين لتركهم الجماعة. تعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقد قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وتعقب هذا التعقيب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا إن ادعي أن ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم.
قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء…".
وبقوله : "لو يعلم أحدكم" لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية، لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان: "لا يشهدون العشاء في الجميع". وقوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة" وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة". فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه اللّه به من الكفر والاستهزاء. انتهى .
وأجاب الجمهور عن حديث ابن أم مكتوم وغيره من أصحاب الأعذار بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد لهم رخصة تحصل لهم فضيلة الجماعة من غير حضورها، وليس معناه إيجاب الحضور على الأعمى، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم رخص لعتبان بن مالك - رضي اللّه عنه - حين قال: يا رسول اللّه إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سنفعل". فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أين تريد؟". فأشار إلى ناحية من البيت فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين.
وفي رواية إن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة، والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول اللّه في بيتي مكاناً أ تخذه مصلى … الخ .
وقالوا أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر رجلين صليا في رحالهما بإعادة الصلاة، ولم يبين لهما أن حضور الجماعة واجب وهذا وقت بيانه.
ثم الاستدلال بحديثي الأعمى وأبي هريرة على وجوب مطلق الجماعة ففيه نظر، لأن الدليل أخص من الدعوى إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لسامع النداء.
وكان من جملة أدلتهم أيضاً حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً وهو "إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى، والذي ينتظر الصلاة يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام".
وأيضا حديث أبي هريرة بهذا المعنى.
وأما حديث ابن عباس المتقدم بلفظ "من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر". فإن المراد به كاملة على أن في إسناده يحيى بن أبي حية أبو جناب ضعيف كما سبق. واللّه تعالى أعلم بالصواب.
الثاني : كيف تحصل فضيلة الجماعة؟
تحصل فضيلة الجماعة بالاثنين وأكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في قوله: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". فسوى الجماعات في الفضل سواء كثرت أم قلت.
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهم التضعيف خمسا وعشرين. انتهى.
ولكنه لا ينفي مزيد الفضل إذا كان أكثر، لاسيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما أكثر فهو أحب إلى اللّه" .
والصحيح أن الجماعة تحصل باثنين لما رواه مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال: "إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما".
وقد بوب البخاري في صحيحه: الاثنان فما فوقهما جماعة. وهذه ترجمة مأخوذة من حديث ورد من طرق ضعيفة منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير، وفي أفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمر، وفي البيهقي من حديث أنس، وفي الأوسط للطبراني وعند أحمد من حديث أبي أمامة: "أنه رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل يصلي معه فقال: "هذان جماعة" والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة"أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح.
وقال الإمام النووي: "قال أصحابنا: أقل الجماعة اثنان إمام ومأموم، فإذا صلى رجل برجل، أو بامرأته، أو أمته، أو بنته أو غيرهم أو بغلامه، أو بسيدته أو بغيرهم حصلت لهما فضيلة الجماعة التي هي خمس أو سبع و عشرون درجة، وهذا لا خلاف فيه، ونقل الشيخ أبو حامد وغيره فيه الإجماع".
وذلك بدون تفريق ما بين الفرض والنفل. وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا تنعقد الجماعة بصبي، وذهب هو في رواية، والإمام مالك إلى الصحة في النافلة دون الفرض.
وعموم الأحاديث قاضية على هذا الخلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين بأن الجماعة لا تنعقد مع صبي فالأمر على الأصل حتى يثبت بالدليل ما يخالفه.
الثالث : العدد الصحيح لمضاعفة فضل صلاة الجماعة على الفذ
قال الترمذي: عامة من روى هذا الحديث قالوا خمساً وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال: سبعا وعشرين.
قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد اللّه العمري عن نافع فقال فيه: خمس وعشرون. لكن العمري ضعيف. ووقع عند أبي عوانه في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع فإنه قال فيه: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد اللّه وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة . وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك ابن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع وأما غير ابن عمر، فصح عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن مسعود، عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجة، والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد اللّه بن زيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبي فقال: أربع أو خمس على الشك وسوى رواية أبي هريرة عند أحمد فقال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين، وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذاً لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ.
ثم قال: وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه:
منها : أن ذكر القليل لا ينفي ذكر الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه اللّه تعالى بزيادة الفضل، فأخبره بالسبع وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه.
ومنها : الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده.
ومنها : بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع.
ومنها: إيقاعها في المسجد وغيره.
ومنها: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره.
ومنها : الفرق بإدراك كلها أو بعضها.
ومنها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم.
وقد رجح الحافظ دخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع.
وقال: الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى، ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوة التي قصرت علوم الألباب عن إدراك حقيقتها كلها. انتهى كلام الحافظ من الفتح.
وقد أطال الحافظ الكلام في هذا الحديث وبيان المفهوم المراد من العدد، فمن أحب الإطلاع عليه فليرجع إليه.
والذي يظهر لي أن بيان فضائل الأعمال بالأعداد أمر معروف وشائع في الشريعة الإسلامية في مثل فضائل التسبيح والتهليل والتحميد وهو أمر متعارف أيضا بين الناس في المسابقة والمناقشة لتعيين أجر معدود لمن فعل كذا ولمن فعل كذا...
والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وإلى حلقة أخرى إن شاء الله تعالى.