الإشكالية السادسة:
الحياة بين التنافر والتجاذب
(العلاقات بين الناس).



المشكلة الثانية: الحرية والمسؤولية



مقدمة: طرح المشكلة


إن القراءة الأولية للقضية المطروحة، تقودنا مباشرة إلى القول بأن المشكلة
في الحقيقة مزدوجة، تدعونا تارة، إلى الانطلاق من الحرية كشرط لتأسيس المسؤولية،
وتارة أخرى، إلى اعتبار هذه المسؤولية شرطا يبرر ويستوجب وجود الحرية.



I- كيف يمكن اختزال المشكلة في الشرط (الحرية) لا في المشروط
(المسؤولية)؟


وهذا يعني أن الحديث عن المسؤولية لا يستقيم إلا بوجود الحرية. ولنا أن
نسأل: هل حقيقةً، الإنسان حر أم مقيد؟ وإذا كان حرا، فكيف نتعرف على أنه في أفعاله
يتصرَّف بكل حرية؟ في الأمر أربعة مذاهب: مناصرو الحرية، ونفاتها ، وأهل التحرر.


أولا: عرض
رأي مناصري الحرية ومناقشتُهم


1- عرض رأيهم



إن حرية مبدأ مطلق لا يفارق الإنسان؛ وهو - في أن يكون حرا في اختياره لأفعاله،
وتارة، في شعوره أو إرادته صاحبةِ القرار.


أ- يعبر
أفلاطون عن تصوره لهذا المبدأ، في صورة أسطورة، هذا ملخصها: إن آر، قد نسوا بأنهم
هم الذين اختاروا مصيرهم، ويأخذون في اتهام القضاء والقدر في حين أن
"الله" بريء.


ب- ويذهب
المعتزلة إلى أن شعور المرء أو إرادته هي العلة الأولى لجميع أفعاله، فهو يحس من
نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف: فإذا أراد الحركة تحرك، وإذا أراد
السكون سكن. ويعتقدون أن القول بأن الإنسان مسؤول ومحاسَب على أفعاله، حجةٌ على
عدل الله، فالإنسان عندهم، لا بد من أن يكون خالقا لأفعال نفسه، ، اذن يثبتون
الحرية بدليل التكليف والحساب والعقاب يوم القيامة وآيات اخرى.


ج- وكان هذا
أيضا، موقف ديكارت حيث قال: "إن حرية إرادتنا يمكن أن نتعرف عليها بدون أدلة،
وذلك بالتجربة وحدها التي لدينا عنها".


د- يذهب كانط إلى أن الحرية علِّية معقولة متعالية
ومفارقة للزمن؛ وليس بدعا أن يكون الإنسان حرا ومسؤولا .


هـ يرى برغسون أن الحرية هي عين "ديمومة"
الذات، و"الفعل الحر يصدر في الواقع عن النفس بأجمعها"، وليس عن قوة
معينة تضغط عليها أو عن دافع بالذات يتغلب على غيره. والديمومة عبارة عن تغير
مستمر بحيث لا يمكن أن تتكرر حالتان متشابهتان تمام التشابه؛ وهذا يعني أن العالم
النفسي لا يخضع إطلاقا لتلك الحتمية العلمية التي يكشف عنها قانون العلية. فالحرية
ليست موضوعا للتفكير أو التحليل؛ "إنها معطًى مباشرٌ للشعور". يقول
برغسون: إن الفعل الحر ليس فعلا ناتجا عن التروِّي والتبصر. إنه ذلك الفعل الذي
يتفجر من "أعماق النفس".


و- ويقول
سارتر: "إن الإنسان لا يوجد أولا، ليكون بعد ذلك حرا، وإنما ليس ثمة فرق بين
وجود الإنسان ووجوده حرا" و "إنه كائن أولا، ثم يصير بعد ذلك هذا أو
ذاك". إنه مضطر إلى الاختيار والمسؤولية. اذا: الحرية بديهية.


2- مناقشة
رأيهم


إن القول بحرية مطلقة تتحدى قوانين الكون ولا تحدها أسباب ومؤثرات، لضرب من
الخيال. فليس الإنسان الحر من يختار دون مبرر من المبرارات ولا سبب من الأسباب.
وإنْ هُو اختارَ، لا يصنع ذلك خارج الحتميات التي تحاصره من كل جهة. ولهذا، فتعريف
الحرية بأنها غياب كل إكراه داخلي أو خارجي، تعريف ميتافيزيقي لا وجود له في
حياتنا الواقعية.


وشعورنا بأننا أحرارٌ مصدر انخداع
وغرور. يقول سبينوزا: يظن الناس أنهم أحرار لأنهم يدركون رغباتهم ومشيئاتهم،
ولكنهم يجهلون الأسباب التي تسوقهم إلى أن يرغبوا أو يشتهوا. ويقارن سبينوزا
الشعور بالإرادة الحرة بحجر رُمي إلى الفضاء وهو حجر ـ فيما يقول ـ لو كان يتوفر
على شيء من الشعور لظن في أثناء رميه وسقوطه نحو الأرض، أنه يقرر مسار قذفته
ويختار المكان والوقت الذي يسقط به.


ج- أما الحرية التي يبحث عنها برغسون،
فهي حرية الفرد المنعزل عن الآخرين.


د- إما سارتر ينفي الحرية من حيث أراد أن
يثبتها. وهذا الموقف هو أيضا، خيالي.


ثانيا: عرض آراء نفاة الحرية من حتميين وجبريين،
وأهل الكسب والتحرر ومناقشتُها


1- عرض آرائهم


أ- وذلك لأن مبدأ الحتمية قانون عام يحكم العالم..
أما الحتميات التي يخضع لها الإنسان فمتعددة، منها:


*
الحتمية
الفيزيائية: حيث إن الإنسان لا يعدو أن يكون
جسما، يسري عليه من نظام القوانين ما يسري على جميع الأجسام: فيخضع لقانون
الجاذبية ويتأثر بالعوامل الطبيعية


*
الحتمية
الفيزيولوجية: عضوية من القوانين والعليات
البيولوجية مثل البنية النوعية لجسمه حاملا لمعطيات وراثية تتعلق بالعتاد
الكروموزومي الوراثي، كالجنس، الجسد الخ.


*
الحتمية
الاجتماعية: يحدد علم الاجتماع العادت والتقاليد
والضمير الجمعي، وهو بمثابة القانون القسري الذي تتحدد بموجبه سلوكاتنا.


*
الحتمية
النفسية: حسب التحليل النفسي، إنها المرآة
العاكسة أيضا، للرغبات المدفونة والمكبوتة في لاشعورنا. وهو تصور فرويدي.


ب- والقول بالقضاء والقدر (أو الجبرية) يقيم
هو الآخر، عددا من العقبات في وجه الحرية. ومن ذلك، أنه يَعتبر المستقبل محددا
تحديدا أزليا، وأن كل ما يحصل هو قضاء وقدر ومكتوب مهما فعلنا. يعتقد أنصار
الجبرية الخالصة عند المسلمين (أو الجهمية) أن الإنسان في أفعاله، لا إرادة له ولا
اختيار؛ وإنما يخلق الله فيه الأفعال على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب
إليه الأفعال مجازا، كما ينسب إلى الجمادات. فكما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء
وتحرك الحجر وطلعت الشمس وتغيمت السماء، كذلك يقال: سافر محمد ونجح علي وأبدع
عمرو. ومع ذلك، فالعبد مسؤول أمام خالقه يوم الوعد والوعيد، "وهو اللطيف
الخبير".


2- مناقشة آرائهم


أ- إن القول بالحتمية لا يعني تكبيل الإنسان ورفع
مسؤوليته. فهناك فرق بين عالَم الجماد وعالم الإنسان.


ب- إن مثل هذا الأسلوب الذي يستخدمه أهل القضاء
والقدر، يدعو إلى التعطيل وترك العمل والركون إلى القدر، وما قيل في مناقشة أهل
الجبر يمكن سحبه على الأشاعرة ومن نحا نحوهم.


د- أما من
يقول بالتحرر فإنه ينطلق من مصادرة، وهي لا يستطيع التخلص منها كلية بمفهوم
التسخير ولا التخلص منها مطلقا بمفهوم
الانفلات من كل حتمية، ومع ذلك، فهو صاحب القرارات وكائن المسؤوليات.


أنصار القول بالتحرر بدل البحث هل نحن أحرار أم لا- وفي سياق القول بالتحرر، يذهب
الرواقيون إلى أن الحرية ليست معطًى أوليا في ظل عالم مجبر، وإنما هي تُكتسب بالكد
والعمل على أساس العيش على وفاق قوانين. وتحرُّرُنا يقاس بقوة أو ضعف أعمالنا
وإنجازاتنا.


ويدعو ك. ماركس ـ من أجل تحرر الإنسان من كل نير وكل استغلال وتغيير العالم
ـ إلى امتلاك العلم لاكتشاف القوانين الموضوعية التي تُسيِّر الكون وتتحكم في
حياته الاجتماعية. وفي سياق التحرر، يرى مونيي الفيلسوف الشخصاني أن "كل
حتمية جديدة يكتشفها العالِم تُعد "نوطة" تضاف إلى سلم أنغام
حريتنا"، وأن حريتنا ليست سوى غزو مستمر. ومنه فالحرية ليست حقيقة معطاة بل
عمل متواصل للتحرر من كل الحتميات.


II- وكيف يمكن رد حقيقة المشكلة إلى الْمَشروط لا إلى
الشرط؟ هل يعقل
الحديث عن شيءٍ يتوقف ثبوته أو نفيه على مجهول؟


أولا: ماذا لو افترضنا أن الشرط ثابت مع أهل
الحرية؟


في الاختيار. وفي هذه الحالة، ألا يمكننا القول
بأن الحرية مشروطة بالمسؤولية، وأن الإنسان حر لأنه مسؤول؟


ثانيا: أليس من الشرعي طرح قضية المسؤولية قبل
طرح قضية الحرية؟


فلاسفة الأخلاق يرون بأن التكليف يسبق الحرية


يقول المعتزلة: إن الإنسان لو لم يكن حرا، لكان
التكليف سفها ولبَطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب. فلا يصح عقلا أن تقول لمن ليس
حرا: افعل ولا تفعل! لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها.


وفي سياق الإلزام الأخلاقي، يصرح كانط بأن الواجب يتضمن الحرية: "يجب
عليك، إذن تقدر".لا نستطيع أن نتحقق من وجود الحرية عن طريق الرجوع إلى
التجربة السيكولوجية أو عن طريق البرهان العقلي. فالواجب هو الذي يسمح لنا بأن
نتصور امتلاك الإنسان لحرية معقولة تعلو نطاق الظواهر، وإلا لما كان هناك موضع
للحديث عن قانون أخلاقي.


هذا، والمسؤولية تتجلى بوجه أخص وأوضح في
العقوبة. إن العقوبة حسب التصور الكلاسيكي، تبرَّر أخلاقيا، لأنها مرتبطة أشد
الارتباط بالقانون الأخلاقي نفسه. يقول لايبننز: "هناك نوع من العدالة ليس له
قطعا غرض التعديل ولا غرض المَثَل ولا حتى غرض إصلاح الشرور. هذه العدالة لم تقم
إلا على التوافق الذي يستلزم ضربا من الرضا (أو الإرادة) في التفكير عن فعل سيء.


ولقد اهتم جملةٌ من العلماء بدراسة أسباب ظاهرة
الإجرام. بين الطرح الكلاسيكي الذي يطالب بالردع والقصاص والتيار الوضعي الاصلاحي.


ولقد تواصلت الجهود لمكافحة الجريمة على يد علماء
إيطاليين أمثال لامبروزو وغاروفالو وأنريكو فيري. ولم يعد تقسيم المتهمين عند
تصنيفهم، إلى فئتين متميزتين: فئة المسؤولين من جهة، وفئة غير المسؤولين من جهة
أخرى، وإنما إلى من يستحق القصاص، ومن يستحق العلاج وربما من يسحق التطعيم
والتحصين، بصفتهم جميعا كائنات مسؤولة. وأخذ الدور التربوي شيئا فشيئا، يحتل
الصدارة في العقوبات.


III- ألا يتمثل مصدر المشكلة وحلها في عظمة الإنسان؟


أولا: عظمته في كونه كائن القيم لأنه حضين المسؤولية وراعيها


يُعرف الإنسان بخاصية المسؤولية أكثر منها بخاصية
الحرية. وتظهر بذورها منذ الطفولة فإن المسؤولية تسبق الحرية و أحيانا لا يطرح
فيها شرط الحرية..


ولهذا، فالمسؤولية تنصب على الإنسان أولا، بدون التساؤل عن شروطها، لأن
الشخص يعتبر العلة الأولى في القضية؛ ثم شروطُها ـ كالحرية مثلا، والتمييز بين
الخير والشر والإرادة ـ تأتي لإنصاف العدل وتبرير الحكم.


ثانيا: عظمته في كونه خليفة الله في الأرض مكلف بمهمة


نحن أمام إشكالية لا تعرف طريقها نحو الحل إلا بالرجوع إلى العبرة من خلق
الإنسان ومن تفضيل الله له، لينظر الله كيف يتصرف هذا الإنسان خيرا أو شرا،
فيعامله على حسب عمله. وإنه مُكرَّم ومكلف أصلا. يقول تعالى: "ولقد كَرَّمنا
بني آدمَ وحَمَلْناهم في البَرِّ والبحر، ورزقناهم من الطيِّبات وفضَّلْناهم على
كثيرٍ مِمَّن خَلَقْنا تفضيلا" (الإسراء، 70)"، ويقول أيضا: "إنَّا
عَرضْنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أن يَحْمِلْنَها
وأَشْفَقْنا منها، وحَمَلها الإنسانُ، إنه كان ظَلُوما جَهُولا" (الأحزاب،
72).


خاتمة: حل
المشكلة


إن موضوع المسؤولية والحرية يرتبط أشد الارتباط بجوهر الإنسان. فكما أننا
نقول في مجال الفلسفة، إن الإنسان حيوان عاقل ـ مهما كانت حدودُه الزمانية
والمكانية، ومهما كانت ظروفه وسِنُّه ـ نقول أيضا، إنه كائن مسؤول، بقطع النظر عن
وضعه وأحواله وسِنِّه. ومهما كانت عبقرية المفكرين في حصر مشكلته وضبطها، فإن
لعظمة هذا الإنسان بالنظر إلى سائر الكائنات، سرا يزيده اعتبارا وكرامة في أعين
المؤمنين بالخالق والفضوليين في إجلاء خباياه. ويكفيه فضلا، أنه مهما كانت تبعات
أعماله خطيرةً، فإنه يبقى متشرفا بأمانة المسؤولية، وغايةً للإنسانية جمعاء.


أسئلة تقويمية:


نص : علاقة الحرية بالضرورة فريديريك أنجلز، ص 359.



هل الحرية حالة شعورية أم عمل للتحرر؟



هل القصاص مشروع لعقاب المجرم ؟