الحيل الشيطانية في الإدارة التونسية
بقلم عزالدين مبارك*
التونسيون يبدعون في جميع المجالات ولهم في كل مقام مقال ولا تغيب عنهم الحيلة رغم المقولة الشهيرة " الحيلة هي في ترك الحيل". وأكثر المواقع تعرضا للحيل الشيطانية هي بالقطع الإدارة التونسية لأن كل مصالح المواطنين والموظفين ودواليب الدولة تمر من هذه المؤسسة العريقة.
والإدارة التونسية هي الحصان الذي يركب عليه كل من يريد مسابقة الزمن والوصول بسرعة للأهداف المرسومة وتجاوز العراقيل والقوانين والموانع. وهي كذلك السلم الذي يصعد عليه المتسلقون لأعلى هرم المسؤوليات بخفة ورشاقة مع تنوع السلالم والمصاعد الكهربائية والخشبية.
والإدارة مطبخ كبير لا أبواب له ولا نوافذ وعسسه في الغالب نائمون، تعجن فيه القرارات وتحاك فيه الدسائس بعيدا عن الأضواء لتخرج للناس قوانين وأوامر لا راد لسلطانها وجبروتها إلا من كانت له صولة الأبطال في الحيل الشيطانية.
وبما أن الفساد قد استشرى وأصبح القيام بالأعمال بدونه ضربا من ضروب الشجاعة والجنون ولا بد من انتظار قرون بحالها لتفكيكه والقضاء عليه فكل الناس تستنبط الحيل الجهنمية للوصول إلى الهدف المنشود.
وهذه الحيل الشيطانية تتعلق أساسا بالصفقات والترقيات والانتدابات والخطط الوظيفية والامتيازات وغض الطرف والتضييقات وافتعال المؤامرات والتجميد والنقل التعسفية والوضع على الذمة والإلحاق وتلفيق التهم وشراء ذمم الشهود والتعسف في القرارات والمحاباة والمحسوبية وطمس الأدلة وحجب الامكانيات والمعلومات وأدوات العمل واستعمال الضغوطات الإدارية والوشاية.
فالذي يحدث خلف الأبواب المغلقة والتعليمات الفوقية عن طريق المخبرين والهاتف وفي المقاهي الجانبية واللقاءات الموازية يعد عرفا في الإدارة التونسية بحيث تطبخ القرارات والتوصيات والويل لمن يبوح بسر دفين أو يعارض تمشيا معينا أو يخالف تعليمات مهما كان مستوى الخطأ البين فيها فالمجالس التأديبية الانتقامية في انتظاره وهي في الغالب صورية ولا تمكن العون من الدفاع عن نفسه ومنحازة انحيازا كاملا لرأي سلطة الإدارة النافذة أو الدخول في نفق التجميد واللامبالاة والقتل البطيء.
وأكبر عائق أمام أي إصلاح إداري هو وجود مبدأ تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة والإدارة كمرفق عمومي مستقل بذاته وذلك باتباع تمشي المبايعة للشخص وتقديم عنصر الطاعة والولاء على عنصر الكفاءة وذلك بحثا عن التحوط من تسرب المعلومات وتفادي المحاججة في ظل السلطة التقديرية الشبه مطلقة والتي تحمي المخطئين ومسيئي التصرف من المتابعة والمحاسبة.
فالسلطة التقديرية في الإدارة التونسية تعد مكمنا لشيطان التغول والتجاوزات وإساءة التصرف في الموارد المتاحة دون حسيب ولا رقيب وهذه النعمة الممنوحة للمسؤولين تعطيهم الحق في القيام بأفعال تضر بمصالح الإدارة والمواطنين في الكثير من الأحيان ومثل ذلك كراء محل بمعين مشط يتجاوز ما هو معمول به في السوق أو ترقية موظف غير جدير بذلك لأنه فقط مقرب من شخص له نفوذ.
ومن الحيل الشيطانية نذكر فقط بعض الحالات وهي كثيرة ومتنوعة ولا يمكن حصرها أو الإحاطة بها جميعا:
1.الموظف الذي يبحث عن صعود سريع في وظيفته ولا يجدها في إدارته الأصلية يجد ضالته في إدارة أخرى يتم إلحاقه إليها بطرق ملتوية وعن طريق توصيات وبعد مدة يعود إلى مهده الأول مديرا نافخا ريشه رغم عدم تطوره من ناحية المعرفة والكفاءة.
2.الموظف المسنود يستقبل بتبجيل وترحاب فيجد الطريق أمامه معبدة ومفروشة بالورود فيمنح مصلحة منظمة وخالية من المشاكل وبها أعوان أكفاء فيتسلق سلم المجد بسرعة جنونية ويتحصل على الترقيات جميعا رغم محدودية معرفته ونبوغه. ومن كان منكود الحظ ولا جاه ولا نفوذ له تجده في أتعس الوضعيات وأصعبها هذا إذا وجد كرسيا يجلس عليه أو عملا يقوم به.
3.إذا أخطا موظف له نفوذ يتم الاتفاق الضمني على تجميد الموضوع والبحث عن طي الصفحة هذا إذا لم يتم الاعتذار منه ويمر الأمر وكأن شيئا لم يكن.
4. لنقلة موظف من مصلحة معينة والتخلص من كفاءته تتعمد الأطراف المحيطة به من حبك المكائد كسرقة بعض الأدوات أو تعطيل الأجهزة أو الوشاية به وخلق جو من الضغوطات حتى يصاب بالانهيار والسقوط في فخ الاستفزازات.
5.في باب الصفقات يتم إعلام صاحب الحظ السعيد مسبقا وبكل المعلومات حتى يرتب عرضه على ضوء ما بلغه ويفوز دون عناء بالصفقة ولجنة الصفقات آخر من يعلم كالشاهد الذي لم ير شيئا وهي بالتالي مجرد تزكية وهمية وإجراءات للتمويه وذر الرماد في العيون لما كان قد خطط له في الخفاء.
6.الامتيازات الممنوحة للمديرين وما شابههم من مساكن وظيفية وسيارات فارهة وأذون بنزين تعد تبذيرا للمال العام وهم أقل عباد الله انتاجا وانتاجية بل كانوا في العهد النوفمبري اليد الطولى لبن علي وحاشيته لقضاء مصالحهم بطرق لا قانونية وغير شرعية وهل يمكن لغير الفاسدين والمطيعين والموالين الوصول لهذه المناصب الهامة؟
وخلاصة القول أن الإدارة التونسية لا تتحسن أحوالها إلا إذا تخلت عن عاداتها السيئة بحيث لا تعطي قيمة للكفاءات و تخير الولاءات على ذلك وهذه عقلية متأصلة في ذواتنا الخائفة من الآخر والمنزعجة من التغيير والنقد والمحاججة.
كما انه سوف لن يستقيم حالها بدون التقييد من السلطة التقديرية الممنوحة جزافا لمن يتحمل المسؤولية الإدارية فتتيح له سلطاته الواسعة سوء التقدير عن عدم معرفة ودراية كافية مما يسقطه في مستنقع سوء التصرف في غياب التقييم الدوري الفعال للعمل المنوط بعهدته في قالب برامج محددة مسبقا ومتفق عليها بتعهدات كتابية موثقة.
وبهذا تضمحل الحيل وكل الأعذار الواهية ويحاسب كل على قدر مسؤوليته وفعله على ضوء تقييم موضوعي وشفاف للإنجازات المحققة تبعا لما قد تمت برمجته مسبقا على ضوء معطيات صادقة وحقيقية.
فوجود المسؤولين على رأس الإدارات حسب الأمزجة والقرابة والمحسوبية والمحاصصة الحزبية والانتخابية تضر بمصلحة المواطن الذي هو من يمول من جيبه كل المصاريف والأجور ومن حقه التمتع بخدمات في مستوى تطلعاته خاصة بعد الثورة التي جاءت لتقطع مع الماضي بصفة نهائية.
*كاتب وناقد
بقلم عزالدين مبارك*
التونسيون يبدعون في جميع المجالات ولهم في كل مقام مقال ولا تغيب عنهم الحيلة رغم المقولة الشهيرة " الحيلة هي في ترك الحيل". وأكثر المواقع تعرضا للحيل الشيطانية هي بالقطع الإدارة التونسية لأن كل مصالح المواطنين والموظفين ودواليب الدولة تمر من هذه المؤسسة العريقة.
والإدارة التونسية هي الحصان الذي يركب عليه كل من يريد مسابقة الزمن والوصول بسرعة للأهداف المرسومة وتجاوز العراقيل والقوانين والموانع. وهي كذلك السلم الذي يصعد عليه المتسلقون لأعلى هرم المسؤوليات بخفة ورشاقة مع تنوع السلالم والمصاعد الكهربائية والخشبية.
والإدارة مطبخ كبير لا أبواب له ولا نوافذ وعسسه في الغالب نائمون، تعجن فيه القرارات وتحاك فيه الدسائس بعيدا عن الأضواء لتخرج للناس قوانين وأوامر لا راد لسلطانها وجبروتها إلا من كانت له صولة الأبطال في الحيل الشيطانية.
وبما أن الفساد قد استشرى وأصبح القيام بالأعمال بدونه ضربا من ضروب الشجاعة والجنون ولا بد من انتظار قرون بحالها لتفكيكه والقضاء عليه فكل الناس تستنبط الحيل الجهنمية للوصول إلى الهدف المنشود.
وهذه الحيل الشيطانية تتعلق أساسا بالصفقات والترقيات والانتدابات والخطط الوظيفية والامتيازات وغض الطرف والتضييقات وافتعال المؤامرات والتجميد والنقل التعسفية والوضع على الذمة والإلحاق وتلفيق التهم وشراء ذمم الشهود والتعسف في القرارات والمحاباة والمحسوبية وطمس الأدلة وحجب الامكانيات والمعلومات وأدوات العمل واستعمال الضغوطات الإدارية والوشاية.
فالذي يحدث خلف الأبواب المغلقة والتعليمات الفوقية عن طريق المخبرين والهاتف وفي المقاهي الجانبية واللقاءات الموازية يعد عرفا في الإدارة التونسية بحيث تطبخ القرارات والتوصيات والويل لمن يبوح بسر دفين أو يعارض تمشيا معينا أو يخالف تعليمات مهما كان مستوى الخطأ البين فيها فالمجالس التأديبية الانتقامية في انتظاره وهي في الغالب صورية ولا تمكن العون من الدفاع عن نفسه ومنحازة انحيازا كاملا لرأي سلطة الإدارة النافذة أو الدخول في نفق التجميد واللامبالاة والقتل البطيء.
وأكبر عائق أمام أي إصلاح إداري هو وجود مبدأ تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة والإدارة كمرفق عمومي مستقل بذاته وذلك باتباع تمشي المبايعة للشخص وتقديم عنصر الطاعة والولاء على عنصر الكفاءة وذلك بحثا عن التحوط من تسرب المعلومات وتفادي المحاججة في ظل السلطة التقديرية الشبه مطلقة والتي تحمي المخطئين ومسيئي التصرف من المتابعة والمحاسبة.
فالسلطة التقديرية في الإدارة التونسية تعد مكمنا لشيطان التغول والتجاوزات وإساءة التصرف في الموارد المتاحة دون حسيب ولا رقيب وهذه النعمة الممنوحة للمسؤولين تعطيهم الحق في القيام بأفعال تضر بمصالح الإدارة والمواطنين في الكثير من الأحيان ومثل ذلك كراء محل بمعين مشط يتجاوز ما هو معمول به في السوق أو ترقية موظف غير جدير بذلك لأنه فقط مقرب من شخص له نفوذ.
ومن الحيل الشيطانية نذكر فقط بعض الحالات وهي كثيرة ومتنوعة ولا يمكن حصرها أو الإحاطة بها جميعا:
1.الموظف الذي يبحث عن صعود سريع في وظيفته ولا يجدها في إدارته الأصلية يجد ضالته في إدارة أخرى يتم إلحاقه إليها بطرق ملتوية وعن طريق توصيات وبعد مدة يعود إلى مهده الأول مديرا نافخا ريشه رغم عدم تطوره من ناحية المعرفة والكفاءة.
2.الموظف المسنود يستقبل بتبجيل وترحاب فيجد الطريق أمامه معبدة ومفروشة بالورود فيمنح مصلحة منظمة وخالية من المشاكل وبها أعوان أكفاء فيتسلق سلم المجد بسرعة جنونية ويتحصل على الترقيات جميعا رغم محدودية معرفته ونبوغه. ومن كان منكود الحظ ولا جاه ولا نفوذ له تجده في أتعس الوضعيات وأصعبها هذا إذا وجد كرسيا يجلس عليه أو عملا يقوم به.
3.إذا أخطا موظف له نفوذ يتم الاتفاق الضمني على تجميد الموضوع والبحث عن طي الصفحة هذا إذا لم يتم الاعتذار منه ويمر الأمر وكأن شيئا لم يكن.
4. لنقلة موظف من مصلحة معينة والتخلص من كفاءته تتعمد الأطراف المحيطة به من حبك المكائد كسرقة بعض الأدوات أو تعطيل الأجهزة أو الوشاية به وخلق جو من الضغوطات حتى يصاب بالانهيار والسقوط في فخ الاستفزازات.
5.في باب الصفقات يتم إعلام صاحب الحظ السعيد مسبقا وبكل المعلومات حتى يرتب عرضه على ضوء ما بلغه ويفوز دون عناء بالصفقة ولجنة الصفقات آخر من يعلم كالشاهد الذي لم ير شيئا وهي بالتالي مجرد تزكية وهمية وإجراءات للتمويه وذر الرماد في العيون لما كان قد خطط له في الخفاء.
6.الامتيازات الممنوحة للمديرين وما شابههم من مساكن وظيفية وسيارات فارهة وأذون بنزين تعد تبذيرا للمال العام وهم أقل عباد الله انتاجا وانتاجية بل كانوا في العهد النوفمبري اليد الطولى لبن علي وحاشيته لقضاء مصالحهم بطرق لا قانونية وغير شرعية وهل يمكن لغير الفاسدين والمطيعين والموالين الوصول لهذه المناصب الهامة؟
وخلاصة القول أن الإدارة التونسية لا تتحسن أحوالها إلا إذا تخلت عن عاداتها السيئة بحيث لا تعطي قيمة للكفاءات و تخير الولاءات على ذلك وهذه عقلية متأصلة في ذواتنا الخائفة من الآخر والمنزعجة من التغيير والنقد والمحاججة.
كما انه سوف لن يستقيم حالها بدون التقييد من السلطة التقديرية الممنوحة جزافا لمن يتحمل المسؤولية الإدارية فتتيح له سلطاته الواسعة سوء التقدير عن عدم معرفة ودراية كافية مما يسقطه في مستنقع سوء التصرف في غياب التقييم الدوري الفعال للعمل المنوط بعهدته في قالب برامج محددة مسبقا ومتفق عليها بتعهدات كتابية موثقة.
وبهذا تضمحل الحيل وكل الأعذار الواهية ويحاسب كل على قدر مسؤوليته وفعله على ضوء تقييم موضوعي وشفاف للإنجازات المحققة تبعا لما قد تمت برمجته مسبقا على ضوء معطيات صادقة وحقيقية.
فوجود المسؤولين على رأس الإدارات حسب الأمزجة والقرابة والمحسوبية والمحاصصة الحزبية والانتخابية تضر بمصلحة المواطن الذي هو من يمول من جيبه كل المصاريف والأجور ومن حقه التمتع بخدمات في مستوى تطلعاته خاصة بعد الثورة التي جاءت لتقطع مع الماضي بصفة نهائية.
*كاتب وناقد