مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات - سورية
مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات
الفصـل الأول : مدلول و تاريخ المبدأ
1- المطلب الأول : مدلول مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات.
2 - المطلب الثاني : تاريخ مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات.
الفصـل الثاني: أهميــة المبـــدأ
1- المطلب الأول : الأهمية الدوليـــة.
2- المطلب الثاني : الأهمية الدستوريـة.
3- المطلب الثالث : الأهمية الإقليميــة .
4- المطلب الرابع : الأهمية العمليـــة.
الفصــل الثالث : دعائم المبدأ والنقد الموجه لهذا المبدأ
الفصــل الرابع : مصادرمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات
1- القوانين . 2- المراسيم التشريعية .
3 - الأنظمة . 4 - العرف .
الفصــــل الخامس: الواجبات على عاتق ( المشرع ، القاضي ، السلطة التنفيذية ).
الفصــــل السادس : نتائج مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات .
الفصـــل السابـع : تفسير النصـــوص الجزائيــــة .
1- المطلب الأول : أنـواع التفسير .
2- المطلب الثاني : مراحل التفسير .
3- المطلب الثالث : قيـود التفسير .
الخاتمة .
الفصل الأول : مدلول و تاريخ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
المطلب الأول : مدلول مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات .
يعني هذا المبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني
أي مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص " نص
التجريم " وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين
المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة .
وبالتالي يحدد في كل نص الشروط التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص
ويستمد منه الصفة غير المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل وبالتالي
فان القاضي لا يستطيع أن يعتبر فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم
هذا الفعل فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى اعتبار الفعل جريمة ولو
اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين .
و أساس هذا المبدأ هو حماية الفرد و ضمان حقوقه و حريته و ذلك بمنع السلطات
العامة من اتخاذ أي إجراء بحقه ما لم يكن قد ارتكب فعلا ينص القانون عليه و
فرض على مرتكبيه عقوبة جزائية
المطلب الثاني : تاريخ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
في العصور القديمة لم تكن هذه القاعدة معروفة حيث كانت العقوبات تحكمية
وكان في وسع القضاة أن يجرم أفعال لم ينص القانون عليها ويفرضوا العقوبة
التي يرونها كما كانوا يرجعون إلى العرف لتجريم بعض الأفعال وتقرير العقوبة
لها .
وإن كان هناك بعض مؤرخي القانون الجزائي يقولون بأن مبدأ شرعية الجرائم و
العقوبات عرفت لأول مرة في القانون الروماني في العهد الجمهوري بدليل وجوده
عند فقيهي الرومان ( أولبيانوس ) و ( بولس ) أما العهد الإمبراطوري فلم
تكن هذه القاعدة معروفة لأن القانون الروماني في هذا العهد كان يعطي للقاضي
سلطة تقديرية واسعة في التجريم و العقاب .
وهذه القاعدة ترجع بذورها الأولى إلى الشريعة الإسلامية أي ترجع إلى مدة
تزيد على أربعة عشر قرناً فمن القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية أنه :
" لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورد النص " أي أن أفعال المكلف المسؤول لا
يمكن وصفها بأنها محرمة مادام لم يرد نص بتحريمها ولا حرج على المكلف أن
يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها ونفهم من ذلك بأنه لا يمكن اعتبار
فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك فإذا لم يرد نص يحرم
الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك . والمعنى الذي
يستخلص من هذا الكلام هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأنه لا جريمة
ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة في الشريعة لا تتنافى مع العقل والمنطق و
تستند مباشرة على نصوص صريحة في هذا المعنى ومنها :
قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )
وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوى عليهم آياته)
و قوله تعالى : ( و إن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .
وغيرها من النصوص قاطعة بأنه لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد
إنذار ، وطبقوا هذه القاعدة على الجرائم ولكنهم لم يطبقونه تطبقا واحدا في
كل الجرائم حيث طبقوه تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود و القصاص بخلاف جرائم
التعازير فلم يطبقونه بتلك الصورة والسبب في ذلك أن المصلحة العامة وطبيعة
التعازير تقتضي ذلك . وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم
تعرف هذه القاعدة إلا في عام 1216 في إنكلترا و إن كان هذا المبدأ غير
معمول به في انكلترا بالمفهوم المعروف به في الحقوق اللاتينية . ففي
انكلترا لا يوجد دستور مكتوب ولا قانون عقوبات مكتوب وبإمكان القاضي أن
يعتبر أي سلوك لا اجتماعي جريمة و لكن المشرع بدأ منذ أوائل هذا القرن بسن
قوانين جزائية خاصة مثل ( قانون القتل –قانون السرقة ) و بالتالي حد من
سلطة القاضي في خلق جرائم جديدة.
إلا أن النشأة الحقيقة لهذا المبدأ في القوانين الوضعية كان في القرن
الثامن عشر حيث ظهر نتيجة للانتقادات الشديدة من قبل الفلاسفة والفقهاء
لتسلط القضاة وتحكمهم في الأحكام حيث كان القضاة متأثرين بالنواحي الخلقية
والدينية فكان أحكامهم يخلط بين الجريمة الجنائية والمعصية الدينية
والرذيلة الخلقية فظهر هذا المبدأ بصورة واضحة في الولايات المتحدة
الأمريكية وظهر في إعلان الحقوق عام 1774 وقد عرف هذا المبدأ في قانون
العقوبات النمساوي الصادر عام 1787 إلا أنه أعلن لأول مرة بعد قيام الثورة
الفرنسية في شرعية حقوق الإنسان عام 1789 ثم نص عليه القانون الفرنسي عام
1810 ثم انتقلت هذه القاعدة إلى غيره من التشريعات الوضعية ثم أخذت به
الدساتير و القوانين في العالم ثم أخذت به الأمم المتحدة في البيان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول 1948 كما جاء في المادة السادسة
من قانون العقوبات اللبناني :
( لا يقضي بأي عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتران الجرم ) .
أما في التشريع المصري لم تكن هذه القاعدة معروفة قبل سنة 1883 وفي هذا
العام نص المشرع عليها ضمناً في المادة 18 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية
وفي المادة 19 من قانون العقوبات الصادر سنة 1883 ولما صدر الدستور في عام
1923 قرر هذه القاعدة "
في المادة ( 6 ) منه : (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها))
وبالتالي لا يشترط صدورها بقانون وإنما يكفي أن يصدر بناء على قانون ليشمل
حالات التي يفوض الشارع فيها السلطة التنفيذية في تحديد الجرائم وتقرير
العقوبات .
أما المشرع السوري فقد تبناها في القوانين المتعاقبة و جاء في المادة
العاشرة من دستور عام 1950 و المادة الثامنة من الدستور المؤقت لجمهورية
العربية المتحدة الصادر في 15 آذار 1958 في عام 1969 جاء في الدستور السوري
المؤقت في المادتين 27-38 و كرس أخيرا في دستور الجمهورية العربية السورية
المعلن في 12 آذار عام 1973 فنصت المادة 29 منه على أنه( ( لا جريمة ولا
عقوبة إلا بنص قانوني) )
كما جاء في المادة الأولى منه : ( ( لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو
إصلاحي من أجل فعل لم يكن القانون قد نص عيه حين اقترافه ) )
و نظمت المواد من (1-5 ) من العقوبات قواعد قانونية الجرائم والمواد (
6-11 ) قانونية العقوبات و المواد (12-14 ) قواعد قانونية التدابير
الاحترازية و التدابير الصلاحية.
الفصـل الثــاني : أهميـــة مبــــدأ شرعية الجرائم والعقوبات
لهذا المبدأ أهمية كبيرة سواء على الصعيد الدولي أو الدستوري أو الإقليمي أوالعملي .
1- المطلب الأول : الأهمية الدوليـــة :
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ ،
كما جاء في المادة الثانية الفقرة الثالثة في البروتوكول رقم 4 لاتفاقية حقوق الإنسان الصادر في 16 تشرين الثاني عام 1963:
(( لا يجوز وضع قيود على ممارسة هذه الحقوق غير تلك التي تطابق القانون و
تقضيها الضرورة في مجتمع ديمقراطي لمصلحة الأمن القومي أو الأمن العام ,
للمحافظة على النظام العام أو منع الجريمة أو حماية الصحة و الأخلاق أو
حماية حقوق و حريات الآخرين )).
كما جاء في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر عام 1789 الذي أصدرته
الجمعية التأسيسية : (( لا يجوز اتهام أحد أو توقيفه إلا في الأحوال
المنصوص عليها في القانون و بحسب المراسيم المحددة فيه)) .
2 - المطلب الثاني : الأهمية الدستــورية.
لهذا المبدأ قيمة كبيرة حيث أن الدول تعتبره من المبادئ الأساسية و تنص
عليه في دساتيرها . في سوريا تبنى المشروع السوري هذا المبدأ في دساتيرها
المتعاقبة التي مرت على القطر العربي السوري , حيث ورد في المادة العاشرة
في دستور عام 1950, و المادة الثامنة من الدستور المؤقت للجمهورية العربية
المتحدة الصادر 15 آذار 1958 و المادتين 27و 38 من الدستور السوري المؤقت
لعام 1969 و كرس أخيرا في الدستور الصادر عام 1973 فنصت المادة 29 منه على
أنه : ( لا جريمـة ولا عقـوبة بلا نص قانـوني ).
أما في مصر عندما صدر الدستور في عام 1923 قرر هذه القاعدة صراحة في
المادة السادسة منه ( لا جريمة ولا عقوبة غلا بناء على قانون ولا عقاب
إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليه ) . كما جاء في
المادة الثامنة من الدستور اللبناني :
(لا يمكن تحديد الجرائم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى قانون )
3- المطلب الثالث الأهمية الإقليمية :
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ
, فقد جاء في المادة الثانية في الفقرة الأولى من الاتفاقية الأوربية
لحقوق الإنسان :
( حق كل إنسان في الحياة يحميه القانون ولا يجوز إعدام أي إنسان عمدا إلا
تنفيذا حكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة
).
و قد جاء في المادة السابعة الفقرة الأولى منه :
( لا يجوز إدانة أي شخص بسبب ارتكابه فعلا أو الامتناع عن فعل لم يكن يعتبر
وقت وقوع الفعل أو الامتناع جريمة في القانون الوطني أو القانون الدولي
ولا يجوز توقيع عقوبات أشد من تلك المقررة وقت ارتكاب الجريمة ).
و قد جاء في الفقرة الثانية : ( لا تخل هذه المادة بمحاكمة أو عقوبة أي شخص
بسبب ارتكابه فعلا أو امتناعه عن فعل يعتبر وقت فعله أو الامتناع عن فعله
جريمة وفقا للمبادئ العامة لقانون في الأمم المتحضرة ) .
4 - المطلب الرابع الأهمية العملية :
لهذا المبدأ أهمية كبيرة من الناحية العملية للأسباب التالية :
1- يعد من أسس الحرية الفردية أي صمام الأمان للحريات الفردية ويضمن حقوق
الأفراد بحيث يحدد الجرائم ويحدد العقوبات المقررة لها بشكل واضح حتى لا
يترك ثغرات في القانون ويكون وسيلة تسلط بيد القضاة وبالتالي القاضي لا
يستطيع الحكم بالإدانة إلا إذا وجد في القانون سنداً على الجريمة والعقوبة
فهو لا يملك أن ينشئ جريمة من أمر لم يرد نص قانوني بتجريمه مهما رأى فيه
من الخطورة على حقوق الأفراد أو مصالح الجماعة فهو يرسم حداً فاصلاً بين
المشروع وغير المشروع بحيث يكون الأفراد أحراراً في إتيان الأفعال المشروعة
وإن كانت ضارة وبالتالي السلطات العامة لا تستطيع ملاحقة هذا الشخص لأنه
غير مسؤول جزائياً .
2- يعطي العقوبة أساس قانوني بحيث يجعلها مقبولة من قبل الرأي العام كونه
توضع في سبيل المصلحة العامة بحيث يطبق على جميع الأشخاص الذين تتوافر فيهم
الشروط المنصوص عليه في هذا النص دون التميز بينهم .
3- الدور الوقائي للقانون وهذا الدور يتمثل بأن يكون الفرد على علم
بالأفعال التي تعد جريمة والأفعال الغير مجرمة بحيث يمكن أن نعتبر القانون
بمثابة إنذار مسبق للأفراد بعدم اقتراف الأفعال المنصوص عليه وهذا يجعل
الأفراد أقرب إلى الامتثال من العصيان
4- يحمي جميع الأفراد في المجتمع المجرمين وغير المجرمين بحيث يحمي المجرم
من نفسه بأن لا يقترف جريمة عقوبتها أشد من الجريمة المرتكبة وتحمي غير
المجرمين من الأفعال التي قد يرتكبها المجرم .
قبل أن ندخل في مصادر التجريم والعقاب لابد لنا من التساؤل
هل تدخل التدابير الاحترازية في نطاق مبدأ الشرعية :
على الرغم من أن المشرع يستهدف من التدابير الاحترازية الوقاية الاجتماعية
لا الجزاء وهو مجرد إجراء علاجي يستفيد منه المحكوم عليه ، فلا يمكن تجريد
التدابير الاحترازية من الإيلام وإن كان غير مقصود ، فبعض التدابير
الاحترازية تصل إلى حد سلب الحرية ولذلك يجب على الشارع أن يحدد التدابير
ويحدد ماهية كل منها حتى لا يكون وسيلة استغلال بيد القضاة ، ولكن التدابير
لا يطبق بالصورة الجامدة التي عرفناها في نصوص التجريم والعقاب ، وذلك لأن
المشرع ينص على التدابير الاحترازية دون أن يقرر تدبير محدد لكل جريمة
وإنما يترك للقاضي الحرية في أن يختار من بين التدابير التي نص عليها
الشارع ما يكون مناسباً للجرم .
ونقول بأن التدابير الاحترازية تدخل في مبدأ الشرعية بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليه في القانون .
لهذا المبدأ دعائم يستند عليها هذا المبدأ وهذه الدعائم هي :
أولا : نظرية فصل السلطات :
نتيجة لتسلط القضاة في الأحكام في القرن الثامن عشر ظهر مبدأ فصل السلطات التي نادى بها مونتسيكو و مقتضى هذا المبدأ أنه :
يوجد سلطات ثلاثة في الدولة السلطة التشريعية- التنفيذية- القضائية , و كل
سلطة لها اختصاصات محددة لا يجوز لها تجاوزها فالسلطة التشريعية مختصة بسن
القوانين و منها النصوص الجزائية التي تجرم الأفعال و تحدد العقوبة له أما
السلطة القضائية تعهد بتطبيق هذه القوانين و بالتالي القاضي لا يستطيع أن
يجرم فعل غير منصوص عليه و لو اقتنع بأن الفعل منافي لعدالة لأن ذلك يعتبر
تدخلا في اختصاص السلطة التشريعية وهذا لا يجوز طبقا لمبدأ فصل السلطات .
ثانيا : الدعامة المنطقية :
ترجع إلى تنديد الفقهاء والفلاسفة بتحكم القضاة وقناعتهم الأكيدة بأنه لا
يمكن تقيد السلطة المطلقة للقضاة إلا بوضع نصوص مكتوبة محددة في القانون
تنص على الأفعال المجرمة والعقوبات المقررة لها . وبالتالي السماح للأفراد
بإتيان الأفعال التي لم ينص القانون على تجريمها ، والامتناع عن الأفعال
المجرمة بنص القانون وهذا ما نادى به المحامي الإيطالي " بيكاريا " في
كتابه المشهور " الجرائم والعقوبات " ونادى بيكاريا بحرمان القاضي من تفسير
هذه النصوص ووجوب تطبيقها حرفياً بحيث لا يستطيع القاضي التشديد أو
التخفيض أي تجريد القاضي من أية سلطة تقديرية .
ثالثا : الدعامة السياسية :
ترجع إلى نظرية العقد الاجتماعي الذي نادى به الفيلسوف " جان جاك روسو "
والتي مقتضاها أنه يوجد عقد ضمني بين الدولة والأفراد حيث يتنازل الأفراد
بموجب هذا العقد عن جزء من الحرية الممنوحة لهم لصالح الدولة مقابل أن تقوم
الدولة بتوفير الحماية لهم واعتمدت هذه النظرية على العقد الاجتماعي كأساس
لتحديد حق الدولة في العقاب فقالوا بأن العقوبة هي جماع حقوق الأفراد في
الدفاع عن أشخاصهم وأموالهم التي نزلوا عنها للمجتمع وبالتالي المساواة بين
الناس في العقاب لأن كل فرد نزل للمجتمع عن قدر من الحقوق معادل ومساوي
لما نزل عنه غيره وهذه المساواة تقتضي وجود قانون يحدد الأفعال المجرمة
ويحدد العقوبة المقررة لهذه الأفعال بحيث يكون للعقوبة أساس قانوني ويجعله
مقبولة من قبل جميع الأفراد كونها ثمرة اتفاق جماعي وتوقع في سبيل المصلحة
العامة والعليا للمجتمع وبالتالي يضمن للعقوبة خصائصها لتكون عادلة وعامة
التطبيق على جميع الناس ومجردة من القسوة .
النقد :
على الرغم من أهمية هذا المبدأ والقيمة الحقيقية له إلا أنه لم يسلم من النقد :
1) ذهب البعض بأنها قاعدة جامدة ورجعية أما الجامدة لأنه لا يستطيع مواكبة
التطورات والمستجدات التي تطرأ على المجتمع بحيث تظهر أفعال جديدة مخلة
بأمن ونظام المجتمع ولم ينص القانون على تجريمه , و يزداد هذا الأمر صعوبة
في العصر الحديث حيث خلفت الحضارة الإنسانية المتشعبة و الحياة الاجتماعية
المتشابكة أنواعا مختلفة من أنماط السلوك البشري سريعة التغيير و التجدد
بحيث لا يمكن مواجهته بجمود النصوص و ثباته ولكن يمكننا الرد عليهم بأن
المشكلة ليست من النص القانوني و إنما المشكلة من السلطة التشريعية التي
تنص القوانين بحيث تتقاعس احيانا عن صدور القوانين لمواجهة المستجدات إلا
أننا نستطيع التغلب على هذه المشكلة بوجود سلطة تشريعية يقظة و تزويده
بجميع الوسائل التي تتمكن من خلاله من ملاحقة الصور الإجرامية المستحدثة .
أما القول بأنها رجعية لأنه يفرض الجريمة ككيان قانوني متجراً من شخص
المجرم بحيث يحدد العقوبة في كل جريمة حسب الأضرار المادية المترتبة عليه
لا وفق الخطورة الكامنة في شخص المجرم مثلاً في جريمة السرقة يفرض العقوبة
بنفس القدر دون أن يراعي الظروف المحيطة بالمجرم ( فالشخص الذي يقدم على
السرقة بدافع الفقر هو أقل خطورة عن الشخص الذي يقدم عليه بدافع حسب المال
والجشع ) .
لذلك نادو بضرورة تقسيم المجرمين بدلاً من تقسيم الجرائم فليس المهم هي
الجريمة كواقعة مادية وإنما المهم هو المتهم الذي هو محور الدعوى الجنائية
ولذلك نجد أن المشرع رجعت عن نظام العقوبات المحددة إلى نظام تفريد العقوبة
حيث أعطى القاضي سلطة تقديرية واسعة نوعاً ما في هذا الشأن بحيث حدد في
بعض الجرائم حدين للعقوبة ( حد أدنى – حد أعلى ) وترك للقاضي سلطة اختيار
العقوبة الملائمة ضمن هذين الحدين حسب شخصية المتهم والظروف المحيطة
بالجريمة كما حدد لبعض الجرائم عدة عقوبات وترك الحرية للقاضي باختيار
العقوبة المناسبة لشخص كل مجرم .
ولكن سلطة القاضي في هذا الشأن ليست مطلقة لأن القانون هو الذي يحدد حدود
الملائمة ويجب على القاضي مراعاة هذه الحدود وبالتالي لا يوجد تعارض بين
تفريد العقاب ومبدأ الشرعية . كما يمكن الرد عليهم بأن السلطة الواسعة قاضي
صحيح تجعله قادرا على فهم شخصية المجرم و علاجها إلا أن هذه السلطة قد
تساء استخدامها ومن المستحسن أن ينوع المشرع العقوبات و التدابير لكل جرعة
و أن يمنح القاضي سلطة تقديرية لكي يختار من بينها ما يلاءم شخصية المجرم .
2) وذهب الآخرون إلى أن هذا المبدأ لا يوفر الحماية الكاملة للأفراد ضد
الأفعال الجديرة في ذاتها بالتجريم كونها قاصرة عن الإحاطة بجميع الأفعال
المخلة بالأمن والاستقرار في المجتمع ، ونزع أية سلطة تقديرية للقاضي في
معاقبة العابثين بالأمن والنظام بحجة عدم وجود نص يجرم هذا الفعل سواء تعلق
بالسلوك الفردي أو بالسلوك الجماعي .
فيما يتعلق بالسلوك الفردي فكثيراً ما تقع من الأفراد أفعال مخلة بالنظام
ومنافية للأخلاق لا تجرمها الكثير من القوانين فمن يتناول طعاماً في مكان
خاص كالمطاعم والمقاهي ثم يمتنع عن دفع ثمن الطعام ففعله هذا لا يقل خطورة
عن السرقة ومع ذلك فإن الكثير من القوانين لا تنص على تجريمها .
أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي : فالمشرع ليس في وسعه حصر جميع الأفعال
الضارة والمخلة بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة .
الرد : إن المشرع يستطيع أن يستعمل في نصوص التجريم والعقاب عبارات بحيث
يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد فلا تكون هذه العبارات ضيقة
بحيث يطبقه القاضي حرفياً ولا واسعاً بحيث يستغل القاضي هذه النقطة ويجرم
أفعال لم ينص عليه القانون وبالتالي إهدار حقوق الأفراد ، كما يمكننا القول
بأن الاستقرار القانوني يعلو على حماية المصالح المشتركة ، فإذا تبين
للمشرع أن فعلاً ما منافي للنظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بادر
إلى تجريمه بنص .
يتبع ....
مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات
الفصـل الأول : مدلول و تاريخ المبدأ
1- المطلب الأول : مدلول مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات.
2 - المطلب الثاني : تاريخ مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات.
الفصـل الثاني: أهميــة المبـــدأ
1- المطلب الأول : الأهمية الدوليـــة.
2- المطلب الثاني : الأهمية الدستوريـة.
3- المطلب الثالث : الأهمية الإقليميــة .
4- المطلب الرابع : الأهمية العمليـــة.
الفصــل الثالث : دعائم المبدأ والنقد الموجه لهذا المبدأ
الفصــل الرابع : مصادرمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات
1- القوانين . 2- المراسيم التشريعية .
3 - الأنظمة . 4 - العرف .
الفصــــل الخامس: الواجبات على عاتق ( المشرع ، القاضي ، السلطة التنفيذية ).
الفصــــل السادس : نتائج مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات .
الفصـــل السابـع : تفسير النصـــوص الجزائيــــة .
1- المطلب الأول : أنـواع التفسير .
2- المطلب الثاني : مراحل التفسير .
3- المطلب الثالث : قيـود التفسير .
الخاتمة .
الفصل الأول : مدلول و تاريخ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
المطلب الأول : مدلول مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات .
يعني هذا المبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني
أي مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص " نص
التجريم " وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين
المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة .
وبالتالي يحدد في كل نص الشروط التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص
ويستمد منه الصفة غير المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل وبالتالي
فان القاضي لا يستطيع أن يعتبر فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم
هذا الفعل فإذا لم يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى اعتبار الفعل جريمة ولو
اقتنع بأنه مناقض للعدالة أو الأخلاق أو الدين .
و أساس هذا المبدأ هو حماية الفرد و ضمان حقوقه و حريته و ذلك بمنع السلطات
العامة من اتخاذ أي إجراء بحقه ما لم يكن قد ارتكب فعلا ينص القانون عليه و
فرض على مرتكبيه عقوبة جزائية
المطلب الثاني : تاريخ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
في العصور القديمة لم تكن هذه القاعدة معروفة حيث كانت العقوبات تحكمية
وكان في وسع القضاة أن يجرم أفعال لم ينص القانون عليها ويفرضوا العقوبة
التي يرونها كما كانوا يرجعون إلى العرف لتجريم بعض الأفعال وتقرير العقوبة
لها .
وإن كان هناك بعض مؤرخي القانون الجزائي يقولون بأن مبدأ شرعية الجرائم و
العقوبات عرفت لأول مرة في القانون الروماني في العهد الجمهوري بدليل وجوده
عند فقيهي الرومان ( أولبيانوس ) و ( بولس ) أما العهد الإمبراطوري فلم
تكن هذه القاعدة معروفة لأن القانون الروماني في هذا العهد كان يعطي للقاضي
سلطة تقديرية واسعة في التجريم و العقاب .
وهذه القاعدة ترجع بذورها الأولى إلى الشريعة الإسلامية أي ترجع إلى مدة
تزيد على أربعة عشر قرناً فمن القواعد الأصولية في الشريعة الإسلامية أنه :
" لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورد النص " أي أن أفعال المكلف المسؤول لا
يمكن وصفها بأنها محرمة مادام لم يرد نص بتحريمها ولا حرج على المكلف أن
يفعلها أو يتركها حتى ينص على تحريمها ونفهم من ذلك بأنه لا يمكن اعتبار
فعل أو ترك جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك فإذا لم يرد نص يحرم
الفعل أو الترك فلا مسؤولية ولا عقاب على فاعل أو تارك . والمعنى الذي
يستخلص من هذا الكلام هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأنه لا جريمة
ولا عقوبة إلا بنص وهذه القاعدة في الشريعة لا تتنافى مع العقل والمنطق و
تستند مباشرة على نصوص صريحة في هذا المعنى ومنها :
قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )
وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوى عليهم آياته)
و قوله تعالى : ( و إن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .
وغيرها من النصوص قاطعة بأنه لا جريمة إلا بعد بيان ولا عقوبة إلا بعد
إنذار ، وطبقوا هذه القاعدة على الجرائم ولكنهم لم يطبقونه تطبقا واحدا في
كل الجرائم حيث طبقوه تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود و القصاص بخلاف جرائم
التعازير فلم يطبقونه بتلك الصورة والسبب في ذلك أن المصلحة العامة وطبيعة
التعازير تقتضي ذلك . وبهذا تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية التي لم
تعرف هذه القاعدة إلا في عام 1216 في إنكلترا و إن كان هذا المبدأ غير
معمول به في انكلترا بالمفهوم المعروف به في الحقوق اللاتينية . ففي
انكلترا لا يوجد دستور مكتوب ولا قانون عقوبات مكتوب وبإمكان القاضي أن
يعتبر أي سلوك لا اجتماعي جريمة و لكن المشرع بدأ منذ أوائل هذا القرن بسن
قوانين جزائية خاصة مثل ( قانون القتل –قانون السرقة ) و بالتالي حد من
سلطة القاضي في خلق جرائم جديدة.
إلا أن النشأة الحقيقة لهذا المبدأ في القوانين الوضعية كان في القرن
الثامن عشر حيث ظهر نتيجة للانتقادات الشديدة من قبل الفلاسفة والفقهاء
لتسلط القضاة وتحكمهم في الأحكام حيث كان القضاة متأثرين بالنواحي الخلقية
والدينية فكان أحكامهم يخلط بين الجريمة الجنائية والمعصية الدينية
والرذيلة الخلقية فظهر هذا المبدأ بصورة واضحة في الولايات المتحدة
الأمريكية وظهر في إعلان الحقوق عام 1774 وقد عرف هذا المبدأ في قانون
العقوبات النمساوي الصادر عام 1787 إلا أنه أعلن لأول مرة بعد قيام الثورة
الفرنسية في شرعية حقوق الإنسان عام 1789 ثم نص عليه القانون الفرنسي عام
1810 ثم انتقلت هذه القاعدة إلى غيره من التشريعات الوضعية ثم أخذت به
الدساتير و القوانين في العالم ثم أخذت به الأمم المتحدة في البيان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول 1948 كما جاء في المادة السادسة
من قانون العقوبات اللبناني :
( لا يقضي بأي عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتران الجرم ) .
أما في التشريع المصري لم تكن هذه القاعدة معروفة قبل سنة 1883 وفي هذا
العام نص المشرع عليها ضمناً في المادة 18 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية
وفي المادة 19 من قانون العقوبات الصادر سنة 1883 ولما صدر الدستور في عام
1923 قرر هذه القاعدة "
في المادة ( 6 ) منه : (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها))
وبالتالي لا يشترط صدورها بقانون وإنما يكفي أن يصدر بناء على قانون ليشمل
حالات التي يفوض الشارع فيها السلطة التنفيذية في تحديد الجرائم وتقرير
العقوبات .
أما المشرع السوري فقد تبناها في القوانين المتعاقبة و جاء في المادة
العاشرة من دستور عام 1950 و المادة الثامنة من الدستور المؤقت لجمهورية
العربية المتحدة الصادر في 15 آذار 1958 في عام 1969 جاء في الدستور السوري
المؤقت في المادتين 27-38 و كرس أخيرا في دستور الجمهورية العربية السورية
المعلن في 12 آذار عام 1973 فنصت المادة 29 منه على أنه( ( لا جريمة ولا
عقوبة إلا بنص قانوني) )
كما جاء في المادة الأولى منه : ( ( لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو
إصلاحي من أجل فعل لم يكن القانون قد نص عيه حين اقترافه ) )
و نظمت المواد من (1-5 ) من العقوبات قواعد قانونية الجرائم والمواد (
6-11 ) قانونية العقوبات و المواد (12-14 ) قواعد قانونية التدابير
الاحترازية و التدابير الصلاحية.
الفصـل الثــاني : أهميـــة مبــــدأ شرعية الجرائم والعقوبات
لهذا المبدأ أهمية كبيرة سواء على الصعيد الدولي أو الدستوري أو الإقليمي أوالعملي .
1- المطلب الأول : الأهمية الدوليـــة :
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ ،
كما جاء في المادة الثانية الفقرة الثالثة في البروتوكول رقم 4 لاتفاقية حقوق الإنسان الصادر في 16 تشرين الثاني عام 1963:
(( لا يجوز وضع قيود على ممارسة هذه الحقوق غير تلك التي تطابق القانون و
تقضيها الضرورة في مجتمع ديمقراطي لمصلحة الأمن القومي أو الأمن العام ,
للمحافظة على النظام العام أو منع الجريمة أو حماية الصحة و الأخلاق أو
حماية حقوق و حريات الآخرين )).
كما جاء في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر عام 1789 الذي أصدرته
الجمعية التأسيسية : (( لا يجوز اتهام أحد أو توقيفه إلا في الأحوال
المنصوص عليها في القانون و بحسب المراسيم المحددة فيه)) .
2 - المطلب الثاني : الأهمية الدستــورية.
لهذا المبدأ قيمة كبيرة حيث أن الدول تعتبره من المبادئ الأساسية و تنص
عليه في دساتيرها . في سوريا تبنى المشروع السوري هذا المبدأ في دساتيرها
المتعاقبة التي مرت على القطر العربي السوري , حيث ورد في المادة العاشرة
في دستور عام 1950, و المادة الثامنة من الدستور المؤقت للجمهورية العربية
المتحدة الصادر 15 آذار 1958 و المادتين 27و 38 من الدستور السوري المؤقت
لعام 1969 و كرس أخيرا في الدستور الصادر عام 1973 فنصت المادة 29 منه على
أنه : ( لا جريمـة ولا عقـوبة بلا نص قانـوني ).
أما في مصر عندما صدر الدستور في عام 1923 قرر هذه القاعدة صراحة في
المادة السادسة منه ( لا جريمة ولا عقوبة غلا بناء على قانون ولا عقاب
إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليه ) . كما جاء في
المادة الثامنة من الدستور اللبناني :
(لا يمكن تحديد الجرائم أو تعيين عقوبة إلا بمقتضى قانون )
3- المطلب الثالث الأهمية الإقليمية :
نرى أن هناك كثير من الاتفاقيات و البروتوكولات أكدت على أهمية هذا المبدأ
, فقد جاء في المادة الثانية في الفقرة الأولى من الاتفاقية الأوربية
لحقوق الإنسان :
( حق كل إنسان في الحياة يحميه القانون ولا يجوز إعدام أي إنسان عمدا إلا
تنفيذا حكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة
).
و قد جاء في المادة السابعة الفقرة الأولى منه :
( لا يجوز إدانة أي شخص بسبب ارتكابه فعلا أو الامتناع عن فعل لم يكن يعتبر
وقت وقوع الفعل أو الامتناع جريمة في القانون الوطني أو القانون الدولي
ولا يجوز توقيع عقوبات أشد من تلك المقررة وقت ارتكاب الجريمة ).
و قد جاء في الفقرة الثانية : ( لا تخل هذه المادة بمحاكمة أو عقوبة أي شخص
بسبب ارتكابه فعلا أو امتناعه عن فعل يعتبر وقت فعله أو الامتناع عن فعله
جريمة وفقا للمبادئ العامة لقانون في الأمم المتحضرة ) .
4 - المطلب الرابع الأهمية العملية :
لهذا المبدأ أهمية كبيرة من الناحية العملية للأسباب التالية :
1- يعد من أسس الحرية الفردية أي صمام الأمان للحريات الفردية ويضمن حقوق
الأفراد بحيث يحدد الجرائم ويحدد العقوبات المقررة لها بشكل واضح حتى لا
يترك ثغرات في القانون ويكون وسيلة تسلط بيد القضاة وبالتالي القاضي لا
يستطيع الحكم بالإدانة إلا إذا وجد في القانون سنداً على الجريمة والعقوبة
فهو لا يملك أن ينشئ جريمة من أمر لم يرد نص قانوني بتجريمه مهما رأى فيه
من الخطورة على حقوق الأفراد أو مصالح الجماعة فهو يرسم حداً فاصلاً بين
المشروع وغير المشروع بحيث يكون الأفراد أحراراً في إتيان الأفعال المشروعة
وإن كانت ضارة وبالتالي السلطات العامة لا تستطيع ملاحقة هذا الشخص لأنه
غير مسؤول جزائياً .
2- يعطي العقوبة أساس قانوني بحيث يجعلها مقبولة من قبل الرأي العام كونه
توضع في سبيل المصلحة العامة بحيث يطبق على جميع الأشخاص الذين تتوافر فيهم
الشروط المنصوص عليه في هذا النص دون التميز بينهم .
3- الدور الوقائي للقانون وهذا الدور يتمثل بأن يكون الفرد على علم
بالأفعال التي تعد جريمة والأفعال الغير مجرمة بحيث يمكن أن نعتبر القانون
بمثابة إنذار مسبق للأفراد بعدم اقتراف الأفعال المنصوص عليه وهذا يجعل
الأفراد أقرب إلى الامتثال من العصيان
4- يحمي جميع الأفراد في المجتمع المجرمين وغير المجرمين بحيث يحمي المجرم
من نفسه بأن لا يقترف جريمة عقوبتها أشد من الجريمة المرتكبة وتحمي غير
المجرمين من الأفعال التي قد يرتكبها المجرم .
قبل أن ندخل في مصادر التجريم والعقاب لابد لنا من التساؤل
هل تدخل التدابير الاحترازية في نطاق مبدأ الشرعية :
على الرغم من أن المشرع يستهدف من التدابير الاحترازية الوقاية الاجتماعية
لا الجزاء وهو مجرد إجراء علاجي يستفيد منه المحكوم عليه ، فلا يمكن تجريد
التدابير الاحترازية من الإيلام وإن كان غير مقصود ، فبعض التدابير
الاحترازية تصل إلى حد سلب الحرية ولذلك يجب على الشارع أن يحدد التدابير
ويحدد ماهية كل منها حتى لا يكون وسيلة استغلال بيد القضاة ، ولكن التدابير
لا يطبق بالصورة الجامدة التي عرفناها في نصوص التجريم والعقاب ، وذلك لأن
المشرع ينص على التدابير الاحترازية دون أن يقرر تدبير محدد لكل جريمة
وإنما يترك للقاضي الحرية في أن يختار من بين التدابير التي نص عليها
الشارع ما يكون مناسباً للجرم .
ونقول بأن التدابير الاحترازية تدخل في مبدأ الشرعية بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليه في القانون .
لهذا المبدأ دعائم يستند عليها هذا المبدأ وهذه الدعائم هي :
أولا : نظرية فصل السلطات :
نتيجة لتسلط القضاة في الأحكام في القرن الثامن عشر ظهر مبدأ فصل السلطات التي نادى بها مونتسيكو و مقتضى هذا المبدأ أنه :
يوجد سلطات ثلاثة في الدولة السلطة التشريعية- التنفيذية- القضائية , و كل
سلطة لها اختصاصات محددة لا يجوز لها تجاوزها فالسلطة التشريعية مختصة بسن
القوانين و منها النصوص الجزائية التي تجرم الأفعال و تحدد العقوبة له أما
السلطة القضائية تعهد بتطبيق هذه القوانين و بالتالي القاضي لا يستطيع أن
يجرم فعل غير منصوص عليه و لو اقتنع بأن الفعل منافي لعدالة لأن ذلك يعتبر
تدخلا في اختصاص السلطة التشريعية وهذا لا يجوز طبقا لمبدأ فصل السلطات .
ثانيا : الدعامة المنطقية :
ترجع إلى تنديد الفقهاء والفلاسفة بتحكم القضاة وقناعتهم الأكيدة بأنه لا
يمكن تقيد السلطة المطلقة للقضاة إلا بوضع نصوص مكتوبة محددة في القانون
تنص على الأفعال المجرمة والعقوبات المقررة لها . وبالتالي السماح للأفراد
بإتيان الأفعال التي لم ينص القانون على تجريمها ، والامتناع عن الأفعال
المجرمة بنص القانون وهذا ما نادى به المحامي الإيطالي " بيكاريا " في
كتابه المشهور " الجرائم والعقوبات " ونادى بيكاريا بحرمان القاضي من تفسير
هذه النصوص ووجوب تطبيقها حرفياً بحيث لا يستطيع القاضي التشديد أو
التخفيض أي تجريد القاضي من أية سلطة تقديرية .
ثالثا : الدعامة السياسية :
ترجع إلى نظرية العقد الاجتماعي الذي نادى به الفيلسوف " جان جاك روسو "
والتي مقتضاها أنه يوجد عقد ضمني بين الدولة والأفراد حيث يتنازل الأفراد
بموجب هذا العقد عن جزء من الحرية الممنوحة لهم لصالح الدولة مقابل أن تقوم
الدولة بتوفير الحماية لهم واعتمدت هذه النظرية على العقد الاجتماعي كأساس
لتحديد حق الدولة في العقاب فقالوا بأن العقوبة هي جماع حقوق الأفراد في
الدفاع عن أشخاصهم وأموالهم التي نزلوا عنها للمجتمع وبالتالي المساواة بين
الناس في العقاب لأن كل فرد نزل للمجتمع عن قدر من الحقوق معادل ومساوي
لما نزل عنه غيره وهذه المساواة تقتضي وجود قانون يحدد الأفعال المجرمة
ويحدد العقوبة المقررة لهذه الأفعال بحيث يكون للعقوبة أساس قانوني ويجعله
مقبولة من قبل جميع الأفراد كونها ثمرة اتفاق جماعي وتوقع في سبيل المصلحة
العامة والعليا للمجتمع وبالتالي يضمن للعقوبة خصائصها لتكون عادلة وعامة
التطبيق على جميع الناس ومجردة من القسوة .
النقد :
على الرغم من أهمية هذا المبدأ والقيمة الحقيقية له إلا أنه لم يسلم من النقد :
1) ذهب البعض بأنها قاعدة جامدة ورجعية أما الجامدة لأنه لا يستطيع مواكبة
التطورات والمستجدات التي تطرأ على المجتمع بحيث تظهر أفعال جديدة مخلة
بأمن ونظام المجتمع ولم ينص القانون على تجريمه , و يزداد هذا الأمر صعوبة
في العصر الحديث حيث خلفت الحضارة الإنسانية المتشعبة و الحياة الاجتماعية
المتشابكة أنواعا مختلفة من أنماط السلوك البشري سريعة التغيير و التجدد
بحيث لا يمكن مواجهته بجمود النصوص و ثباته ولكن يمكننا الرد عليهم بأن
المشكلة ليست من النص القانوني و إنما المشكلة من السلطة التشريعية التي
تنص القوانين بحيث تتقاعس احيانا عن صدور القوانين لمواجهة المستجدات إلا
أننا نستطيع التغلب على هذه المشكلة بوجود سلطة تشريعية يقظة و تزويده
بجميع الوسائل التي تتمكن من خلاله من ملاحقة الصور الإجرامية المستحدثة .
أما القول بأنها رجعية لأنه يفرض الجريمة ككيان قانوني متجراً من شخص
المجرم بحيث يحدد العقوبة في كل جريمة حسب الأضرار المادية المترتبة عليه
لا وفق الخطورة الكامنة في شخص المجرم مثلاً في جريمة السرقة يفرض العقوبة
بنفس القدر دون أن يراعي الظروف المحيطة بالمجرم ( فالشخص الذي يقدم على
السرقة بدافع الفقر هو أقل خطورة عن الشخص الذي يقدم عليه بدافع حسب المال
والجشع ) .
لذلك نادو بضرورة تقسيم المجرمين بدلاً من تقسيم الجرائم فليس المهم هي
الجريمة كواقعة مادية وإنما المهم هو المتهم الذي هو محور الدعوى الجنائية
ولذلك نجد أن المشرع رجعت عن نظام العقوبات المحددة إلى نظام تفريد العقوبة
حيث أعطى القاضي سلطة تقديرية واسعة نوعاً ما في هذا الشأن بحيث حدد في
بعض الجرائم حدين للعقوبة ( حد أدنى – حد أعلى ) وترك للقاضي سلطة اختيار
العقوبة الملائمة ضمن هذين الحدين حسب شخصية المتهم والظروف المحيطة
بالجريمة كما حدد لبعض الجرائم عدة عقوبات وترك الحرية للقاضي باختيار
العقوبة المناسبة لشخص كل مجرم .
ولكن سلطة القاضي في هذا الشأن ليست مطلقة لأن القانون هو الذي يحدد حدود
الملائمة ويجب على القاضي مراعاة هذه الحدود وبالتالي لا يوجد تعارض بين
تفريد العقاب ومبدأ الشرعية . كما يمكن الرد عليهم بأن السلطة الواسعة قاضي
صحيح تجعله قادرا على فهم شخصية المجرم و علاجها إلا أن هذه السلطة قد
تساء استخدامها ومن المستحسن أن ينوع المشرع العقوبات و التدابير لكل جرعة
و أن يمنح القاضي سلطة تقديرية لكي يختار من بينها ما يلاءم شخصية المجرم .
2) وذهب الآخرون إلى أن هذا المبدأ لا يوفر الحماية الكاملة للأفراد ضد
الأفعال الجديرة في ذاتها بالتجريم كونها قاصرة عن الإحاطة بجميع الأفعال
المخلة بالأمن والاستقرار في المجتمع ، ونزع أية سلطة تقديرية للقاضي في
معاقبة العابثين بالأمن والنظام بحجة عدم وجود نص يجرم هذا الفعل سواء تعلق
بالسلوك الفردي أو بالسلوك الجماعي .
فيما يتعلق بالسلوك الفردي فكثيراً ما تقع من الأفراد أفعال مخلة بالنظام
ومنافية للأخلاق لا تجرمها الكثير من القوانين فمن يتناول طعاماً في مكان
خاص كالمطاعم والمقاهي ثم يمتنع عن دفع ثمن الطعام ففعله هذا لا يقل خطورة
عن السرقة ومع ذلك فإن الكثير من القوانين لا تنص على تجريمها .
أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي : فالمشرع ليس في وسعه حصر جميع الأفعال
الضارة والمخلة بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة .
الرد : إن المشرع يستطيع أن يستعمل في نصوص التجريم والعقاب عبارات بحيث
يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد فلا تكون هذه العبارات ضيقة
بحيث يطبقه القاضي حرفياً ولا واسعاً بحيث يستغل القاضي هذه النقطة ويجرم
أفعال لم ينص عليه القانون وبالتالي إهدار حقوق الأفراد ، كما يمكننا القول
بأن الاستقرار القانوني يعلو على حماية المصالح المشتركة ، فإذا تبين
للمشرع أن فعلاً ما منافي للنظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بادر
إلى تجريمه بنص .
يتبع ....